القتل الخطأ .. من السودان إلى هولندا … بقلم: كمال الدين بلال
10 March, 2010
شرح لنا الدكتور «أمين مكي مدني» ونحن طلاب في كلية القانون بجامعة الخرطوم في أواسط ثمانينيات القرن الماضي القتل الخطأ في القانون الجنائي، وكانت محاضرة مثيرة تحفظ فيها سعادة الدكتور على انطباق تعريف القتل الخطأ الوارد في قانون العقوبات الجنائية لعام (1983) على بعض حالات الموت الناتج عن حوادث السير، ثم أشار إلى ما معناه أن استخدام كلمة قتل تتطلب توفر درجة من درجات العنصر المعنوي المتعلق بالقصد أو العلم....، بينما ينتفي هذا العنصر في حوادث السير. وتساءل الدكتور عن مغذى جعل القتل الخطأ ضمن قانون العقوبات وليس قانون المعاملات المدنية. حدث هرج ومرج داخل قاعة المحاضرات مصحوب بحماسة دينية لما فهمه البعض من تحفظ للدكتور على اسم القتل الخطأ على أساس أنه لا يجوز مناقشة صحته من عدمه لكونه ورد بهذا الاسم في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنًا إِلَّا خَطَـًا وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَـًا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ) وقد أضطر الدكتور لإعطائنا استراحة أشبه ما تكون بالوقت المستقطع في بعض الرياضات لتهدئة الأجواء، وبعد الاستراحة طالبنا الدكتور بحسن الاستماع والالتزام بأخلاقيات الحوار الهادف وقبول الرأي الآخر خاصة وأن دراسة القانون تتطلب تلك الصفات، ثم أكمل المحاضرة دون الرجوع للنقطة الخلافية.
عملت بعد تخرجي في سلك التدريس بقسم الشريعة الإسلامية في نفس الكلية، وبعد ذلك عملت في مجال المحاماة وترافعت في قضايا قتل، كل هذه التجارب لم تسعفني في فهم ما قصده الدكتور بالضبط في تلك المحاضرة، وأستمر ذلك الحال إلى أن وقعت حادثة سير مؤسفة توفى على إثرها أحد معارفي في هولندا قبل حوالي عام. فقد طلبت مني أرملة المرحوم واحد أصدقائه اصطحابهما إلى وزارة العدل بحكم عملي السابق بها للتعرف على قرار الوزارة بشأن ملاحقة سائق السيارة أمام القضاء. وأسمح لي عزيزي القارئ أن أشرح لك الظروف التي أحاطت بتلك الحادثة المأساوية التي هزت الجالية السودانية بلاهاي، فالمتوفى لم ير أهله خلال عشرين عاماً، وقد قام أهله بإتمام مراسم زواجه وأرسلوا له زوجته إلى هولندا، وتوفى الرجل وزوجته حامل في شهرها الأخير، وكان المتوفى قد أوصى في حياته بأنه إذا مات في هولندا أن يدفن فيها ولا يتم إرجاع جثمانه إلى السودان في صندوق وذلك حتى ترتبط ذكراه في مخيلة أهله بالهيئة التي غادرهم عليها.
توجهنا إلى مقر وزارة العدل بصحبة طفلة المرحوم التي ولدت بعد الوفاة، وشرح لنا وكيل النيابة ملابسات الحادث مستعيناً بصور فوتوغرافية مؤلمة كانت في حوزته، وأكد أن الشهود أثبتوا أن إشارة المرور كانت خضراء لسائق السيارة المتسبب في الوفاة وكانت حمراء لمنطقة عبور المشاة التي حاول المتوفى قطعها ركضا إلى الجهة المقابلة، وأكد أن البحث أثبت أن السيارة مؤمنة ومرخصة وفي حالة تقنية جيدة ولم يكن السائق متجاوز للسرعة القانونية المسموح بها. وخلص إلى أن الوزارة قررت عدم ملاحقة سائق السيارة أمام القضاء الجنائي لأن الخطأ كان من المرحوم بينما قام سائق السيارة بكل ما هو مطلوب منه من حيطة وحذر. بعد ذلك الشرح المستفيض سألت وكيل النيابة عن فرص الحصول على تعويض من شركة التأمين أو ملاحقة السائق عبر رفع قضية مدنية خاصة وأن هنالك أطرافاً أخرى متضررة من موت المتوفى، فالطفلة حرمت من رؤية أبيها، كما أن المتوفى يعول أهله في السودان. رد وكيل النيابة بأن الفرصة في كسب قضية مدنية أفضل حالاً بالرغم من ضعف احتمال نجاحها لنفس الأسباب التي ذكرها، كما أشار إلى صعوبة مساهمة شركة التأمين في دفع التعويض لعدم خطأ السائق، وطمئن أرملة المرحوم بأن الدولة ستقوم بضمان احتياجاتها وطفلتها من خلال تغطية نظام الضمان الاجتماعي.
خرجنا من وزارة العدل صامتين إلا من صوت لهو الطفلة الصغيرة التي أبكتني ضحكاتها البريئة. وقد قادتني خواطري المتضاربة لاسترجاع محاضرة الدكتور «أمين مكي مدني» التي مر عليها ربع قرن من الزمان. وبدأت فكرته تتضح لي بعض الشيء، ففي تلك الأيام لم تكن شركات التأمين قد طورت عملها بعد بما يتماشى مع قانون العقوبات الجديد آنئذ، ولم تكن بوليصة التأمين (إجباري أو شامل) تغطي دية القتل الخطأ.
من المعلوم أن أسباب الوفاة الناتجة عن حوادث السير لها عدة سيناريوهات منها أن يكون الحادث نتيجة لخطأ الجاني دون وقوع المتوفى في خطأ، والثانية أن يكون الطرفان قد اشتركا في الخطأ بنسب متفاوتة. والثالثة أن يخطئ المتوفى وحده دون وقوع الطرف الآخر في خطأ، والرابعة أن لا يخطئ أي منهما وتكون الحادثة ناتجة عن تقصير طرف ثالث مثل وجود عيب في الطريق أو إشارة المرور أو فعل خارج عن إرادة الطرفين كالصواعق وبقية الأفعال الربانية.
في فهمي المتواضع للآية الكريمة (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنًا إِلَّا خَطَـاً وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَـًا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ)، تغطي الحالتين الأولى والثانية، فعبارة (وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَـًا) تتحدث عن القاتل وتنسب إليه كل الخطأ أو بعضه. وفي ظني وليس كل الظن أثم أن الحالتين الثالثة والرابعة اللتان ينتفي فيهما وقوع الطرف المتسبب للوفاة في خطأ لا تغطيهما الآية الكريمة مما يستوجب أن يتم إدراجهما تحت الأفعال التي ينظمها القانون بموجب اجتهاد المشرع. ونص المادة (132) من قانون العقوبات الجنائية لعام (1991) يعضد هذا الزعم حيث نصت المادة على (أنه يعد القتل قتلاً خطأ إذا لم يكن عمداً أو شبه عمد وتسبب فيه الجاني عن إهمال أو قلة احتراز أو فعل غير مشروع)، وكما هو ملاحظ فإن المادة اشترطت خطأ الجاني ولم تشر من قريب أو بعيد لوضع المجني عليه.
يقيني أنه إذا صح هذا التحليل فأن رأي الدكتور «أمين مكي مدني» بنقل القتل الخطأ إلى قانون المعاملات المدنية منطقي لعدة أسباب، أولها أن عبء الإثبات المطلوب لإثبات المسؤولية المدنية أخف بكثير من المطلوب في القضايا الجنائية. ثانيا جعلت الفقرة (2) من المادة (45) من نفس القانون واجب دفع دية القتل الخطأ يقع على عاتق الجاني وعاقلته (أي أهله وشركة التأمين أو رب عمله)، وإلزام العاقلة بالمشاركة في دفع الدية يخالف مبدأ شخصية العقوبة في الفقه الجنائي. ثالثا درجت المحاكم على قبول رفع المتضرر لدعوى مدنية مصاحبة ضد شركة التأمين المؤمن لديها سيارة الجاني. وهذا الأمر يجعل من دية القتل الخطأ تعويض لأهل القتيل أكثر منه عقوبة جنائية للقاتل. وما يعزز هذا الفهم أن القانون الجنائي نص في الفقرة الخامسة من نفس المادة على أن الدية تستوفى وفقاً لأحكام قانون الإجراءات المدنية. رابعا في جعل القتل الخطأ ضمن القانون المدني حماية للطرف المتسبب في الوفاة من أن يرتبط اسمه بجريمة قتل في سجله الجنائي بالرغم من عدم وقوعه في خطأ، ويصبح هذا منطقيا إذا لم تستخدم المحكمة سلطتها التقديرية وفقا للفقرة (2) من المادة (132) ومعاقبة الشخص المعني بالسجن مدة لا تتجاوز الـ (3) سنوات.
بالرغم من أن الفقرة (5) من المادة (42) من نفس القانون تعطي المحكمة سلطة تخفيض قيمة الدية على حسب نسبة مساهمة المجني عليه في الخطأ إلا أننا لم نسمع بسابقة قضائية واحدة قضت فيها المحكمة بعدم أحقية الورثة في الدية لكون المجني عليه أخطأ حصرياً أو أن الحادثة لم تكن نتاج لخطأ أياً من الطرفين. ويبدو لي أن الممارسة القانونية السودانية تهدف من توسيع نطاق القتل الخطأ لحماية مصلحة ورثة المتوفى الذين يعولهم في جميع الحالات، وربما ترجع هذه السياسة لطبيعة نظام التكافل الاجتماعي السائد في المجتمع السوداني الذي يضمن أن أهل المتسبب في الموت سيشاركون في دفع الدية في حالة رفض شركة التأمين الدفع أو لم تكن السيارة مؤمنا عليها، وذلك عملا بالقاعدة الشرعية (الغرم بالغنم) التي تقر مبدأ أن الورثة طالما يرثون الشخص في حالة وفاته فيجب عليهم مشاركته في أضراره.
تكمن المشكلة في أن هذه الممارسة لا تراعي مصلحة المتسبب في الموت غير المخطئ وشركة التأمين المؤمن لديها، فمن الناحية العملية ليس كل السيارات التي تسير في الطرقات مؤمنة، فبعضها انتهت بوليصات تأمينها لعدم السداد أو التجديد بينما ما زال ترخيصها سارياً وبحوزة السائق بوليصة تأمين تبدو للعيان أنها سارية المفعول، والغريب أن بعض رجال الشرطة معنيين أكثر بمنح الغرامات على عدم الترخيص أو التأمين بدلا عن حجز السيارة المعنية لمصلحة السلامة العامة. هذا الوضع يقودنا لواقع مرير وهو أن عدداً كبيراً من حوادث السير المميتة تحدث من سيارات غير مؤمنة بصورة صحيحة لحظة وقوع الحادث، وكما هو معلوم فإن الشخص غير القادر على تأمين وترخيص سيارته في العادة غير قادر على دفع قيمة الدية. ولحل هذه المشكلة يجب تفعيل تنفيذ قوانين الحركة الخاصة بالتأمين والترخيص وإلا سيكثر عدد الطارقين على أبواب ديوان الزكاة طلبا للمساعدة في دفع الدية بصفتهم يندرجون تحت بند الغارمين.
غريبة هذه الدنيا التي نتعلم فيها من المهد إلى اللحد، ففكرة بسيطة أخذت مني أكثر من نصف عمري لفهمها، بينما كان في مقدورنا كطلاب آنذاك الصبر لخمس دقائق إضافية لنفهمها إذا كنا تركنا صاحبها يكمل كلامه ويوصل لنا فكرته بدلاً عن الهرج والمرج، فلسعادة الدكتور «أمين مكي مدني» مني وزملائي العذر حتى يرضى.
لاهاي
kamal Bilal [kamal.bilal@hotmail.com]