العبرة الإعلامية من ثورة تونس: سقوط ممالك الصمت

 


 

 



(1)

هناك هموم كثيرة تشغل بال رجال الأنظمة العربية وخبراء حمايتها بعد المصيبة التي حلت بهم بانفجار ثورة الشعب التونسي ونجاحه المذهل في كسر القيود. فتونس كانت عندهم جميعاً النموذج الأنجح للدولة الأمنية، و "زعيم العصابة"، ورئيس نقابة المستبدين. فقد ابتدعت تونس فكرة تجمع وزراء الداخلية العرب وتولت رئاستها واستضافتها، وكانت بفضلها أنجح المبادرات العربية على الإطلاق، لأنها منبر التآمر الأول ضد الشعوب العربية، والهيئة التنسيقية العليا للقمع والتضليل.

(2)

الرئيس زين العابدين بن على كان أول رجل أمن محترف يصل إلى قمة السلطة في بلد عربي، وقد بادر بتقديم حل أمني لكل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد تحولت ملابس النساء عنده إلى قضايا أمنية، والصلوات في المساجد وحتى مناجاة الرحمن داخل البيوت قضية أمنية. أما الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية فكلها من كبائرمهددات الأمن، أمن الاستبداد بالطبع.

(3)

ولكن شغل نظام بن على الشاغل كان هو الإعلام. فهو لم ينجح فقط في تدجين وتكميم الإعلام الداخلي وفرض عبادة الفرد كدين تونس الرسمي، ولكنه اجتهد في تصدير القمع الإعلامي إلى الخارج، ونجح في ذلك كما لم ينجح أي نظام آخر، مستخدماً العلاقات الوثيقة مع الأجهزة الأمنية، والابتزاز والرشوة والترهيب، وكل وسيلة ممكنة لإغلاق الفضاء الإعلامي في وجه المعارضين وكل الأخبار السلبية، وما أكثرها.

(4)

كانت إحدى المنظمات الحقوقية قد أطلقت على السعودية في التسعينات لقب "مملكة الصمت"، بسبب نجاحها في استخدام القمع الباطش في ضبط الإعلام الداخلي وسلاح البترودولار لتدجين الإعلام الخارجي. ولكن بن على نجح في بناء "امبراطورية الصمت" ، حيث كان يشرف شخصياً وعبر سفرائه على خلق شبكة أخطبوطية تهيمن على الفضاء الإعلامي. كانت المهمة الأولى لأي سفير تونسي هي "ضبط" الرسالة الإعلامية. فقد أقصي أحد السفراء من عاصمة أوروبية بعد أن كسب سياسي معارض قضية تشهير ضد صحيفة غربية وقعت في أحابيل تضليل النظام الذي اجتهد في ربط اسم ذلك السياسي بالإرهاب.


(5)
دأب بن علي على التدخل شخصياً مع زعماء الدول لقمع الرسالة الإعلامية المعادية إذا فشلت ضغوط سفرائه. وقد يصل الأمر إلى إغلاق السفارة وقطع العلاقات كما حدث مع قطر عام 2006 بعد استضافة الجزيرة للمعارض المنصف المرزوقي وفشل الاتصالات على أعلى المستويات في إسكاته. وقد وصل الأمر درجة أن كثيراً من الدبلوماسيين الأوروبيين أصبحوا يتحاشون المشاركة في فعاليات للمعارضة التونسية فيها حضور تجنباً للضجة التي يثيرها النظام التونسي في مثل هذه الحالات.

(6)

هذا التلازم بين الكبت السياسي والإعلامي والملاحقة الأمنية بلغ حداً جعل كثيراً من التونسيين يخشون التعبير عن أفكارهم حتى في الخارج. وقد قال لي مرة أحد الأصدقاء التونسيين مازحاً لدى لقائنا في دولة أجنبية: "هل تعرف أن الجو في تونس أصبح خانقاً لدرجة أنني حينما أريد أن أفكر اضطر إلى ركوب الطائرة والسفر خارج البلاد لكي أفكر ثم أعود؟"

(7)

فماذا كانت في النهاية حصيلة كل هذا التعب والاجتهاد والابتكارات العبقرية في ملاحقة الإعلام والإعلاميين وإغلاق منافذ التواصل من انترنيت وغيرها؟ صفر كبير وفشل ذريع. لم تقنع هذه الدعاية تونسياً واحداً بخلاف المنتفعين بموالاة النظام أو تصديق خطابه العبثي، فضلاً أن تقنع الخارج. ولم ينجح هذا الطوق الإعلامي المضروب حول تونس في إخقاء معلومة واحدة عن عامة التونسيين، فضلاً عن الخاصة. الكل كان يعرف عن فساد الرئيس وزوجته وبقية افراد عائلته وبطانته المقربين، وعن كل شركاتهم ومؤسساتهم. بل إن البعض كان يزيد ويخترع، ناسباً للأسرة والبطانة من الفساد أكثر مما اجترحوا فعلاً.

(8)

لم يخدع أحد بدعاية وأكاذيب النظام إلا رئيسه الذي صدق الأكاذيب التي روج لها. الآخرون كانوا يعرفون كل شيء، وإذا تظاهروا بالجهل والغباء فلمصلحة يبتغونها، أو لاعتقادهم بأن الآخرين مخدوعون. ففي الخارج كانوا يقولون: نعرف أن الرجل مجرم ومهووس، ولكن التونسيين راضون عنه. وفي تونس كانوا يقولون: نعرف أنه فاسد باطش، ولكن الخارج راض عنه، فما الحيلة؟

(9)

أخطر ما في هذا الصمت المفروض هو انخداع الدكتاتور الذي كان يتبختر بين الناس عارياً من أي ستر من شرعية أو صدقية أو قبول، بينما هو يتوهم –وحده- أنه يخطر من كل هذا في حلل سابغة وضيئة، إلى ان استيقظ من ذلك الحلم الذي صنعه بنفسه ليواجه الحقيقة المرة. ومن هنا لعل الدول التي تسمح بحريات محدودة في الإعلام تكون في وضع أفضل، لأن الحاكم يكون أقرب إلى معرفة رأي الشعب الحقيفي فيه، وقد يحصل على فترة إنذار أطول تسمح له بتدبير الهرب بما يقدر عليه قبل وقت كاف من وصول الطوفان الشعبي إلى مشارف قصره.

(10)

لعل هذه فرصة حتى أقدم نصيحة "مجانية" (فالقوم لهم حسابات متخمة في المصارف السويسرية وغيرها تكفي –حتى بعد الهروب الكبير- لرد جميل كالذي نسديهم لهم هنا) لإخواننا من الزعماء العرب حتى لا يفاجأوا كما فوجئ بن علي وقبله شاوشيسكو وشاه إيران وغيرهم. خذوها مني: إن شعوبكم تكرهكم وتكن لكم البغض وتظهره. لا أحد يحبكم، ولا أحد يخفى عليه من أمركم شيء: لا أموالكم المكدسة، ولا كيف تقضون لياليكم وعطلاتكم، ولا شركاؤكم في النهب والسلب. ولعل بطانتكم المقربين هم الأكثر كرهاً لكم، لأنهم الأكثر اطلاعاً على ما تخفون من شأنكم.

(11)

تكفي نظرة واحدة على حال أخيكم بن علي حتى تتأكدوا من ذلك. هل له من شافعين اليوم أو صديق حميم؟ أين من كانوا يسبحون بحمده حتى بالأمس القريب؟ ألم يتبرأ منه حتى قادة جيشه ورجال أمنه وكبير وزرائه وبرلمانيوه الذين كانوا يهتفون له قياماً كلما شرف المجلس؟ ألا يوجد حتى شخص واحد من أهل الكرامة والوفاء يذكر فضله ويقول كلمة خير في حقه؟ طبعاً لا، لأنه أقصى كل أهل الكرم والوفاء والخلق، وأحاط نفسه بالمنافقين الكذابين، تماماً كمافعلتم! فانظروا كيف كان عاقبة المفسدين.

(12)

لعل ما وقع لبن علي رسالة رحمة إلى من بقي من الحكام العرب، عل من أراد الله به خيراً يفتح بصيرته ويعرف موقعه من الإعراب قبل أن تقع المفاجأة، فيصلح من أمره قليلاً أو يهرب مبكراً، وكفي الله المؤمنين القتال. وليجرب أحدكم اليوم فيذهب إلى التلفاز ويعلن استقالته، ثم لينظر كيف ستتدفق الجماهير على الشارع وهي تبكي فرحاً. ولعل هذه ستكون أذكى طريقة لكي يصبح الدكتاتور بطلاً قومياً، بحيث يسيتطيع أن يستمتع ببلايينه التي ادخرها والناس تشكره بدلاً من ان تلعنه.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء