هولندا… محاكمة الإسلام

 


 

 

 

kamal.bilal@hotmail.com

بدأت في هولندا محاكمة تعد من أهم المحاكمات في تاريخ البلاد، حيث يمثل «خرت فلدرس» رئيس حزب الحرية اليميني أمام القضاء بتهمة إهانة المسلمين وممارسة التمييز ضدهم والحض على كراهيتهم، وذلك على خلفية تصريحاته التي اعتبر فيها الدين الإسلامي معتقداً فاشياً وشبه القرآن الكريم بكتاب الزعيم النازي أدلف هتلر (كفاحي) وطالب بحظر تداول القرآن إلا في حالة تنقيحه وحذف الآيات التي يعتبرها تحرض على العنف. والمذكور هو نفس الشخص الذي سبق وأنتج فيلم (فتنة) المسيء للإسلام، الذي ربط فيه بين الإسلام والإرهاب ولم يتصد له العالم الإسلامي عملا بالحكمة القائلة بأن السحاب لا يضره نبح الكلاب. تنبع أهمية المحاكمة من أنها المرة الأولى التي يحاكم فيها سياسي هولندي على خلفية تصريحاته ومواقفه، وتكمن أهمية توقيت المحاكمة في أنها تأتي في وقت يعاني فيه المسلمون من الاستكانة والهوان دوليا بعد أحداث 11 سبتمبر المشئومة إضافة لتجرأ بعض الغربيين على مهاجمة الإسلام بمناسبة وبغير مناسبة. ويعكس اهتمام سفارات الدول العربية والإسلامية المعتمدة لدى هولندا بهذه المحاكمة ما توليه الدول الإسلامية من أهمية للمحصلة النهائية للمحاكمة.  

يحاول المتهم الاستفادة القصوى من المحاكمة لتحقيق مكاسب سياسية خاصة وأن حزبه اليميني نجح أخيراً في الحصول على أربعة مقاعد في البرلمان الأوربي، كما سيخوض الحزب الانتخابات المحلية الهولندية في شهر مارس القادم. وضمن هذا السيناريو المرسوم تظاهر أمام مقر المحكمة مئات من مؤيدي المذكور، احتشدوا من مختلف دول أوربا لدعمه على أساس أن ما صرح به يندرج تحت حرية التعبير ويدفعون بتمتعه بحصانة من الملاحقة القضائية بحكم عضويته في البرلمان. وتظهر نية المتهم في الاستفادة من المحاكمة كدعاية سياسية في أنه يحاول أن يجعل منها محاكمة للدين الإسلامي وليس لسوء فهم بعض المتطرفين له، فقد طالب المتهم بمثول سبعة عشر شاهد دفاع، منهم فضيلة الشيخ العلامة «يوسف القرضاوي» والإيراني آية الله «أحمد جنتي» إضافة لعدد من الشخصيات المثيرة للجدل، من ضمنهم مرتدون عن الإسلام وغربيون متخصصون في مهاجمة الدين الإسلامي، ويهدف المتهم من الاستماع لشهادة هؤلاء إثبات أن الإسلام يدعو لمفاهيم تخالف الثقافة الغربية مثل تعدد الزوجات وعدم تحديد سن أدنى لزواج الفتيات وحق الزوج في ضرب زوجته الناشز ومعاقبة الشواذ جنسيا وتحريم قتل الرحمة للمرضى الميؤوس من شفائهم.

من المعروف عن المذكور أنه يستثمر عادة في تناقضات المجتمعات الإسلامية ويتتبع عوراتها المتمثلة في ممارسات بعض الأفراد الذين ينتسبون للإسلام ويقومون بأفعال تخالف سماحته ضد غير المسلمين، مما يلهب الاحتقان بين الطوائف الدينية في البلاد الإسلامية، ومن أمثال هؤلاء المجرم الذي أطلق النار على الأقباط في مصر عند خروجهم من قداس ليلة ميلاد المسيح فقتل منهم ستة، وقرار الحكومة الماليزية حظر استخدام  اسم الجلالة (الله) على المواطنين المسيحيين وإلزامهم باستخدام  مفردة (الرب). والمفارقة في هذا القرار أنه يجعل اسم (الله) ماركة تجارية مسجلة باسم المسلمين وذلك بالرغم من أن استخدامه من جانب المسيحيين فيه اعتراف ضمني منهم بوحدانية المعبود في الديانتين. هذا إضافة إلى أن تدخل الدولة في مثل هذه الأمور يقدح في حياد أجهزتها الرسمية تجاه مواطنيها على أساس ديني، كما يعطي الفرصة لمن يرغب في الاصطياد في المياه العكرة من أمثال المتهم للزعم بهتانا وزورا بعدم سماحة الدين الإسلامي تجاه الطوائف الدينية الأخرى.

تندرج ظاهرة المذكور ضمن موجة تحالفات جماعات اليمين القومي المتخوفة على الهوية الأوربية للقارة من المهاجرين عامة، ورجالات الدين المسيحي المتخوفين على الهوية المسيحية للقارة من تزايد أعداد المسلمين خاصة من جهة أخرى، وينفخ في نار هذا الخوف المرضي لبعض الأوربيين من أسلمة المجتمع الأوروبي سياسيون وأشباه مفكرين من أمثال المتهم عبر ترويج مبدأ الشاعر الإنجليزي «رديارد كبلنغ» (بأن الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا)، ويخوفونهم بمزاعم بأن هدف المسلمين تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في أوربا مما سيجعل الأوربيين الأصليين يشعرون بالغربة والعزلة في بلادهم، ويحاول هؤلاء اختزال الدين الإسلامي في شكل أيقونات دينية تخيف المواطن الغربي عادة مثل الحدود والحجاب والنقاب ومآذن المساجد، وهذا النهج يمكن تسميته بالتنصير السلبي بمعنى أن رجال الدين المسيحي في ظل فشلهم في إقناع الأوربيين اللا دينيين بممارسة الشعائر المسيحية يكتفون بتنفيرهم من الإسلام (سهر الجداد ولا نومه). وفاقم من هذا الخوف إعلان الكنيسة الكاثوليكية أن أعداد المسلمين في العالم فاق عدد الكاثوليك نتيجة لاعتناق كثير من الغربيين الإسلام وعزوف البعض عن المسيحية. وساعد في تغلغل وساوس المواطن الأوربي العادي جهله بحقيقة الإسلام، مما هيأ الجو للمحرضين لتحقيق بعض النجاحات، فالخوف هو الابن الشرعي للجهل،  وأسهم في ذلك عدم تصدي مفكرين مسلمين مدركين لطبيعة المجتمعات الغربية في توضيح أن أغلبية المسلمين الذين يقطنون أوربا استطاعوا تطوير فقه إسلامي واقعي وليد للتاريخ والجغرافيا الأوربية بذات المرجعيات الإسلامية ولكن بمنهجية مغايرة لا تعرف تحنيط النصوص، وهذا الفهم المتطور للإسلام يؤهلهم للعب دور الجسر بين الثقافتين على أساس تقاسم المواطنة والتعايش مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى مع الاحتفاظ ببعض الخصوصية دون تقوقع، وهو فهم يختلف تماما عن فهم متطرفي كهوف تورا بورا. ويجهل القوميون المتخوفون على الهوية الأوربية من المسلمين، أن الثقافة الإسلامية أسهمت في تشكيل الثقافة الأوربية المعاصرة نتيجة لعمليات الترجمة في عصر النهضة، وقد فطن لهذا الواقع من قبل المفكر «ابن رشد» حين أشار إلى أن الثقافة ملك للبشر جميعا بقوله (الفكر الإنساني في جوهره واحد لا يوجد ما يسمى بالثقافة الصادرة والثقافة الواردة).

محاولات «خرت فلدرس» وأمثاله الذين يحاولون إطفاء نور هذا الاندماج الإثرائي للمسلمين ستفشل لا محالة لجهل هؤلاء بطبيعة هذا الدين الذي هو كالذهب يزداد وهاجا ولمعانا كلما تعرض لنيران أعدائه، وعليهم قراءة التاريخ واستنهاض العبر من أضابيره للتصدي لمشاكل الواقع الحالي الذي يشير إلى أن الثقافة الغربية تحتاج في هذا الوقت بالذات إلى المبادئ السمحة التي أرساها الإسلام لتساعدهم من الخروج من أزماتهم الاجتماعية والمالية، وقد فهم ذلك حكماء الغرب من أمثال الأديب الروسي «ليو تولستوي» حين قال: (يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح في وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة). وعلى المستوى المعاصر خاطب الكاتب «بوفيس فانسون» مدير تحرير مجلة «تشالينجز» الأمريكية البابا بنديكيت السادس عشر بشأن الأزمة المالية العالمية قائلا: (أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وببنوكنا لأنه لو حاول القائمون على بنوكنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود). كما أعرب «روان وليمس» كبير أساقفة الكنيسة الإنجليكانية بكانتربري عن اعتقاده بأن تطبيق الشريعة الإسلامية في بريطانيا في بعض المجالات أمر حتمي، وطالب البريطانيين بمواجهة الحقيقة، وأعتبر أن الرأي العام في الوقت الراهن لا يزال تحت سطوة بعض التقارير الإعلامية المغرضة.

    

 

لاهاي

 

آراء