حكومات الفلول في وادي النيل
د. عبد الوهاب الأفندي
9 December, 2011
9 December, 2011
(1)
في مصادفة ذات مغزى، تم في يوم واحد الإعلان عن حكومتين جديدتين-قديمتين في مصر والسودان. وكانت مصادفة أيضاً أن شارك في الحكومة السودانية الفصيل الأكبر من فصائل الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي كان يدعو للوحدة مع مصر (شارك فصيل منافس في الحكم منذ عام 1997). ويبدو أن الانتساب إلى الديمقراطية في اسم ذلك الحزب أصبح شعاراً أجوف مثل الانتساب إلى الفكرة الاتحادية التي اندثرت.
(2)
في مصر كما في السودان، يعتبر التشكيل الجديد محاولة أخيرة ويائسة من النظام القديم الآئل إلى الاندثار للتحكم في آليات التغيير بحيث يتاح الإبقاء على أقصى قدر ممكن من هياكل النظام القديم والحفاظ على مكاسب القوى التي تقف خلفه.
(3)
هناك بالطبع اختلافات مهمة بين الحالتين، أولها أن النظام المصري القديم قد انهار فعلاً، وأخذت "فلوله" وما تبقى من هياكله، وعلى رأسها الجيش، تلملم أطرافها في مواجهة طوفان شعبي عارم، بينما النظام السوداني ما يزال ينتظر طوفانه الوشيك. فرصة النظام المصري القديم في الاحتفاظ بشيء من مكاسبه أفضل كذلك، لتواضع مطالبه واستعداده للالتقاء بخصومه في منتصف الطريق، خاصة بعد أن خسر المعركة الكبرى. أما النظام السوداني فما يزال يعيش أوهام أنه يمكن أن يحتفظ بكل شيء، بما في ذلك مناصب ومواقع أشخاصه المسؤولين عن أسوأ ممارساته.
(4)
اختيار كمال الجنزوري لمنصب رئيس الوزراء، وائتمانه على مصالح العهد القديم يبرره أن الرجل كان يمثل "الجناح الناصري" في نظام مبارك، ولم يتلوث بالفساد كثيراً. فهو بالتالي جمع الحسنيين، لأنه أيد سياسة الانفتاح وكل توجهات مبارك الموالية للغرب، مع إصراره على إضافة نكهة "اشتراكية" لمعادلة الروائح الكريهة التي كانت تفوح من النظام وممارساته. وهذا قد يشفع له عند البعض ويزيد من فرصه في مصالحة القديم والجديد.
(5)
ما حدث في الخرطوم، بالمقابل، يمثل حالة انتحار جماعية للنخبة السياسية الشمالية، لأنها ضمت كل عيوبها الكثيرة إلى بعضها البعض بدلاً من أن تعرض مزاياها القليلة. فقد كانت أهم مزايا نظام الإنقاذ أنه طرح فرصة حقيقية لتطوير نظام سوداني جديد يخلو من نقائض الاستقطاب الطائفي والعرقي والجهوي، بينما كانت عيوب الأحزاب الطائفية المعروفة تتضاءل أمام تمسكها المبدئي بالديمقراطية.
(6)
حينما أطلق أديبنا الراحل الطيب صالح عبارته المشهورة في ذم أهل نظام الإنقاذ في شكل تساؤل: "من أين أتى هؤلاء الناس؟"، كان يندد في مقولته تلك بما رآه الكثيرون تنكراً من تلك الفئة لقيم التسامح والتعايش التي عرف بها أهل السودان. ولكن هذه المقولة كانت تعبر عن انتقاد مبطن آخر عبر عنه كثيرون في مجالسهم الخاصة، وهو الإيحاء بأن هذه الفئة جاءت من خارج النخبة التقليدية. وبالفعل فإن النخبة الإنقاذية أتت من الهوامش المتعددة للسودان: من دارفور ومن جبال النوبة وجيوب الفقر في الشمال والشرق والوسط.
(7)
كانت الحركة الإسلامية التي جاءت بهؤلاء، قبل أن تجتاحها جائحة الإنقاذ، وعاء يجمع بين منتسبيها على أساس الكفاءة والعطاء، بدون سؤال عن نسب أو قبيلة. وقد رفع الله بفضلها قوماً ما كانت تتسع لهم مواعين النخب التقليدية. ولكن القوم ما أن توسدوا السلطة حتى نسوا كل ذلك. كانت البداية إعادة إدخال القبلية كأداة للتصنيف والتجييش. ثم تم إدخال الطبقية، حيث ضم قادة النظام وكبار أنصاره أنفسه إلى طبقة كبار الرأسماليين قبل أن يتوحدوا مع بقية المتمولين الذين أصبحوا يدخلون في المؤتمر الوطني أفواجاً. والآن فإن مسك الختام كان إعادة الطائفية إلى قلب السياسة عبر تعيين أشخاص في مناصب عليا بدون مؤهلات سوى النسب. وفيما يتعلق بالاتحاديين فإن التصالح مع النظام هو تتويج للتحالف الرأسمالي، إذا أن كثير من أنصار الحزب من الرأسماليين قد انضموا إلى النظام سلفاً.
(8)
كانت هناك فرصة في السودان لاستباق ربيع الثورات العربية ببناء نظام ديمقراطي ذي مرجعية إسلامية، يتخطى الطائفية دون أن يصادمها، ويوحد قبائل وأعراق السودان كما وحدتهم الحركة الإسلامية، بدلاً من أن يضرب بعضهم بعض، ثم يكون حرباً عليهم جميعاً، من المناصير شمالاً إلى النوبة جنوباً. ولكن بح صوتنا ونحن ندعو لذلك النهج دون فائدة بعد أن فضل من رفعهم الله بالإسلام أن يخلدوا إلى تراب أوهام السلطة لأشخاصهم، ففسدوا وأفسدوا.
(9)
لكن لعل الخدمة التي يسديها النظام بحركته البهلوانية الأخيرة هي توجيه ضربة قوية للطائفية التي خسرت ورقة التوت التي كانت تستر بها دكتاتوريتها الوراثية، فأصبحت عارية من كل زينة. ونحن نرى بوادر تمرد شعبي واسع ونخبوي واسع ضد الطائفية التي كان كثيرون يتمسكون بقشتها في وجه الدكتاتورية. أما وقد أصبحت الطائفية والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة، فإن السودانيين أمام فرصة تاريخية للتحرر منهما معاً.
(10)
أهل الإنقاذ لم يدركوا حتى الآن أن تزيين ظاهر النظام بإضافة أطراف صناعية من كل شكل ولون لن يغير شيئاً ما لم يتغير جوهر النظام وتوجهاته، بل بالعكس فإن هذه الأطراف ستتلوث وتفقد رصيدها السياسي وتنتهي في المزبلة الكبيرة لحلفاء النظام السابقين.
(11)
التحدي الماثل في مصر كما في السودان يتمثل في بناء نظام سياسي يستوعب التعددية. فالطائفة والقبيلة والعرق كلها مكونات مشروعة من مكونات الهوية الوطنية، والرأسمالية لها دورها كما النقابات، والقوى الإسلامية والعلمانية لها وجودها وتطلعاتها المشروعة. ولكن الإشكال يأتي حين يلجأ العلمانيون أو الإسلاميون إلى الدكتاتورية لقمع خصومهم، أو حين تستغل الطائفة أو القبيلة لتمزيق الأمة واستعباد الكثرة للقلة، أو حين تستظل فئات معينة بالاستبداد لتثرى على حساب أهل الحقوق.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]