المأزق المأساوي لحزب الله: السقوط تحت حوافر الدكتاتورية المتراجعة
د. عبد الوهاب الأفندي
8 July, 2011
8 July, 2011
حتى قبل صدور قرار المحكمة الدولية حول لبنان في الأسبوع الماضي بتوجيه الاتهام لعناصر من حزب الله بالضلوع في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، واجه الحزب امتحاناً عسيراً حول الانتفاضة السورية سقط فيه بجدارة، حين قرر الانحياز إلى القتلة بحجج تشكل في حد ذاتها إدانة للحزب وقيادته. في تلك اللحظة التي خرج فيها زعيم الحزب ليسبغ الثناء على قتلة المتظاهرين العزل في سوريا بدعوى أنهم من أهل الممانعة والصمود، بحيث غفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، لم يحكم الحزب فقط على نفسه بالسقوط كقوة سياسية، بل أدان نفسه كذلك في قضية الحريري. فعندما يعلن الحزب، نهاراً جهاراً، الانحياز لمن يقتلون الآلاف من العزل أمام الكاميرات لا لشيء سوى أنهم عارضوا النظام سلماً، فما الذي يمنع من تعاونه سراً في قتل شخص واحد وقف ضد مصالح نظام "الممانعة الوحيد" في المنطقة؟
النظام السوري اعترف ضمناً بضلوعه في قتل الحريري، حين انسحب صاغراً من لبنان بعد ارتدت تلك الجريمة عليه، وكذلك بعد أن "نحر" حاكمه العام السابق في لبنان، العميد غازي كنعان، الذي تشير الدلائل إلى أنه تولى كبر ذلك الإثم العظيم، للتغطية على الجريمة ومحو آثارها. وعليه فإن الانحياز إلى ذلك النظام، مع العلم بجرمه، يشكل تواطؤاً معه في أثامه السابقة واللاحقة.
كان بإمكان حزب الله أن يفخر، حتى تفجر الثورة السورية في مارس الماضي، بأنه أحد أنجح الحركات السياسية والعسكرية في التاريخ العربي المعاصر، بعد أن نجح خلال عقدين من الزمان في التحول من جناح متطرف في حركة طائفية إلى حزب وطني لبناني يحظى باحترام واسع داخل لبنان وخارجه. ويرجع هذا النجاح من جهة إلى خطاب الحزب الذي جنح إلى استقطاب اللبنانيين بكافة طوائفهم، وإلى حنكة قيادته التي طورت علاقات سياسية إيجابية مع قوى سياسية فاعلة في المجتمع اللبناني. ولكن يبقى أن أكبر مصادر شعبية الحزب جاءت من إنجازاته العسكرية، باعتباره حركة مقاومة تصدت للاحتلال الإسرائيلي وأجبرت إسرائيل على الانسحاب من لبنان عام 2000.
هناك سوء فهم –حتى في أوساط الحزب- لمصادر قوته، حيث يتفق أنصار الحزب إلى حد كبير مع خصومه في نسبتها إلى ترسانته العسكرية ومصادر تمويله من سوريا وإيران. وهذا تبسيط مخل، لأن إمدادت السلاح ليست كل شيء، فكم من دولة عربية تملك إمدادات عسكرية تتفوق عدة مرات على ترسانة حزب الله. ولا يمنع هذا أن حزب الله قد أحسن استغلال موارده العسكرية، وعززها بقدرات استخباراتية واستراتيجية وسياسية، وهو ما فشلت فيه من قبل حركات مقاومة أخرى مثل منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن عوامل أخرى معقدة أعطت ظاهرة حزب الله ملامحها النهائية.
أول هذه العوامل هو قلب ضعف الدولة اللبنانية إلى مصدر قوة لحزب نشأ من انقسامات الشعب اللبناني وصراعاته، ومن نجاح هذه الانقسامات في إضعاف الدولة اللبنانية، وبالتالي خلق فراغات سمحت للمقاومة باحتلالها. وقد نجح حزب الله، بخلاف منظمة التحرير، في تجاوز الخلافات في وقت لاحق، وتوحيد غالبية اللبنانيين حول برنامج المقاومة. ويعود بعض الفضل في هذا أيضاً إلى السياسة السورية التي نجحت، عبر الهيمنة على الساحة اللبنانية، في إقصاء وضرب العناصر المتطرفة والموالية لإسرائيل. ولكن الثابت هو أن حزب الله مد يد التعاون إلى القوى السياسية اللبنانية، ونجح كذلك في خلق شعبية امتدت خارج لبنان وخارج إطار الطائفة الشيعية.
حزب الله تحت قيادة نصرالله نجح كذلك في القطع مع ماضي الحزب "الإرهابي"، وأعمال الخطف والاغتيالات والتفجيرات، وتحول في النصف الثاني من التسعينات إلى حركة مقاومة منضبطة، ركزت في حربها على الجيش الإسرائيلي والميليشيات المتعاونة معه، وابتعدت بصورة شبه منهجية عن العمليات التي تستهدف المدنيين. وقد اكتسب هذا التوجه صيغة رسمية، شاركت الولايات المتحدة في ضمانها، وذلك عبر "تفاهم نيسان" بعد أحداث قانا (1996)، حيث التزم كل من إسرائيل وحزب الله بعدم استهداف المدنيين في صراعهما.
من هنا فإن مصادر قوة حزب الله تستند إلى عوامل معقدة ومتداخلة، من أهمها ضعف الدولة اللبنانية ووضعها الملتبس، وتحاشي الحزب الصدام مع الدولة اللبنانية أو القوى السياسية الرئيسة في لبنان، إضافة إلى تبني خطاب مقبول من القطاع الأوسع من الرأي العربي والإسلامي. ولكن هذا التوازن الدقيق كان دائماً غاية في الهشاشة. على سبيل المثال فإن المسافة التي نجح حزب الله في خلقها بينه وبين الدولة اللبنانية لعبت دوراً مهماً في منع إسرائيل من تحقيق الانتصار عليه في حربها عام 2006، تحديداً لأن الدولة اللبنانية كانت تجد التعاطف الغربي والدولي والعربي، مما كثف الضغوط على إسرائيل لوقف هجماتها. ومن هنا فإن دموع فؤاد السنيورة قد تكون لعبت دوراً لا يقل أهمية عن صواريخ حزب الله في إجبار إسرائيل على وقف عدوانها دون أن تحقق هدفها في القضاء على حزب الله كما فعلت بمنظمة التحرير من قبل. وبالمقابل فلو تماهت الدولة مع حزب الله كما تتهم حالياً، فإنه سيسهل تصنيفها "دولة مارقة" حلال ضربها ومقاطعتها وفرض العقوبات عليها.
عليه فإن التحدي أمام حزب الله ظل يتمثل في الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع الدولة دون أن يكون قريباً منها، وهو تحدٍ بدأ يواجه صعوبات جمة بعد خروج إسرائيل من الأراضي اللبنانية ثم إخراج سوريا منها، وعودة التنافس السياسي الطائفي التقليدي، بحيث أصبحت شارة المقاومة التي يلبسها حزب الله سلاحاً سياسياً يخشاه خصوم الحزب ومنافسيه كما تخشاه إسرائيل والدول العربية "المعتدلة". وقد سعت هذه القوى، خاصة قوى "الاعتدال" العربي، إلى لعب الورقة الطائفية لضرب حزب الله وتحجيمه، وهي مناورة نجح حتى الآن في تحييدها.
لا يقل أهمية عن كل هذا الدور الذي تلعبه كل من سوريا وإيران في دعم الحزب الذي لا يمكنه الحفاظ على موقعه السياسي والعسكري بدون الأموال الطائلة والأسلحة التي ترده من إيران عبر سوريا، إضافة إلى الدعم السياسي والأمني من البلدين. ولكن العلاقة بهاتين الدولتين هي كعب أخيل الحزب المتهم من قبل خصومه ومنافسيه بأنه ينفذ أجندة أجنبية ولا يعدو أن يكون أداة في يد أنظمة قمعية. وهنا أيضاً نجح الحزب حتى الآن في حفظ توازن دقيق جعله يحتفظ بعلاقاته المتميزة مع الدولتين دون أن يتلطخ بأوحال أنظمتهما.
أما في هذه اللحظات، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الشام وتكشير النظام السوري عن وجهه القمعي والطائفي القبيح، فإن حزب الله مهدد بأن يجر إلى القاع مع هذا النظام الذي أخذ يغرق في دماء الأبرياء، وهونظام لا مستقبل له إلا كما كان لنظام صدام في العراق مستقبل بعد غزو الكويت، أو لنظام القذافي مستقبل بعد بداية قصف حلف الأطلسي. ففي الحالين سيكون مشغولاً بالبقاء، ومصارعة العقوبات، واستجداء دقائق إضافية عبر تنازلات تصل تفتيش غرف النوم، ولكنها لن تجدي شيئاً. ولعل حزب الله مساءل هنا لماذا لم يقف مع نظام صدام إذا كانت الممانعة الصورية هي مقياسه لدعم الأنظمة؟ ولماذا لم يدعم النظام الليبي كذلك؟
في كلمته التي صرح فيها الشهر الماضي لأول مرة بدعم النظام السوري، ميز الشيخ حسن نصرالله بين النظام السوري ("نظام الممانعة الوحيد في المنطقة") وبين أنظمة لها إرادة ممانعة نظرية (لعله يقصد السودان) ولكنها واجهت الحصار وخطر التقسيم، وعليه افتقدت الفاعلية. وهذا الوضع ينطبق اليوم بصورة أقوى على النظام السوري الذي لم تكن ممانعته في الماضي تتجاوز الخطب الموسمية واستخدام المقاومين أداة في سياسته الخارجية، ولكنه على كل حال أصبح اليوم في حال أسوأ من السودان وأحسن قليلاً من الصومال.
ولعله من الممكن أن يقال إن مازق حزب الله سابق على أزمته الأخيرة، ويعود إلى لحظة خروج إسرائيل من لبنان، وقد تعمق حين تبعتها سوريا، مما طرح قضية نزع سلاح الحزب، إما بالتخلي عنه، أو استنفاده في حرب مع إسرائيل، أو الاندماج في الدولة. ولكن المواجهة مع إسرائيل مؤجلة حالياً لأنها لا تتوافق مع أجندتي سوريا وإيران. وعليه فإن حزب الله أصبح مشروع مقاومة مؤجلة إلى أجل غير مسمى، مثلما أن سوريا كانت دولة ممانعة مؤجلة. ولكن كلا الطرفين يصر على اقتضاء ثمن تلك المقاومة/الممانعة المسوفة حاضراً: في رخصة لاستبقاء نظام إقصائي قمعي، أو رخصة للهيمنة على مؤسسات الدولة الأمنية، وبالتالي عملياً على الدولة.
وقد وضع سقوط ورقة التوت السورية للمرة الثانية (بعد "الهروب الكبير" من لبنان عقب كارثة مقتل الحريري) الحزب أمام الامتحان الذي سقط فيه بانحيازه غير الأخلاقي إلى جمهورية الشبيحة والقتل الطائفي. لقد كان الرأي العام العربي في مجمله يعتقد ببراءة حزب الله من دم الحريري، ويرفض التحريض الطائفي ضده. أما الآن فلم يعد مهماً أن يدان الحزب عدلاً أو ظلماً بذلك الجرم، لأنه أثبت أنه لن يتورع عن مثله، بل لا يرى في القتل والاغتيال دفاعاً عن "نظام الممانعة" إثماً أصلاً. وهذا يعني أنه لو طلب من قيادة حزب الله المشاركة في جرم قتل الحريري أو غيره، أو التستر على مثل ذلك الجرم، لما ترددت ولما تلبثت طويلاً أو يسيراً. مهما يكن، فإن اغتيال الحريري لم يكن أول جرائم النظام السوري ولا أكبرها، فكم من بريء سجن وعذب وقتل، وهي جرائم لم تكن تخفى على حزب ينسب نفسه إلى الله ويلتحف مع شياطين الإنس.
وإنه لحقاً سقوط مأساوي لرمز كانت له مكانته في مخيلة كثير من العرب، وسقوط للأقنعة يضاف إلى خيبات العرب التي لا تنتهي، وعيد من أعياد إسرائيل ودول "الاعتدال" إياها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]