الانتخابات, مصير الرئيس ومصير السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
اقتضت نظرية النظام العالمي الجديد اعادة تشكيل خارطة العالم من منظور الغلبة للنظام الرأسمالي عقب انهيار المشروع الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة وتمكن الهيمنة الاحادية للولايات المتحدة وحلفائها علي مجريات الامور ومصائر الشعوب في العالم. ومن ضمن استراتيجية النظام العالمي الجديد هذا اعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية والاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم من بينها منطقة البحيرات العظمي بوسط أفريقيا والحاقها بالمصالح الأمريكية لما تذخر به هذه المنطقة من موارد طبيعية ضخمة لم تزل بكرا" تنتظر الاستثمارات لتحقيق التراكمات الرأسمالية لمزيد من الهيمنة الاقتصادية والسياسية.
مخطط تقسيم السودان يسير الي غاياته:
يقتضي مخطط تقسيم السودان فصل الجنوب والحافة بالدول ألافريقية في منطقة البحيرات العظمي بوسط وشرق أفريقيا: يوغندا , وكينيا والكونغو و رواندا وبورندى. فصل جنوب السودان عن شماله ظل علي الدوام حلما" يراود الساسة والاستراتيجيين الغربيين منذ الحقبة الاستعمارية علي السودان وحتي اليوم. لم يتسن فصل الجنوب عن الشمال في الحقبة الاستعمارية لأسباب معلومة: عدم توفر البني التحتية اللازمة لقيام دولة قابلة للبقاء viable state, ثم عدم استعداد الحكومة الاستعمارية المركزية للصرف علي بناء تلك البني التحتية. الدوائر الغربية الكنيسة والسياسة والمدنية - ظلت تنادي دائما" بضرورة فصل جنوب السودان عن شماله مرتكزة علي عدة مبررات من أهمها القول بعدم أمكان - أو استحالة – التعايش السلمي نين العنصر الافريقي المكون لمجموعات سكان الجنوب والعنصر العربي الاسلامي المكون لمجموعات الشمال – ولعل هذا التبرير بالذات قد وجد تأكيدا" وتعضيدا" وصدقية كبيرة بالنظر الي سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة في الخرطوم, تلك الحكومات التي سيطرت عليها النخب الشمالية – خاصة حكومة الانقاذ – وما الحقته من ضرر بالغ في نظام العقد الاجتماعي للدولة السودانية. ممارسات الاقصاء السياسي الاجتماعي والاستغلال الثقافي الاقتصادي والاستعلاء الثقافى والحرمان من التنمية التي مارستها الحكومات المركزية في الخرطوم ضد مواطني الجنوب (والهوامش الأخري في الغرب والشرق), قضت هذه الممارسات الطائشة علي أمكانية التعايش السلمي للمجموعات الكبيرة التي تشكل التنوع العرقي والثقافي الكبير في السودان, وأدت الي أن حمل مواطنو الجنوب (وكذا مواطنو دار فور والشرق) السلاح في وجه الحكومة المركزية التي سامتهم الخسف – الحرب الاهلية المدمرة التي استعرت نيراتها لما يقرب من خمس عقود (وكذا الحرب الاهلية المستعر اوارها الان في دار فور) عضدت من النظرية الاستعمارية القائلة بعدم امكان التعايش السلمي بين المجموعات العربية والمجموعات الأفريقية المكونة للنسيج الاجتماعي والأثني في السودان. وحل هذه المعضلة من المنظور الغربي هو اما اعادة الاستعمار لمثل هذه البلدان – الوصاية الاستعمارية على الشعوب القاصرة- حين عجزت عن حل مشاكلها بنفسها وفرض حكومة استعمارية تعامل كل المواطنين على قدم المساواة او فصل الجنوب. كان الحل الأول ممكنا في الحقية الاستعمارية, لكنه غير ممكن الآن , ويبقى الحل الممكن الآن هو فصل جنوب السودان عن شماله.
استغلت مجموعات الضغط الكنسية والصهيونية حكومة الانقاذ وتوجهاتها الاسلامو-عروبية_ ولعلي اقول ربما كان لهذه الدوائر اليد الطولى في الاتيان بهذه الحكومة لسدة الحكم- مدركة بأنها سوف تؤجج حربا" مقدسة في الجنوب ما يعطي المبررات المادية لحشد الرأي العالمي والمحلي لتبني مشروع فصل الجنوب, وبذلك تكون حكومة الانقاذ قد وفرت الغطاء "الا اخلاقي" الضروري لتبني مشروع فصل الجنوب. ولم تخيب حكومة الانقاذ ظن الدوائر الغربية, فقد شنت حربا جهادية مدمرة في الجنوب كانت حصيلتها حصد عدة ملايين من ابناء الوطن الأعزاء الشباب. فاشعال نار الحرب الجهادية في الجنوب كان ضروريا لتبرير والتأكيد على أن العرب المسلمين الشماليين لا يمكن أن يقبلوا التعايش في سلام ووئام وتكافؤ اجتماعي مع الأفارقة الجنوبيين. كان ذلك التبرير ضروريا لاقناع الرأي العالمي والأقليمي والمحلي بضرورة العمل على فصل الجنوب عن الشمال. فكانت اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005 تتويجا لهذه المساعي التي استمرت لعدة عقود.
الدوافع الحقيقية لفصل الجنوب:
لكن , كما هو الحال مع الدوائر الامبريالية, هذه المبررات الأخلاقية والدينية والحضارية تخفي وراءها المطامع الحقيقية في السيطرة على الموارد الاقتصادية وفتح أسواق التجارة. المصالح الغربية الحقيقية هي أن تضع الدوائر الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة وشركائها يدها على الموارد الطبيعية البكر الضخمة الكامنة في جنوب السودان: المياه ,الأراضى الزراعية, الغابات والمعادن خاصة اليورانيوم والبترول. وفى سعيها الحثيث لوضع يدها على هذه الثروات فهي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لاخراج الصين من هذه المنطقة الحيوية في صراع الدول العظمى لخلق مناطق النفوذ والسيطرة على الموارد. من جانب آخر الدوائر الكنسية يهمها صد التغلغل الاسلامى والثقافة العربية الى داخل القارة السمراء. أما الدوائر الصهيونية فيهمها كثيرا السيطرة على منابع النيل حتى يتم "خنق " مصر قبل السودان, واضعة في الاعتبار تحقيق الحلم الكبير لدولة اسرائيل الكبرى من الفرات الى النيل.
فوز عمر البشير:
الموقف الأمريكى لا يمكن الا ان يكون داعما قويا لفوز عمر البشير في الانتخابات السودانية حتى يمكن تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية بسلاسة وهدوء. الرئيس البشير فى هذه المرحلة هو الكرت الرابح للمصالح الكبرى في الخطة الأشمل. ينسجم ذلك تماما مع سحب عرمان من السباق الرئاسي, ويتبع ذلك بالضرورة الايعار للناخبين فى الجنوب التصويت لصالح المرشح الرئاسي عمر البشير مما يمكنه من الفوز بسهولة على منافسيه. بالطبع الموقف الأمريكي كان منسجما تماما مع تنفيذ استراتيجيته حين ضرب عرض الحائط بالمطالبات الكثيرة للمعارضة والاشتراطات الضرورية لنزاهة وحرية الانتخابات. غض المبعوث الأمريكي الطرف تماما عن الخروقات الواضحة والانتهاكات الصريحة للقواعد والأسس المتعارف عليها دوليا لقيام انتخابات حرة ونزيهة. يتسق ذلك أيضا مع الموقف الأوربى اذ لم ينسحب المراقبون الأوربيون كليا حين تكشفت الانتهاكات فى عملية الانتخابات. يتضح بجلاء ان الولايات المتحدة وحلفاءها لا تهمهم نزاهة انتخابات أو عدم نزاهتها بقدر ما تهتم بتحقيق اهدافها بعيدة المدى في المنطقة والتي باتت على مرمى حجر, ولن تهدر هذه الفرصة بالالتفات الى نزاهة الانتخابات. ولا تحتفي الولايات المتحدة بحق الشعب السوداني في أن يختار من يراه أهلا لقيادته. تتحدث الولايات المتحدة عن الديموقراطية بينما تدعم رئيسا أتى الى سدة الحكم على فوهة البندقية وجثم على صدر شعبه وذله وأفقره لنيف وعشرين سنة عجافا, ثم تدعمه على رؤوس الأشهاد ليفوز بدورة رئاسية ثانية. الولايات المتحدة لا تعرف صديقا, لا الشعب السوداني ولا عمر البشير. هي تعرف مصالحها فقط وتعرف كيف ومتى تحقق تلك المصالح. وتقتضي مصالحها دعم الرئيس البشير في هذه المرحلة رغم انف الشعب السوداني. يفوز عمر البشير ويتم فصل الجنوب وهذا هو الدور المرحلي للرئيس عمر البشير فى هذه الانتخابات: اعطاء شرعية زائفة لحكم فاسد يتم عن طريقة تمزيق السودان واضعاف أحد أكبر وأقوى الدول الاسلامية والعربية والأفريقية. فالهدف ليس هو الرئيس البشير, بل السودان: تماما كما استغلت الحكام الفاسدين وخلقت الذرائع مثلما صنعت من صدام حسين لهدم العراق, في سيناريو مختلف الاخراج .
المحكمة الجنائية الدولية:
لكن الرئيس البشير سوف يظل مطلوبا للمثول أمام العدالة الدولية بعد أن يكون قد حقق المطامع الامبريالية في تفتيت واضعاف السودان. يكون الرئيس البشير قد ضحى بالسودان في سبيل أن يفدى نفسه. لكن هل تشفع هذه التضحية بالوطن من الملاحقة الدولية ؟
ان التراخى في امر الملاحقة سوف يضع مصداقية الدول الغربية المؤسسة للمحكمة في المحك, خاصة أمام الرأي العام الداخلي في بلدانها. كما ستضع مصداقية الأمم المتحدة ومؤسساتها أيضا في المحك أمام الرأي العام العالمي والغربي بصفة خاصة. المؤسسات والدول الغربية لن تضحي بمصداقيتها أمام ناخبيها وشعوبها وبماء وجهها وتسقط الملاحقة, خاصة وقد حققت ما تريد فى السودان. كما أنه لن تسكت الجاليات السودانية الكبيرة التي شردها نظام الانقاذ بعد أن سد عليها منافذ الرزق في داخل السودان وحرمها حق المواطنة الأصيل في الانتخاب خارج السودان: هذه الجاليات التي تقدر بما يزيد على سبعة مليون سوداني (ما يقرب من ربع السكان), شردهم نظام الانقاذ في شتات المهاجر في كل أصقاع الدنيا. اندمجت الجاليات السودانية المهجّرة قسرا الى خارج البلاد في بلدان المهاجر ومجتمعاتها وصارت جزئا من القوى الاجتماعية – سوف لن تسكت على افلات المتسببين في الجرائم والفظاعات من المساءلة. وأقوى دليل حي على قوة فاعلية سودانيي المهاجر المظاهرات الاحتجاجية التي نظمت في لندن وعواصم أوربية أخرى تطالب بانتخابات حرة ونزيهة والتي جاء أثرها سريعا في الانسحاب الجزئى لبعثة المراقة الأوربية من دار فور. اما الأمم المتحدة فتتوق الى اليوم الذي ترى فيه المتهمين بفظائع دارفور يمثلون أمام العدالة حتى تنفض عن نفسها عار التقاعس والضمير المثقل بالذنب بتكرار مجزرة رواندا في دارفور.ولا أخال أن الرأي العام العالمي والغربي والضمير الانساني سوف يهدأ له بال – بعد مشاهدة كل تلك الصور المروعة للمجازر والفظائع في دارفور- الا بمثول مرتكبيها أمام العدالة فهو كما ترى أمر لا بد أنه صائر. لكن للأسف الشديد يأتي ذلك بعد أن يكون قد أجهز على السودان بلدا وشعبا. كما يسير قولنا السوداني: "ميتة وخراب ديار".
د. أحمد حمودة حامد
الجمعة 09/04/2010
fadl8alla@yahoo.com