أبيي وكادقلي والعودة إلى مربع الصفر

 


 

 



(1)

خلال بضعة أيام، يفقد السودان ربع سكانه وثلث أراضيه و 70% من دخلة النفطي، وذلك حين يصبح جنوب السودان دولة مستقلة، وتتقسم البلاد. وهذه كارثة لأي بلد، وبكل المقاييس. ولكننا، مثل كثير من السودانيين، قبلنا على مضض بهذا الثمن الباهظ ليعود السلام والاستقرار إلى ما تبقى من البلاد بعد أن عانت من حرب استطالت بعمر الاستقلال. ولكن كل الدلائل تشير إلى أن السلام الذي اشتريناه بهذا الثمن الباهظ كان سراباً.

(2)

عادت الحرب إلى الاشتعال في أبيي وفي بقية جنوب كردفان، وها نحن نشهد نفس المسلسل "التركي" الذي خلنا أننا تخلصنا منه: مفاوضات في الخارج، قوات حفظ سلام دولية، "اتفاقيات" و"تفاهمات"، قرارات وقف إطلاق نار، قرارات أممية من مجلس الأمن، عشرات الآلاف من المشردين واتهامات بإبادة جماعية وتطهير عرقي. فكأننا يا "عمر" لا رحنا ولا جئنا!

(3)

يقول بعض القائلين إن الخلل كان في بنية الاتفاقية التي سميت مبالغة "اتفاقية السلام الشامل"، وينحون باللائمة على من فاوضوا ووقعوا. ولا جدال في أن الاتفاقية حفلت بثغرات كثيرة، أبرزها أنها جعلت الانفصال خياراً مؤجلاً، وكان من الأفضل لوحسمت هذا الخيار خلال المفاوضات وضمنت شروط الوحدة في الاتفاق سلفاً. ولكن الأسوأ هو أن الاتفافية شملت ثلاث مناطق هي أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق لن تحسم إشكالياتها عبر الانفصال، وكان أضعف الإيمان هو أن تخرج هذه المناطق تماماً من دائرة الخلاف، ولا تترك فيها أي قضية خلافية مؤجلة، حتى لا يقع ما وقع.


(4)

ولكن إلقاء اللوم على هيكلية الاتفاقية، وحصر اللوم فيمن وقعوها، رغم أن الجميع هلل وبارك وفاخر بذلك "الإنجاز" العظيم، لا يعكس كل الأزمة. فالاتفاقية نصت كذلك على التزامات ومبادئ تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الفدرالي والعدالة بين الأقاليم، ومعظمها لم يطبق منها شيء لا في الشمال ولا في الجنوب. ولو طبقت هذه المبادئ بحرص لربما كنا حافظنا على وحدة البلاد وكسبنا السلام والاستقرار في كل البلاد.


(5)

ليس سراً أن أحد أهم أسباب الفشل في الجنوب يتعلق بتفجر أزمة دارفور التي اشتعلت الحرب فيها بعد أشهر قليلة من توقيع بروتوكول مشاكوس الإطاري في يوليو 2002، وهو الاتفاق الذي مثل العمود الفقري لاتفاقيات نيفاشا. وقد بلغت الحرب ذروتها في عام 2004 الذي شهد الفراغ من التفاوض حول تلك الاتفاقيات، تحت ضغط دولي مكثف أصبحت دارفور عامل ابتزاز فيه. وبسبب أزمة دارفور لم يحصل السودان على "عائد السلام"، لأن العقوبات لم ترفع كما أن البلايين التي تعهد بها المانحون لتنمية الجنوب لم يصل منها دولار واحد.


(6)

لا يقل أهمية عن ذلك هو أن نظام الإنقاذ ظل يتصرف وكأن نيفاشا لم توقع وكأن حرب دارفور لم تحدث. فلم يتم تطوير شراكة حقيقية مع الحركة الشعبية، كما أن القوى السياسية الأخرى ظلت معزولة عن القرار السياسي، بينما لم تنل الأقاليم حظها من التنمية والحكم الذاتي رغم تدفق النفط وارتفاع أسعاره. وقد خلقت وفاة زعيم الحركة الشعبية جون قرنق المأساوية في حادث طائرة بعد أقل من شهر من توليه منصب نائب رئيس الجمهورية ورئاسة حكومة الجنوب فرصة لتعاون بناء مع خليفته سلفا كير ميارديت، وهو رجل متواضع، توافقي التوجه، يسارع إلى طرح الحلول الوسط والقبول بها. ولكن أهل الحكم في الخرطوم اعتبروا توافقية ميارديت ضعفاً، وحملوه ما لا يحتمل، فضاعت الفرصة.

(7)

ما نشهده اليوم في أبيي وجنوب كردفان (مع استمرار الحرب في دارفور) يعيد إلى الأذهان، وإلى شاشات التلفزة، أسوأ مظاهر حرب الجنوب وحرب دارفور معاً، وبنفس الوجوه و "الممثلين" والناطقين ممن كان صمتهم أفضل، ونفس مظاهر التشريد الجماعي للمدنيين والاتهامات بالتطهير العرقي والإبادة. فالأمر إذن أسوأ من عودة الحرب في الجنوب.


(8)

النتيجة المنطقية لكل هذا أن نخلص إلى أن المشكلة لم تكن في الجنوب، ولا في دارفور أو الشرق أو دار المناصير، كما هي ليست اليوم في أبيي أو جنوب كردفان. نحن لا نجزم بأن الحركة الشعبية لم تكن هي التي ارتكبت التجاوزات وبدأت بالعدوان في أبيي، وليس لدينا من المعلومات ما يبرئ أو يدين فرع الحركة في جنوب كردفان حول المسؤولية عن تدهور الأوضاع في ذلك الإقليم. بل أكثر من ذلك، يمكن أن نقول أن تعنت بعض حركات دارفور وتشرذمها هو المسؤول الأكبر عن استمرار أزمة دارفور. ولكن وجود طرف واحد (نظام الخرطوم) هو العامل المشترك في كل هذه الصراعات يطرح تساؤلات مهمة.


(9)

في الرواية القرآنية لقصة موسى عليه السلام، ورد أنه حينما شاهد صاحبه العبراني في اشتباك جديد مع مصري آخر بعد يوم واحد من نجاح موسى في تخليصه من شجار آخر، جزم بأنه "غوي مبين". ولا ينفي هذا أن النظام المصري وقتها كان يضطهد العبرانيين، ويمارس الإبادة الجماعية في حقهم، مما يرجح أن المصري كان هو المعتدي على العبراني. ولكن احتمال أن يكون نفس الشخص هدفاً لعدوان من شخص مختلف كل يوم بدون مبرر هو ضئيل جداً. وقد صدق حدس موسى في الرجل لأنه بادر بالانقلاب على موسى وإفشاء سره، رغم أنه أنقذه بالأمس وكان يسعى لإنقاذه مرة أخرى، مما اضطر موسى للهرب من البلاد واللجوء إلى بلاد غريبة طلباً للأمان.

(10)

إذا كان نظام الخرطوم هدفاً ل "عدوان" كل يوم، و "مستهدف" من القوى الدولية، إما بسبب سياساته الخرقاء أو لأن الناس يسضعفونه، بحيث يستسهل "الغاشي والماشي" (بحسب التعبير السودان) العدوان عليه ويراه صيداً سهلاً، فإن هذا الأمر مدعاة للتأمل، وربما حافزاً على تغيير جذري يحسم هذه المسألة من أساسها.

Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء