و يظل باقان يقفز على الحقائق كى يرى !؟ … بقلم: آدم خاطر
لم يكن مفاجئا اعلان الحركة الشعبية من الخرطوم بالأمس السبت الموافق 11 فبراير الجارى ، على لسان باقانها بجرأة يحسد عليها أسباب تعليق الحوار مع الخرطوم ، على خلفية الأحداث الدامية والمؤسفة التى جرت فى أبيى من أيام وملكال قبل يومين !. لعل واحدة من أهم أركان الشراكة الهشة والمتشاكسة التى كانت تحكم العلاقة بين الطرفين ، هى هذا الحوار عال المستوى الذى امتد بين طرفى الاتفاق بآلية راتبة لمناقشة قضايا ما بعد الانفصال وهى كثيرة وشائكة ولا تخلو من تعقيدات ، تحتاج الى تجرد واناء وصبر وارادة سياسية ومرونة كافية تضعها فى اطارها الصحيح وتحسن وسائل حلها دون اثارة أو تشويش وارباك كما ظل يفعل باقان وعرمان فى كل مراحل الاتفاق دون اعتداد أو انفعال موجب بما تم التراضى عليه وما أنجز !. قواسم مشتركة كثيرة تجمعنا وأشقائنا بالجنوب كنا نعتقد أنها هى من تتصدر المرحلة التى عليها قطار السلام الآن ، وأولويات عديدة كنا نتوقع أن تعتلى جدول حكومة الجنوب فى هذه المرحلة وهى تستعد لاعلان الدولة الوليدة (جمهورية جنوب السودان) ، فى جو معافى ووسط لغة مغايرة ومفاهيم جديدة واشارات موجبة ,اشخاص بحجم المرحلة ، وأن تنكفى القيادة بالجنوب على مشاغلها وترتيب بيتها من الداخل ، وأوجبها هى اعداد دستور البلاد وقوانينها وتأسيس الحكومة الجديدة بكل مستوياتها واحكام التشريع وبسط الأمن والاستقرار وتوفير الخدمات الضرورية للمواطن، وكل ما هو مطلوب لبناء الدولة والنظام حتى اعتماد دولة الجنوب وقبولها والاعتراف بها دوليا كى تنطلق لمهامها وواجباتها التى ينتظرها شعب الجنوب !. كل ذلك وغيره لا يكاد يرى بعيون أمين عام الحركة الشعبية ، وهو كثير القفز على الهواء والتخليط و قد اختط لنفسه طريقا وعرا ورسم صورة شوهاء أرادها أن تكون حاضرة وراسخة فى ذهنية مواطن الجنوب قبل الشمال تعمد الى الاثارة والبلبلة واطلاق الشائعات والتهم دون أن يدفع بدليل مادى واحد لاقامة الحجة على خصمه !. هكذا ظل باقان عجولا فى أحكامه وتقديراته ومواقيته وقراراته التى تتسم بالشخصنة والتهور و اثارة الفتن والنعرات ونشر الكراهية فى هذا التوقيت الدقيق ، والعقلاء فى طرفى البلاد يسعون لاعلاء الروابط والمشتركات لاقامة علاقة أخوية مميزة وصداقة لا تقوم على الجوار فحسب باعتبار التاريخ والجغرافيا ولكنها أعمق مما عليه الحال بين الكوريتين أو أريتريا واثيوبيا ، لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرق ، لكن هذه المعانى لا ترى بعيون باقان وهو يعقد مؤتمره الصحفى من الخرطوم لا من جوبا ، ويتهم رئيس البلاد بالتخطيط لمؤامرة لقلب النظام فى الجنوب قبيل اعلان دولة الجنوب بأشهر واستدالها بنظام موال للخرطوم !. هكذا يمضى خيال الأمين العام ووزير السلام فى حكومة الجنوب الذى لم يعهد عنه أن تحدث بلغة السلام وثقافته ومعانيه التى توجب على القائد المؤمن بالسلام أن يلتزمها ويغرسها فى النفوس ويعبد بها طريق العلاقة الجديد بين الشمال والجنوب ، ولكن المتتبع للخطاب الباقانى منذ أن جاء من الغابة الى الخرطوم ، لا يستغرب أن تصدر مثل هذه الترهات والتهم الجزاف والمزايدات المريضة على لسانه حتى والاتفاق فى نهاياته كى تشوش العلاقة بين الشمال والجنوب ، وتزداد الأحقاد وترتبك المسيرة ويصار الى الفتنة التى كان يريدها على أيام الاستفتاء وقدر الله أن يشهد العالم سماحة أهل السودان وصدقهم !.
لاشك أن الجنوب تحيط به اشكالات داخلية جمة معلومة كدولة خارجة من الحرب تحتاج الى جهد ووقت وقدرات للانطلاق ، وأن سياسات الحركة الشعبية الداخلية التى ترى وواقعها فى التعاطى السياسى مع مخالفيها وما تفرضه من عزلة وتضييق على الآخرين ضمن مكونات الجنوب المختلفة لم تخلو من بؤر توتر وانسلاخ وتمرد كما عليه الحال فى مجموعة الجنرال أطور واحتكاكات أبيى بين المسيرية والدينكا ، ومؤخرا انسلاخ السلطان عبد الباقى وغيرها من المجموعات والأحزاب التى تخالف الحركة الشعبية الوجهة والرأى ، فضلا عن الضوائق الاقتصادية والأزمات التى تمر بها فى ظل اقتصاد هش وموارد محدودة وغلاء فى الأسعار بحسبانه دولة مغلقة الحدود لا توجد بها موانى وعالية الكلفة لجهة النقل والمواصلات للأمتعة والمواد مما يضيف الى ضوائق الحياة والمعيشة هناك !. كل ذلك يوجب على وزير السلام أن يسعى لاستدعاء ما يخفف هذه الاختناقات والبؤر ويجفف منابعها وأماكنها لا اشعال الحرائق ، وأن يهيىء الساحة لواقع جديد له مفاهيمه وضروراته لأجل بناء مجتمعى معافى يقوم على الاخاء الصادق والتعاون المرن والمنفتح يقود مركب الجنوب للنجاة والابحار الآمن !. كل ذلك بامكانه أن يتم عبر سياسات جادة وأسس يمكن التراضى عليها تضع نصب أعينها مصلحة شعبى البلدين وتقدم الأفضلية للمشاركات التجارية والاقتصادية بين أبناء الشمال والجنوب على ما سواها لا كما هو الحال مع ما يجرى بمدن الجنوب مع الكينيين واليوغنديين ومجموعات من أريتريا واثيوبيا تجد الأفضلية فى التعامل على أبناء الشمال رغم القرب الجغرافى والوشائج والروابط الاجتماعية !. فى هذا الأثناء يكيل العبقرى باقان تهم التحريض والتآمر لرئيس الجمهورية ، والكل داخل السودان وفى اقليمنا والعالم يعلم أن البشير وحزبه وحكومته هى التى وقعت ميثاق السلام ومنحت الجنوب حق تقرير المصير والتزمت تطبيق الاتفاق فى كل مراحله ومواقيته حتى نال أبناء الجنوب حقهم بارادتهم رغم اختلاف الناس على مشروعية ما جرى !. لقد سبق البشير بابداء التنازلات وتجاوز الأخطاء لأجل الوحدة وما أن صودرت ارادة الجنوب وحرياتهم وجيرت لصالح الانفصال من قبل قادة الحركة الشعبية وباقان على رأسهم الا وسارع الرئيس البشير بزيارة جوبا فى الرابع من يناير الماضى وخاطب القيادات التنفيذية والسياسية والتشريعية ومواطنى الجنوب على اختلاف مشاربهم بخطاب مشهود ورسائل واضحة ، مؤكدا على احترامه لرغبة شعب الجنوب والتعامل مع خياراته ودعمها وقد كان ، ومضى البشير أبعد من ذلك بعيد اعلان نتيجة الاستفتاء حيث سارع للترحيب بها وقبولها دون أن يزايد عليها أو يبتز شركائه أو يشوش على خيارهم مجددا حرصه لتأسيس علاقات راسخة وقوية مع الجنوب فى شتى المجالات ، ومعربا عن ثقته على أن ما فقد بالانفصال يمكن أن يعوض باتفاقيات ثنائية بين الشمال والجنوب لن تقف عند النفط والطرق والحدود ، وانما هى مسيرة علاقات مستمرة وتواصل تمليه الظروف والمستجدات والتحديات التى تجابه كل طرف حتى نحمى ظهر بعضنا ونعزز مطلوبات الأمن والاستقرار لكلى البلدين !. كيف برئيس دولة يضع نصب أعينه كل هذه المراحل التى عبرت والأسس التى أقيمت والثقة التى بنيت على هدى اتفاق السلام الشامل بكل خلفياته وتضحياته أن يعمل لهدمها وتقويضها هكذا ، وقد كان بامكانه فعل ذلك فى مراحل سابقة ومحطات كثيرة توقف عندها قطار السلام وتم عبورها وقد كان بامكانها أن تقود الى الروح التى يسعى لها باقان فى تأجيج الصراعات واستدعاء الحرب والقتل والخراب وهدم بناء صرح السلاح الذى شيد ؟!. كيف لحزب خاض الحرب والنزاعات وما يزال يعيش أجواء التمرد والحرائق الفتن فى طرفه الغربى أن يعمد الى تقويض نظام يتشكل بمراقبة لصيقة من المجتمع الاقليمى والدولى على هدى اتفاق وتراض مشهود ، مضت أشواطه فى سلاسة وجو صحى وسلمى أن يصار الى قلب معالمه بالانقلابات ودعم التمرد وتشوينه وامداده والشمال قد عانى فى هذا السبيل لعقود طويلة ، وجرب هذا السلاح وأكتوى بنيرانه مع العديد من جيرانه فى الاقليم وأستبان النصح واستفاد من تجاربه أن يعود القهقرى ليقرر بوعيه قلب نظام سلفاكير فى الجنوب ، وما يواجه حكومة الجنوب من تمرد هو بمحض ارادة فئة من أبناء الجنوب كانت جزءا من بناء الحركة الشعبية وقيادتها وهى تنطلق من أرض الجنوب وتستفيد من السلاح المتدفق هناك ، وقد جلبه باقان بعقليته المعروفة وحقده الدفين للاستعداد لحرب متوهمة مع الشمال ، وهو ظل يثير القلاقل ويحرض المعارضة الشمالية كى تثور وتنتفض وتطيح بالنظام فى الخرطوم، والاثنين الأسود بعض كسبه !.
هكذا اهتدت عقلية باقان التآمرية وهى تقدم مصالح مجموعة معينة داخل الحركة الشعبية أصابها اليأس فى السهر على مصالح شعب الجنوب ، من سوء تقديرها لحجم الاشكالات والتحديات التى تحيط بالحركة وحكومة الجنوب بعد اعلان نتيجة الاستفتاء التى رجحت الانفصال ، فانكشفت ورقة التوت عنها وأستبانت عورات الحركة الكثر وهى تعلم قدراتها وامكانياتها وما هو مطلوب اليها من مؤسسات وقرارات وانفاق وجهد كى تقف على أرجلها ، فعلمت صعوبة المصير الذى يلفها ووقفت على تبعات مواجهة هذه المعضلات فكان لابد من شماعة تعلق عليها فشلها واخفاقها فى التعاطى مع هذه الاشكالات فعمدت الى تعليق الحوار مع الوطنى برواية ضحلة ملفقة نسبها الأمين العام بذكاء الى زعيم الحركة الشعبية سلفا ، قائلا أنه طلب اليه تعليق الحوار مع الخرطوم بارادتهم والنظر فى امكانية نقل البترول من الجنوب عبر شرق افريقيا عوضا عن الشمال ووقف تصدير النفط للشمال ، هكذا بقرار سياسى أحادى غير مدروس أو مستبصر للتبعات والعواقب ، والبنى التحتية التى تنتظر الحركة الشعبية كى تقيم دولتها تفوق الخيال والتصور بعد أن أهدرت الموارد التى وفرها النفط عبر سنوات الفترة الانتقالية وما تم ضخه من أموال عائدات النفط الذى فجره البشير وأقام بنياته التحتية على أيام الحرب وباقان كان وما يزال يعول على أموال الأجنبى ووعوده فى اقامة دولة الجنوب وهى بعد كل هذه السنوات والأموال بلا مقومات حقيقية !.نعم بالجنوب مليشيات تؤرق الحركة وتهدد بقائها وقضايا وهموم وملفات داخلية كثيرة ، كما وأن هنالك اشكالات أخرى لا تقل أهمية عن التمرد وتوابعه تحتاج الى معالجات حكيمة وتنازلات من قبل الحركة تضمن للجنوب الاستقرار والبداية الراشدة !. بل هنالك قضايا عالقة ما تزال تنتظر الحل مع الشمال لكنها ليست مستحيلة أو مستعصية على الحل ان صدقت النوايا وتم اعلاء فرص التقارب السياسى واعمال الحكمة التى تقدر المصالح التى تقوم على الاخاء والمصير المشترك لا الهروب الى الخلف والدنو من الهاوية باثارة الفتن واختلاق السيناريوهات الاجرامية التى ترسمها أجهزة الاستخبارات العالمية ومراكزها دون دليل أو بينة !. كان المؤمل والأطراف تقود هذا الحوار الجدى لتفكيك الملفات العالقة ونزع فتيل الأزمات والخلوص الى تفاهمات بشأنها ترسم عبرها مستقبل العلاقة السياسية بين الدولتين على قواسم مشتركة وما يتطلع اليه المواطن فى الشمال والجنوب وهذا ممكن ومتاح ، ولكن نفسية وزير السلام لا تحتضن هذه القيم ولا تراهن على الثوابت الموضوعية المركوزة بين القيادات فى الشمال والجنوب ، وهى تقتات على الفتن والخلافيات وصرف الانظار وتجارة الحرب كى تتوتر العلاقة بين الرئيس البشير ونائبه الأول سلفا وتفسد النفوس بالشحناء والتخويف ، وان أدت حماقات باقان لتغييب البشير عن احتفال اعلان الدولة الوليدة فى التاسع من يوليو القادم رغم أنه أكبر مستثمر وضامن مكن لهذا الشرف أن يتحقق ، هكذا يكون حلم باقان ومجموعته وداعميه بالاقليم والخارج قد تحقق وهو قد برع فى رسم الأوهام وتصديقها والكل بات يدرك طريقته ورسائله وما ترمى اليه !. لئن صلحت حملات باقان وخطابه الأرعن فى السابق فى تعزيز الانفصال وتكريس واقعه وتمكين أجندة أربابه وهو يتاجر بمصالح الجنوب ويعرضها للخطر، لكنه بالقطع لن يفلح فى تسويقه واعادة انتاجه مرة أخرى لاعادة الأطراف الى مربع الحرب ، وعلى عقلاء الحركة الشعبية أن يستبينوا الوجهة التى يرسمها هذا الحاقد باقان ببراعة للوقيعة بين الشمال والجنوب وتفخيخ العلاقة بين يدى اعلان الاستقلال للجنوب وازاحة صخرته عن كاهل الشمال ، عليهم أن يعوا الدرس ويفوتوا الفرصة على فلتانه الذى ينبغى أن يلجم ويوضع فى حجمه ، وأن سماحة الخرطوم قد بلغ بها السيل الزبى وطفح كيلها بما لا يسع معه سماع مثل هذه السخافات والهراء الباقانى مجددا !.
adam abakar [adamo56@hotmail.com]