تجارب عبد الله عبيد بانوراما واسعة للحياة السودانية
محمد الشيخ حسين
8 October, 2011
8 October, 2011
abusamira85@hotmail.com
ما علاقة المذكرات والسير الذاتية بالكتابة التاريخية؟
ما الفارق بين كتب السيرة وكتب التراجم والطبقات؟
هل تعتبر السير والمذكرات مصدرا من مصادر التاريخ أم مجرد مصدر ثانوي يستأنس به أحيانا؟
ما هو شأن الصورة الفوتوغرافية في معرفة التاريخ؟
كيف يمكن التفريق بين الوثيقة التاريخية والأوراق التاريخية؟
تملأ هذه الاسئلة السبع الذهن تماما عند مطالعة الطبعة الثانية من كتاب الأستاذ عبد الله عبيد (تجارب وذكريات).
عبد الله عبيد اسم مهم في حركة الصحافة السودانية منذ خمسينيات القرن الماضي. فهو من ذلك الرعيل الذي ربط بين الصحافة والحركة الوطنية. وينتمي أيضا إلى ذلك الجيل الذي صنع نهضة ماتزال تعيش في ظلالها الصحافة السودانية.
عبد الله عبيد من أبناء أمدرمان الذين تربوا على ثقافة مفتوحة أيام كانت الثقافة عملا جماعيا جادا وخلاصا فرديا مميزا، ولم تكن قد أصبحت تجارة أو عمليات (استهبال)!
يقدم عبد الله عبيد في بساطة شديدة أنموذج اليساري الموصول بثقافة العصر ومشكلاته. ويرسي بما يحمل من صفات المناضل المتكامل، صورة القدوة لأجيال بأكملها في الحركة اليسارية، انفتحت على ثقافة العصر وجعلت السياسة عملا نبيلا يهتم بقضايا الناس في طرف الشارع، ثم يزرع الاهتمام بمشاكل الغبش ويضعه في قلب المسؤول الدستوري أو الشعبي، لأنه سبيله للتغيير نحو الاشتراكية والعدالة الاجتماعية.
ورغم أن الفهم المسيطر على السياسة السودانية يصلها بالحيل والمكائد، إلا أن عبد الله عبيد ومن لف لفه باشر التعاطي معها بوصفها قلعة النضال التي تقود مشروع الحياة إلى الأفضل.
لقد كان السودان سياسيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكانت الحركة الوطنية في البلاد تعتبر أن السياسة هي الطريق الوحيد، وكل ما هو أساسي وقيم هو سياسي والأدب والفكر تابع يسبح بحمد السياسة والساسيين.
في روائح ذلك العصر كان عبد الله عبيد حسب شهادة طيب الذكر الأستاذ أحمد سليمان (من الرفاق المحترمين يقيمون دنيا الأخ أبارو ولا يقعدونها ومن قبله شيخه المرحوم بابكر الديب طيب الله ثراه). ويستطرد الأستاذ أحمد سليمان (يقال إن الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري كان يدمن قراءة عمود طرف الشارع ومناوشته الرئيس وحزبه).
مثل قطار سريع يلهث بين محطات بعيدة في اتجاهات متعددة يتنقل عبد الله عبيد عبر 186 صفحة، بينها 38 صفحة من الصور الفوتغرافية، على مساحة زمنية تمتد لـ 60 عاما. وقبل أن تنطلق الرحلة يطلب من القارئ أن يصدقه القول إنه (قد قرر أن يسجل تجربته الشخصية في العمل الوطني العام والصحافي والعمل السري في الحزب الشيوعي والحقل الرياضي عسى ولعل أن تجد فيه الأجيال الحالية والمستقبلية ما يفيد).
ولعل هذا التواضع يدعم غنى التراث السوداني بهذا الحقل من التدوين، ويعيد التذكير بكتاب الطبقات، وسائر التراجم والسير المخطوطة والمدونة في تاريخ كتابة السيرة السودانية القديم منها والجديد.
أما جديد عبد الله عبيد، فهو أن تجاربه وذكرياته لا تكتفي بمجرد التركيز على المذكرات والسير الذاتية كمصدر لتاريخنا الحديث، بل تشكل مادة أساسية لدراسة التاريخ، فهي تقدم شهادة شخصية صادرة من مشارك في صنع الحدث، وتغوص في تفصيلات إنسانية من الصعب العثور عليها في الكتب العادية.
يروي عبد الله عبيد عدة أحداث في أزمان متعددة بمخيلة متكاملة، ذلك أن التاريخ يلتقي السيرة في وحدة الزمان والمكان وفي الفعل والمعنى.
رغم أن النقاد يميزون بين السيرة المكتوبة بقلم صاحبها والسيرة المروية بقلم باحث آخر، إلا أنهم يخلصون إلى أن الضرورة تحتم تضافر التاريخ والسيرة معا لتكوين المعرفة التاريخية. وهنا تكمن بالدرجة الأولى قيمة تجارب عبد الله عبيد، في أنها سيرة ذاتية لمثقف ثقافة حديثة يعيش في مجتمع تقليدي. وفوق ذلك فإن كتاب تجارب وذكريات عبد الله عبيد عبارة عن بانوراما واسعة للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في السودان في النصف الثاني من القرن الماضي حتى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي.
ويبدو لي أن التربية الماركسية الصارمة لعبد الله عبيد قد مكنته من تجنب اشكالات الزمن التاريخي في كتابة المذكرات. واستنادا إلى تعريف مارك بلوخ للتاريخ بأنه (علم البشر في الزمن وليس علم البحث في الماضي)، فإنه تجاوز بحرفية ماهرة مرض الذاكرة الذي يؤدي إلى اختلاط الأزمنة. فترى الذاكرة حاضرة ومنتعشة حين يحدثك بتفاصيل شيقة عن عشقه في السابعة من عمره للعب الدافوري في شارع الشنيقطي وحدث ذلك في منتصف الثلاثينيات. وترى أيضا ذاكرة عبد الله عبيد بعد نحو 70 عاما من لعب الدافوري، أكثر حضورا وإشراقا حين يتناول في تفاصيل مملة التجربة الفريدة لاختيار نائب دائرة شندي رقم 6، وكيف أن (أهل الرأي والمشورة أجمعوا على شخص واحد من القادة الصادقين المتجردين ليشرفوه بهذا التكليف).
ورغم أن عبد الله عبيد يسرد في أكثر من خمس صفحات الجهود الجبارة التي بذلها الدكتور نافع علي نافع في تطوير المنطقة، إلا أن الإجماع الذي وجده من أبناء المنطقة يمثل عنده منعطفا مهما في تاريخ الانتخابات البرلمانية، إذ يندر أن يتفق أبناء دار جعل على مرشح للبرلمان بمثل الإجماع الذي وجده الدكتور نافع علي نافع.
حين يعود عبد الله عبيد إلى ملاعب الصبا لا يكتفي بسرد ملامح من تاريخ حياته، بل يغوص بنا بانبهار شيوعي قديم في أعماق رحلته السرية إلى الصين. وحين ينتقل إلى عطبرة كشيوعي متفرغ يسجل ذاكرة مدينة من خلال رصد حركة الانتقال وتحولاتها من مدينة صغيرة إلى (مثابة برولتاريا) تعج بحركة جعلتها مقصد المناضلين والثوار والأحرار.
والسيرة الذاتية التي انتهجها المؤلف في عطبرة كانت أشبه بتوثيق لذاكرة المجتمع الشيوعي، فقد التحق بفريق كرة القدم بناء على تعليمات لجنة الحزب التي عقدت أكثر من اجتماع لكي تحدد له الفريق الذي يعبر عن الطبقة العاملة. وتكاد تحس معه بالسعادة، لأنه عندما قرر أن يتزوج واختار إبنة خاله، وافق الحزب الشيوعي على الزواج وتمنى له التوفيق. ثم يوثق لكثير من ترابط وتكافل الشيوعيين، حيث سجلت ذاكرته تفاصيل حفل المرطبات والمبالغ التي جمعت لإكمال الزواج ورحلة السيرة بالقطار من عطبرة إلى شندي وحفلات غنى فيها الفنان المخضرم حسن خليفة العطبرواي وقدم الدكتور مكي سيد أحمد مقطوعات موسيقية، وحدث كل هذا والعريس لم يكن يملك جنيها واحدا.
وطغى في هذا الفصل المعنون (تجربة زواج شيوعي متفرغ) السرد القصصي الشائق الذي لا يخلو من مفارقات حين نعلم أن العريس خرج من هذا الزواج (البراجوزي الضخم) بمبلغ 700 جنيها وغرفة نوم من المعلم عيسى في سوق أمدرمان بـ 120 جنيها ظلت تؤدي خدماتها منذ العام 1957 حتى الآن.
في تعريفه للسيرة الذاتية يقول فيليب لوجون: هي حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة. إذا كان هذا هو التعريف الذي يميز السيرة الذاتية في مجال الكتابة الأدبية عادة حيث السارد هو البطل ومصدر الأحداث والمعلومات، فما نرمي إليه هنا هو تجارب وذكريات عبد الله عبيد تنقلنا بين حين وآخر من مجالها الخاص إلى المجال العام، وحين يتناول استدعاء الراحل فاروق عثمان حمدنا الله وزير داخلية مايو في سبتمبر 1969 لجميع قيادات الحزب الشيوعي، لا يغوص في تفاصيل اللقاء المتعلق باكتشاف أسلحة في مزرعة اتهم الحزب الشيوعي بإخفائها، بل يبتسرها خاصة رد الأستاذ عبد الخالق محجوب على حديث الوزير، والشاهد أن التفاصيل مطلوبة هنا بشدة لكي نقف على طبيعة العلاقة التي ربطت مايو بالحزب الشيوعي.
يكثر الحديث عن الالبوم الفوتوغرافي الخاص والعام كمصدر لدراسة التاريخ، وهنا تجدر الإشارة إلى غياب الارشيف الصوري السوداني. وربما يعزى السبب إلى طريقة الحفظ أو تمزق النسيج الاجتماعي والمؤسساتي، إذ لم تبق إلا بعض الصور لدى عائلات هنا وهناك.
وهذا الكتاب غني جدا بمحتواه من الصور بعضها نادر وكثير منها طريف تجد عبد الله عبيد لاعب الكرة الماهر في أول فريق قومي سوداني، وتراه جالسا على كنبة حديقة في موسكو مع الشاعر الفذ عبد المنعم عبد الحي، وتجده راقصا مع فرقة شعبية في الصين، ولا تندهش إذا رأيته بملابس تنكرية مع حرمه في القاهرة في رحلة شهر عسل نفذت بعد 50 عاما من زواجهما.
ولعل ذكريات وتجارب عبد الله من الكتاب القليلة في مجال نشر الصور التي ترتبط بموضوعات الكتاب وتثريها بصريا. وربما تحتاج بعض هذه الصور إلى ترميم أو صيانة نأمل أن يتمكن المؤلف في طبعة ثالثة من تحسينها.
تجارب وذكريات سيرة ذاتية، تحمل عشرات الأسئلة والكثير من الأفكار حول الماضي والمستقبل، لكنها ليست سيرة ذاتية معتادة، فالمؤلف لا يذكر هنا إنجازاته وما فعله في حياته، لكنه يتساءل عن الحياة والناس من حوله.
في 148 صفحة و34 صورة يتحدث عبد الله عبيد عن حياته وما فعلته خلال الـ 65 عاما التي قضاها بين الصحافة والسياسة وكرة القدم وخدمة الناس.
ينتقل من موضوع إلى آخر برشاقة وروعة، تثير الكثير من الأسئلة في دواخلنا بعد أن جعلته هذه الأسئلة يؤلف هذا الكتاب.
وكأن عبد الله عبيد يقول في النهاية لأ أظن دائما أن الناس لن تفهم هذه الأفكار، فقد كف منذ وقت عن أن يبررها أو يبرر نفسه لأحد.
بصراحة، كتاب مليء بالحكمة والمواقف الرائعة.