تغيير الشخصية السودانية على طريقتهم … بقلم: د. عمر بادي
كمدخل إلى مقالتي أورد لكم أبياتا من قصيدة ( أمتي ) للشاعر السوري عمر أبو ريشة :
أمتي كم غصةٍ داميةٍ خنقت نجوى علاك في فمي
أو ما كنتي إذا البغي إعتدى موجة من لهبٍ أومن دم
إسمعي نوح الحزانى و اطربي و انظري دمع اليتامى و ابسمي
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
قضية إستفتاء جنوب السودان و قضية شريط الفيديو الذي يظهر جلد إحدى الفتيات للبسها البنطلون , قضيتان تجتمعان في مسببات و مآلات الأحداث الجارية في السودان . لقد شاهدت كالمئات الآخرين ذلك الشريط المخزي و صدمت من هول ما رأيت من إذلال للقوارير اللاتي أمرنا رسولنا الكريم أن نترفق بهن . الفتاة تولول و تستنجد و الآخرون يضحكون , و لا من معتصم يجيب و لا يحزنون . ترى , ماذا وراء بث هذا الشريط في هذا الوقت بالذات , علما بأن أحداثه تعود إلى شهر يوليو من عام 2009 ؟ من الواضح أن هذا الشريط قد تم تصويره عيانا و عن قرب و داخل الساحة التي تم فيها الجلد بينما كانت طائفة من المؤمنين تشاهد المنظر من خارج السور . إذن فقد قام بتصويره أحد أفراد الشرطة , و لكن تبقى دواعي بثه تحوم حول السعي لتأليب الرأي العام لإلغاء هذه القوانين التعسفية إرضاءً للشريك الجنوبي الذي شرع في لملمة أغراضه و توجه نحو الإنفصال . إنه نوع من التغيير من الداخل بأيد من خارج النظام .
لقد أعاد هذا الشريط الغليان الشعبي ضد القوانين المقيدة للحريات مرة أخرى بعد حادثة الصحفية لبنى أحمد حسين قبل عام مضى و التي تعرضت فيها إلى الشروع لتطبيق عقوبة الجلد عليها للبسها البنطلون و علم كل العالم حينذاك بما حدث لها و استنكر ذلك , و الآن يعاد بث هذا الشريط في معظم القنوات الفضائية و مواقع الإنترنت في العالم . ألا يكفي السودان ما هو فيه من إشانة للسمعة ؟ لقد تم إحصاء حالات جلد الفتيات تحت مادة الأفعال الفاضحة و التي تشمل لبس البنطلون فوصلت إلى 43 ألف حالة في السنة الواحدة ! إن قانون النظام العام قد تم سنه في عام 1991 و أضيفت إليه المادة 152 من القانون الجنائي الخاصة بالأفعال الفاضحة و هو يحتوي على مواد كلها تعاقب بالجلد كالشغب و السباب و الإخلال بالسلام العام كما أورد الدكتور زهير السراج في عموده . إن هذه المواد الثلاثة الأخيرة تكون عادة في التجمعات و في التظاهرات و يكون الجلد فيها بغرض الترهيب و القهر و التطويع , و كذا الحال في مادة الأفعال الفاضحة و التي فسرها أفراد الشرطة في لبس الفتاة للبنطلون و التنورة ! كلنا نعلم أن وراء قانون النظام العام فرض سطوة دولة الإنقاذ و هي في شرعيتها الثورية كما يقولون , و لكن بعد الإنتخابات النيابية في أبريل الماضي فقد تحولت سلطة الإنقاذ إلى شرعيتها الدستورية . إذن لم يعد هنالك سبب لإبقاء قانون النظام العام . إنه ليس قانونا حديا و قد قال بذلك فقهاء القانون و بذلك يمكن إعادة النظر فيه . إذا أمعنا في الدول الإسلامية و لنأخذ مثلا دولة باكستان الإسلامية فإنهم يتمهلون في تطبيق الحدود حتى توفر الدولة ضروريات الحياة لمواطنيها كالعمل و الدخول الكافية لتلبية متطلباتهم في الحياة الكريمة و في تكوين الأسر و في ضمان المستقبل , و عندنا في السودان كل تلك الضمانات غير متوفرة كما أوردت الأستاذة رباح الصادق في زاويتها .
الإسلام هو دين الفطرة و الأخلاق الفاضلة و المعاملة الحسنة , و السودان له وضعيته الخاصة منذ أن تعذر فتحه بالغزو في عهد الخليفة عثمان بن عفان فتوصلوا ألى إتفاقية ( البقط ) المعروفة بين عبد الله بن أبي السرح القائد العربي و بين ملك النوبة في عام 31 هجري الموافق عام 651 ميلادي , و التي بموجبها إنتشر العرب المسلمون في السودان و اختلطوا بالأهالي و دعوا إلى الإسلام بواسطة شيوخ الطرق الصوفية و بالقدوة الحسنة و بالترغيب و التحبيب في الإسلام , فقد كانوا يحدثونهم أولا عن الأخلاق الفاضلة و يتركونهم في سكرهم و رقصهم , ثم رويدا رويدا يدعونهم إلى ترديد إسم الله أثناء الرقص بدلا عن الصراخ , ثم يحدثونهم بعد ذلك عن مضار الخمر و هكذا يدخلونهم بالتغيير المتدرج في الإسلام ترغيبا و تحبيبا . هكذا إستمر الحال إلى قيام أول دولة إسلامية في السودان و هي السلطنة الزرقاء في عام 1505 . لقد إجتمع السودانيون منذ تكوينهم على الفضائل العامة و على التربية الحسنة و على رقابة المجتمع . لقد كان كل كبير يحس بولايته على أقربائه و على جيرانه و أبناء منطقته و أبناء وطنه , و هذه الخصلة لا زالت عند السودانيين خارج الوطن خاصة تجاه السودانيات المغتربات .
لقد أوجدت إتفاقية سلام نيفاشا وضعا خاصا للعاصمة القومية بحكم أنها تمثل المكان الذي تجتمع فيه كل فئات المجتمع , و بذلك فقد قررت لها مفوضية خاصة لإدارة هذا التنوع السكاني الذي يضم المسلمين و المسيحيين و أصحاب الديانات الأفريقية , و لكن لم يعط اي إعتبار خاص لغير المسلمين في العاصمة القومية فطبق عليهم قانون النظام العام و الجلد بموجبه في شرب الخمر و في أزياء الفتيات كلبس البنطلون و التنورة القصيرة و لم يراع أحيانا صغر سن الفتاة فتم جلد الفتاة الجنوبية المسيحية سيلفا كاشف و هي قاصر لا يتجاوز عمرها الستة عشر عاما , كما تم سجن الكثيرات من الجنوبيات بسبب عمل الخمور البلدية . هل هذه الأفعال تجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين ؟ لقد رأينا في بعض الدول الإسلامية أنهم يمنحون أذونات صرف لغير المسلمين من الخبراء الأجانب عندهم لشراء مشروباتهم من أماكن مخصصة لذلك , و الضرورات يبحن المحظورات عملا بفقه الضرورة .
لا زلت أذكر أنه عندما آلت الأمور للإنقاذيين ذكروا أنهم يهتمون بتغيير الشخصية السودانية أكثر من أي شيء آخر .لقد ظن الكثيرون أنهم سوف يجعلون الشعب السوداني أكثر علما و عملا بدينه , و لكن أتت رياح التغيير لتثبت أن المقصود هو تغيير ما عرف عن الشخصية السودانية من إباء و أنفة و شهامة و إقدام و تمرد و نزوع إلى الحرية , فأقاموا عليه أثافيهم الثلاثة المتمثلة في التعذيب في بيوت الأشباح و الإحالة إلى الصالح العام و الإذلال البدني و النفسي بقانون النظام العام , و قد أدى ذلك إلى التضييق المعيشي الذي أحال المواطنين إلى أشباحٍ بدون بيوت جراء إرتفاع الأسعار و البطالة و التمكين و الفساد المالي .
لا بد من العودة بالسودان إلى النهج الذي إختطه أجدادنا و حافظوا به على وحدة البلاد و على إندماج أعراقه . إن القائد الحصيف هو الذي يلبي تطلعات قومه كما أبان الفريق مالك عقار , و الشعب السوداني يتطلع إلى الوحدة و إلى الحرية و العدالة و نبذ التسلط .
(ombaday@yahoo.com)