كركبة …. بقلم: د. عمر بادي
21 May, 2010
عمود : محور اللقيا
ثمة ذكريات تقفز إلى المخيلة أحيانا من مخزون الذاكرة دون مقدمات , ربما بفعل رابط آني يستشعره العقل دون الشعور . مدينتنا حلفاية الملوك لا زالت تتمتع بالحس القروي رغم تضافر معالم المدنية عليها , ربما لهيمنة روح القبلية عليها و إستمرارية التقاليد و الصلات العشائرية فيها , اللهم إلا ما بدر عليها من تغيير طفيف بفعل الزمن و الحضور المحتم للغرباء . لقد سردت كثيرا في مقالاتي السابقة عن ذكريات و مواقف لأناس بسطاء عاشوا و يعيشون في حينا كانوا متفردين في حياتهم المحفوفة بتناقضات الظرف و الإستهتار و العنف و الحكمة . لا أدري و ربما أدري لماذا قفز إلى ذهني هذه المرة أخونا إبن الحي الشهير بلقبه ( كركبة ) .
كان شابا متهورا من النوع الذي ( تعجبه نفسه ) كما نقول , و نسبة لصلة القربى التي تربطه بساكني الحي , كان الناس يعاملونه بالحسنى داخل الحي و يتغاضون عن أفعاله المشينة , فهم يعرفون أنه أخرق , بل هو خارق في خرقه . منذ أن كان صغيرا كانت تجتاحه روح الشر فيتسلى بقذف الكلاب في الطرقات بالحجارة , و يضحك مستمتعا حين يفر الكلب و هو يئن من ضربات الحجارة . كان في المدرسة مشاغبا من الدرجة الأولى و ( فتوة ) على الأولاد يأخذ منهم مصاريف الفطور و يتوعدهم بالضرب إن هم إشتكوا للمدرسين . أما في ألعاب الطفولة فقد كان دائما هو الفائز , إن لم يكن بالحسنة ف ( بالرجالة ) و لا يهمه في ذلك ما يأتي به من تجاوزات و إفتراءات . كانت تستهويه قصص المغامرات و البطولات و لذلك نشأ مغامرا و بطلا , حتى مع إعتبار البعض أنه بطل و لكنّ باءه طالعة ! في سني شبابه الأولى كان يأتي في مباريات فريق الحي و يقطع خط الميدان جيئة و ذهابا و هو يشجع بأعلى صوته على طريقته , و طريقته كانت سب الفريق الخصم سبابا يصم الآذان حتى بذلك ( يتعقد ) لاعبوه و لا يجيدوا لعبهم , بل كان أحيانا يرميهم بحجارته التي ( تفلق ) الرؤوس و لا تخطيء , و دائما كان يتصدى له مشجعو الفريق الخصم و يأتي من يناصرونه من شيعته و يبدأ العراك .
كان يجتمع بالليل مع عصبته و كانوا يرخون آذانهم و يصيخون السمع , فإذا حملت لهم الريح أصوات حفل ما , نهضوا خفافا و ساروا تجاه الحفل . عند الدخول للحفل كان ( كركبة ) يتقدم عصبته حاملا عكازه ( المضبب ) و يدخل إلى حلبة الرقص يترنح طربا و نشوة فيتيقن الجميع أن حفلهم البهي قد شارف نهايته ! لقد كانت ل ( كركبة ) هواية محببة إليه و هي ( فرتقة ) الحفلات بإفتعال الشجار بسبب أية عكننة يحدثها له أحد الحضور . كان يبدأ الشجار هو ثم يتدخل أفراد عصبته و يناولون كل حجّازٍ عكازاً فتتصايح النساء و يتقافز الأطفال و يحتضن العازفون آلاتهم الموسيقية و يغادرون مع فنانهم خوفا من أن تنالهم العصي , و هكذا ينتهي الحفل ! أما عن ميكروفونات الحفل فقد كان صاحبها يضع عليها ( أمنية ) عند إستئجارها تعاد بعد الحفل إذا لم يصبها تلف ! الحفل كان حينذاك مكان إلتقاء للتوادد و للتشاحن أيضا , فكان كل صاحب ثأر يلتقي بصاحبه و هكذا كانت تقوم المشاحنات أحيانا فجأة و بدون أسباب حاضرة . أما الغرباء أصحاب الثأرات فكانوا يفضلون المراقبة من خارج الحي , حتى إذا ما خرج زولهم يوما من الحي إنقضوا عليه و أخذوا بثأرهم منه , و لذلك كان مثيرو المشاكل مثل ( كركبة ) أكثر حرصا في الخروج للأماكن غير المأمونة !
في حفل زواجي تقاطر الأهل و الضيوف إلى حوش الحفل و كلهم يمنون أنفسهم بقضاء أمسية بهيجة مع مجموعة الفنانين المشهورين الذين عم خبر مشاركتهم في الحفل , فالعريس مغترب و الكرم حاتمي . بعد بداية الحفل بقليل وجم الناس عندما شاهدوا ( كركبة ) و عصبته يقفون خلف العازفين و يتأبطون شرا . عند ذاك دعاني الأخ يحي و هو من أقوياء الحي بصحبة آخرين و ذكروا لي أنهم في اللحظة المناسبة سوف ينقضون عليهم و يأخذونهم إلى خارج الحوش و يوسعونهم ضربا , و لكنني قلت لهم أن هؤلاء قوم متمرسون و قد إختاروا أماكنهم خلف العازفين ليس إعتباطا و أي تحرك منكم سوف يجعلهم يبدأون الضرب بالعازفين , و لن تقوم للحفل قائمة بعد ذلك , و رجوتهم ان يتركوني أجرب معهم اسلوبا آخر .
ذهبت نحو ( كركبة ) و عصبته , و حييتهم و دعوتهم ان يدخلوا إلى حلبة الرقص وقدت قائدهم و انا أهز معه في الفنان و الراقصين , ثم أجلسته مع مجموعته في الكراسي الأمامية , و صار أهلنا يأتون و ( يهزون) فيه , كيف لا و هو إبنهم , و أتحفته الأخوات ب ( شبالاتهن ) , و هكذا إستمر الحال إلى نهاية الحفل , و كان أول حفل يحضره ( كركبة ) دون أن ( يفرتقه ) !
الذي حدث بعد ذلك أن تدارس كبار الحيشان في ( برش ) زاوية الصلاة في حينا أمر ( كركبة ) و إستبعدوا أي فعل سالب ضده حفاظا على الحي و مناسباته , بل أرادوا له أصلاحا , ففكروا كيف يكون ذلك , و أوكلوا أقربهم إليه فدعاه و تحاور معه و ساله لماذا لا يتزوج , فأجابه من أين , فدعاه أن يعمل ووظيفته جاهزة , فتم له ذلك , و لم يعد له وقت لعصبته فابتعد عنهم , و جمع مالا و تزوج و صار مسؤولا عن بيته و أولاده , و تصالح مع الناس الذين بدورهم غفروا له ما مضي .
يقول أهلنا الكبار : ( أدي بنتك للسفيه و ما تديها للخملة ) ! فمن الممكن للسفيه أن يترك سفهه و ( يستعدل ) , أما الخامل فلن يتغير و يترك خموله أبدا , لأنه يفتقد حرارة القلب .
omar baday [ombaday@yahoo.com]