أحمد تيراب: شاعرُ وِجدَانٍ يتحدى السجَّانَ ويَمدحُ السلطانَ ..بقلم: أسعد الطيب العباسي
Asaadaltayib@hotmail.com
فتى دار حمر الشاعر الرَنِم أحمد تيراب صاحب صوت شجي، فعندما ترتفع عقيرته بالنميم يغرقك في شجوه وحزنه وألمه، ويسوقك نحو حنينٍ دافقٍ وأفقٍ يَمْتَلِئُ عن آخره بالنشيج والشجن، أصوله الكردفانية أكسبته نبره محببة تألفها الأذن ويستمتع بها المتلقي وتلقي به في إتون الطرب الأصيل، ولد بدار حمر في أربعينيات القرن الماضي ونشأ فيها. وعندما انبثق فجر صباه حملته آماله وأحلامه وحبه النامي إلى الواحيات والحدبات بعدما تفجر ذلك الإرث في أعماقه، فأضحى من أساطين الهمباتة، يجوب الفيافي على صهوة جمله الكلس، مصطحباً المهند والكوما، وعلى لسانه غناء وفي أغواره تتمازج قيم الهمباتة وصوفية بديعة، الهمبتة ليست سياحة أو رحلة صيد ولا هي نزهة، إنما مغامرة لها إفرازاتها الخطيرة، فالموت أو السجن أقرب إلى الهمباتي من حبل وريده، ومن هنا بدأت تجربة شاعرنا تيراب مع السجن والسجان والتحقيق والقضاء والسلطان، وهي تجربة عاصفة ورحلة طويلة تفتقت معها قريحته عن اشعار أنبأت عن موهبةٍ شعرية عظيمة وأحاسيس رقيقة، فعندما واجه تيراب المتاعب والسجون، أخذ يخبرنا عن أسرارها وخباياها التي أضحت جزءاً من نظام حياته الجديدة، فعرفنا أن الصافرةَ التي تستعمل في السجن ذات أصل تركي، وأن التمام والمرور تدابير لازمة تنتظم السجن، وذلك من خلال رباعيتين لا تخلوان من الوصف المثير ومن إسقاطات حنينِهِ لرفقائه ولتلك الرواحل المشدودة نحو المغامرة، يقول :
َصفافير التُُّركْ بَعَـدَ التَّمام ضَرَبوهِـنْ
وسُيوفَ الهلاك لليوم القَبيحْ سَنّوهِـنْ
حِليل جّـنونا الدانو التِّيوسْ شَـدّوهِنْ
وبُكارَ الحَبَشْ مِـنَّ الحُدود جَابوهِـنْ
ويقول حاكياً عن حاله مستقوياً بشيخه الخنجر هازِئاً من حرسه المسلح بالبندقية (أم كماين):
كَـان أَمْـسيتْ نَقــول يـا الخَنْجَــرْ
وكـان أَصْبَحْ مردوم بالحديد ومجَــنزَرْ
المـنام زنـزانه والمـرور في العنبــرْ
والحرس دينكاوي مسك أم كماين وصَنْقَّرْ
وغَمَرَهُ الأسى عندما أدرك وهو خلف هذه الأبواب الحديدية، أن السجن يقف دائماً سداً منيعاً يحول بينه وبين محبوبته، وبينه وبين تلك الرهود والوديان والبوادي التي كان يجوبها ويجتازها على ظهر راحلته القوية، فأخذ يقول في أبيات رصينة:
الزول العـليْ جديَ البراري مَخَلَّقْ
نحنا فرقنا مِـنْ ركبة تيوسنا الشُلَّقْ
قفلونا فوق باباً حـديدو مَطــرَّقْ
مِن ضُهراً كبير لامِن حَمارنَا إتشرَّقْ
غير أن تيراب كان يمتلك يقيناً استمده من أعماقه المتصوفة، وشجاعة وصبراً ظل يدخرهما لمثل هذه المواقف، فأخذ يبدي تحديه للسجن والسجَّان في نبرةٍ قويةٍ ويقول:-
البِريـدو المَـولى لـينا كُـلـو نـِحنـا نَرِيدُو
قـول ليْ فـلانه مـقطـوع الـعَشمْ مـن سِيدُو
سِـجن النُـوبَه قَـام ليْ رَمـادو لـىِ تِهـدِِيدُو
نِحَنا جَرارقو يام قَرَّانْ نَلوك مُرُّو ونلاكْمُو حَديدُو..!
وعندما تستبد به الأشواق وتغمره ذكريات النهيض يحن لتلك الأيام فيضعف، وعند ذلك تثب صوفيته المكنونة، فيصرخ مخاطباً شيوخه ملتمساً العوده والخلاص فيقول:
إِنتـو عَـوك يــا أَهـل البَنايـا النُّـدَّرْ
تقيفوا عليْ أنا مـردُوم بالحـديدو مَجَنْزَرْ
عقيلةْ نافـع النَـدوَّه أم خـريفاً بَــدَّرْ
نَدْنُو بُلُودْهَا بالكَلسْ البِـزُومْ ومَـهَجـَّرْ
وهاهو يستعطف الأولياء الصالحين مرة أخرى لإنقاذه، ويوضح كيف أنه يشعر بالمهانة وكيف توشح بآلام الفراق، يقول:
مقطوعـة النصيب المِـن البـنات مَسـلوبَـه
هانونا النجوس فرقونا من بَكرة جِهينه ام رُوبَه
أنقـروا البيَّ يـا أهــل السِبحه واللاَّلوبَـه
وحَـلحِـلوا قيدي مِن سِجن التَعايسه النُوبَـه
وكم حنّ شاعرنا لمناحي النهيض البعيدة التي كان يدركها بجمله القوي، ولكن كيف السبيل إلى ذلك الآن وهو يقبع في سجنه ويرسف في أغلاله؟ لا سبيل إلى ذلك غير أن ينادي شيوخه علهم ينقذوه من هذه القيود وهذا السجن الذي يرى عداوته في وجوه يبدو عليها الكفر أو كما خُيِّل إليه:
بلداً فـوق بعـيد بعـيد مــشـوارْ
ما بدنوها غير كلساً جـرايدو كُبـار
أنقرو البيَّ أهل السبحه وأهل الطَّـارْ
حَلحِلوا قيدي مـن سِجنَ العدو الكُفَّارْ
ولا تنفك أشواق شاعرنا للنهيض تضربه بسوط من لهيب، فكم هو مشوق لنهب تلك النوق التي ترعى في وديانها، ولكنه مغلول اليد في هذا السجن اللعين، غير أنه يراهن على آماله عندما ينادي شيخ طريقته ليخلصه من هذا السجن ومن سجانه الغليظ عثمان، فيقول:
بَكَـرَه سِـيدهَا قَــامْ إتقـلدْ الوِديَـانْ
مِنها فَرقـنا والتُرُكْ قَفـلونا بيْ البَيبَانْ
شـيخ الطريق ود ريَّا في ام ضُـبَّانْ
يِفِكْ سَاجُورنا مِنْ مَغَصْ الغَتِيتْ عُثمَانْ
وهذا الضعف الذي يعتري شاعرنا وهو في محبسه، يستحيل إلى قوةٍ وصبرٍ عندما يخاطب محبوبته قائلاً:
مـا شُفتينا فَوق سِجن التُرُكْ يـا آمنه
من ضُهراً كَبير قَاموا اليَهود ليْ تمامنا
ليْ سِتَ الصُِّبا يـا مُوسى أَقروا سَلامنا
فـوق نَـار أُم لَهيبْ لابُد نَقضِِّي أيامنا
وكغيره من الهمباتة أصحاب القيم الأصيلة كان تيراب يحترم القبيلة ويخشي المرأة، فلا يفعل إلا ما يرضي القبيلة وإلاّ ما يسر المرأة، فلا مجال أمامه في أعمال الهمبتة سوى الصمود، فالهروب وسيلة تسقط دائماً من حساباته، ومواجهة الموت لا تسقطها حساباته أبداً، يقول:-
يومنَا القُمنَا خَتينا الكَدوسْ في خُشومنَا
ولا هَميـنا ولا قُـنا الكَـلام دَه بِلومنَا
مـا بنموتو كان اليوم بقى ما يومنـَا
ومـا بنفزُّو يام رُوبـه القَبيله تْسُومْنَا
ويقول:-
نحنا ساعه الحارَّه سيفنا سنين محل ما يصادفْ
وإن بِقَى فَزَينا ما بترضى أم فلج يا عواطـفْ
أهــلي العُــزازْ أهــل الدَّرَق والهاتِـفْ
رميت الخـط وأصـبَّحْ لي طريقهم واقــفْ
ويقول تيراب وهو يتمسك جيداً بشجاعة الهمباتة وصمودهم العجيب وقيمهم الثابتة ويفخر بنفسه:-
أنا مـاني العـيفه البيْ الطـريق بتكبَّسْ
أنا ماني الخَمله البيْ هدوم الحَريم بتلبَّسْ
الفَــزَع القَـــامْ كِـلاشْ ومُـسدَّسْ
مـا برجعني يـا الكلس أب قفاياً عَبَّسْ
وهو يبحث دوماً عن رضاء المرأة والفوز بقلبها، بإعطائها كل ما تريد من طيب العيش وهنائه، يقول:
قـومـتْ مِــن رُشَــاش مــا جَمـعـنا
كايـسين رُضــوة المـِـنَّ الفَـريق نَجـَّعنا
أحـسن نعـيشو عيشه هنيه بجيبها ضُراعـنا
ولا أحسن نسوق ام قُجه بالحدبات يعيط مُدفَعنا
ولم تقع تجربة السِّجن المرة في قلب تيراب الا في مواضع الأسى والألم، غير أن أكثر ما قاساه في السجن هو تلك الفترة التي كان ينتظر فيها تنفيذ حكم الإعدام الذي صدر في حقه شنقاً حتى الموت، بيد أن تلك الفترة لم تفقده الإلهام الشعري، ولم تفقده القدرة على استرجاع ذكرياته وماضي أيامه، فيقول وكأنه كان يقصد أن يعطينا صورة قاتمة عن حياته الدانية نحو الغروب:
يَـومْ تَلقانا مـن جَـبره وعنينا الرّنكْ
ويـوم تلقانا في دروبنا الصُّقور كِدلِنكْ
ويـوم تلقانا لا فحين الـدَّرَقْ والعنجْ
ويـوم تـلقانا مكتوب فينا أمر الشَّنْقْ
وكلما طرق باب زنزانته طارق يحس بأن الحبل قد التف حول رقبته، فالحكم بإعدامه قد تأيَّد في كافه المراحل القضائية، وأُحيل لِرَئيسِ الجمهورية آنذاك جعفر محمد نميري بغرض التصديق النهائي، كان صوته الشجي ينبعث في كل يوم من زنزانته، فتجاوبه دموع وآهات رفقاء سجنه، كأنما اتَّخذ هذا الغناء الحزين وسيلة لوداعهم.
وفي نهار شديد الحرارة، فُتِحْ باب زنزانته في غير ما عهده من وقت منتظم كانت تفتح فيها زنازين المحكوم عليهم بالإعدام، فأدرك أن هذا هو يوم الشنق، فتلا ما تيسَّر له من آيِ الذِّكر الحكيم، وأخذ يردد الشهادتين، وصاح بصوت عالٍ ودع به أخوانه السجناء، فشجعوه وودعوه وداعاً قوياً ومؤثراً، ثم تم اقتياده لمكاتب إدارة السجن، ليجد في انتظاره مفاجأة مذهلة، فقد رأى رئيس الجمهورية أن يستبدل حكم الإعدام على تيراب بالسجن، فخرَّ ساجداً يشكر الله على هذا الفرج العظيم، غير أنه ظل بعد ذلك يمدح الرئيس نميري في كثير من أشعاره ومن ذلك قوله:-
فـي مَعـاركَ الكُتَّالْ زَي الأسـد بتضرَّعْ
يا حليلو أب بالاً طَويل للشينه ما بتسرَّعْ
أخوان أب عاج يوم لبسوا القيافه مدرَّعْ
نسفوا كتايب القـايدَ السِّـنونو مقـلَّعْ
وظل نميري أهزوجة في أشعار تيراب يترنم بها دائماً دون أن يملها، يطربه اسم النميري وتعجبه أفعاله ومواقفه وقراراته، فاخذ يسبغ عليه في شعره كل صفات الرجولة والشجاعة، ويقسو على معارضيه ويهجوهم، يقول:
تُمساح العُشاري الحَرس الوَطن دَيدبانُو
خَلاَّ أسيادو دَاجِـين بيْ الدُول ما بانُو
أَسـد النِمـور أب عـاج قبض نَيشانُو
كَـمْ دَمَّرْ رِجال واصبح سليم في بََكانُو
وأضحى حب نميري في قلب تيراب حقيقة كبرى، وأمراً لا يتزحزح وواقعاً راسخاً لا يترنح، يقول:
أب رِسـوه الليك رِجـال عَرْجا تقوم شَفقانَه
ترحِب بيك إفريقيا بيْ جاه الكريم بتحلحِلْ الوكرانه
نِحـنا يسمعـن بنـات حـمــر وكِـنانـه
كـان بعـد الريـده قَلِبنا يلف يدخـلو خِيانَه
وجاء عام 1983م وهو العام الذي أعلن فيه الرئيس الاسبق جعفر نميري، أنه بصدد تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية، ومن ضمن تدابير كثيرة في هذا الشأن أمر الرئيس بموجب أمر جمهوري بإطلاق سراح كافة السجناء في كل انحاء السودان، فهبت نسائم الحرية على وجه شاعرنا تيراب، وسرت عبر أوصاله رعشات انتشى لها، فحمل على ظهره متاعه القليل ونظر إلى سجانه نظرة إزدراء عندما إنحني ليفك عنه القيود، ودون أن يودعه غادر السجن من بابه المشرع، ولكنه أحس أن قلبه ينوء بحب رجل اسمه نميري، فانشأ أشعاراً كثيرة يمدح بها هذا السلطان، وقد وجدت في شطر من هذه الأشعار تأرخة لأحداث وقعت في ذلك العهد، مثل رئاسة نميري لمنظمة الوحدة الافريقية، وما حدث بينه وبين قرنق رئيس الحركة الشعبيه لتحرير السودان والنائب الاول السابق لرئيس الجمهورية، وصراعه مع الاحزاب والقوى السياسية المناوئة في الداخل والخارج، وغير ذلك من الأحداث التي احتشدت بها أشعاره. ورغم كثرة هذه الاشعار في مدح النميري ومناصرته، إلا أننا نجد أن اسم النميري يتردد حتى في أشعار تيراب الغزلية، ومن ذلك يقول:-
لَمحةْ فَاطـرِك زَيْ بَـرق الجَنوب يا زولي
وزَيْ نِميري عِندك سُلطه وقرار جَمهوري
أنا شاحد الله الكريم عُقبال يفك ساجوري
مـن ريق ام فَلجْ يا مولايَ يبقي فَطُوري
وقوله:
في الجــمال يا جَاهله زَيْ نارَ الكمينه تووقدِي
ومسَّخْتي العِشِقْ لسيادو يا شيكة نميري أُم نَقدِي
إنتي يـا عـينَيْ أبيتي تَغـمدي أبـيتي ترُقدِي
طريتيني الماضـي بالدرقـه وسـوالفَ الجُقدِي
وعلم تيراب أن نميري سيزور دار حمر وهي دياره التي نشأ فيها، فاعتبر أن نميري ضيفه وهو ضيف عزيز على قلبه ووجدانه، فعزم عزم الأوفياء أن يكرمه إكراما خاصاً وكبيراً، فهداه تفكيره أن ينحر تحت أقدامه عدداً من النوق، وهي فكرة تصادمت مع فقره، فلم يكن يملك نوقاً. وكم كان طريفاً أن يقوم تيراب بمغامرة كبيرة، فقام بنهب عدد من الإبل وجاء بها ونحرها إكراماً لنميري والوفد الذي رافقه. وقد رأى تيراب أن ما فعله في شأن إكرام النميري كان أعظم مما فعله أولئك الدراويش وغيرهم الذين استقبلوه بضرب النوبات وإلقاء القصائد، يقول تيراب:
يوم الدرويش ضرب النوبه جابلو قصـايدْ
أنحنا جِبنا ام قُجه لى زيارة الرَّئيس القايدْ
عـلى جِـيهة البكـره الوسِـمهَا قلايـدْ
نعرفو سوقها بيْ كَلْسَ العتامير الهايـج
ويقول تيراب إن تلك الإبل التي نهبها إكراماً للنميري كانت آخر أعماله في الهمبتة، فقد أقلع عن الهمبتة بعد ذلك، وأعلن توبته وفاءً لعهد سابق قطعه على نفسه عندما كان بالسجن، بأن يسعى عند خروجه للتوبة، وان يكون صالحاً كالأولياء الذين يحبهم ويأمل أن يهدونه إلى السبيل السوي، فقد قال في عهده ذاك:
أنا همّيتْ كَان الهَم يجيب ليَّ حَبيبــي
وانا احتِرتْ كَاْن أهل الله يِعدلو طَريـقي
وأنا شاحدَ الله الكريم عُقبال يفرِّج ضِيقي
نَبقى فَقيـر والنـاسْ يزورو مَسِيـدي ..!
وذهب النميري على إثر غضبة جماهيرية وفقد سلطانه واختار منفاه، واختار تيراب قرية من قرى الجزيرة المروية ليقضي فيها ما تبقي من حياته وسط أبنائه وبناته وزوجته، يرعاهم ويرعونه، ويستعيد ذكرياته بحلوها ومُرِّها، ويسجل أشعاره ويتغنى بها لأحفاده، ولم تكن هذه الأشعار سوى مرآة لسجل حياته الحافلة الماضية.