حول أصول سكان السودان 20
د. أحمد الياس حسين
10 December, 2011
10 December, 2011
من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية
د. أحمد الياس حسين
كلية التربية جامعة الخرطوم
ahmed.elyas@gmail.com
وصف بلاد مريس وباقي أرض مُقُرة 3
وصف ابن سليم للمنطقة
سنتتبع هنا ماتبقي من وصف ابن سليم الاسواني (كتاب أخبار النوبة في مسعد، المكتبة السودانية ص 93 - 97) لبلاد مريس بالاضافة إلى ما أورده عن بلاد مقرة شمال مدينة دنقلة. بدأ ابن سليم حديثه عن منطقة الشلال الثاني بمدينة تقوى التي ذكر أن: "أوّل الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى، وهي ساحل، وإليها تنتهي مراكب النوبة المصعدة من القصر أوّل بلدهم" ووضح ابن سليم أن المراكب الآتية من الشمال نحو الجنوب تنتهي إلى هذا المكان. كما إن التجار أيضاً لايسمح لهم بعبور هذه المنطقة والدخول في مملكة مقرة. ويمكن فقط العبور جنوباً لمن يحمل إذناً من حاكم الاقليم المعروف بصاحب الجبل.
ووصف ابن سليم النيل في هذه المنطقة بكثرة الجنادل التي تعترض مجراه ويصعب على السفن عبورها، كما إن البر أيضاً يصعب عبوره لوعورته. وذكر أن الرمال والجبال تتصل بالنيل في هذه المنطقة الأمر الذي يجعل عبورها في البر والبحر أمراً صعباً ولذلك أصبحت ملجأ للسكان عندما يتعرضون لهجوم من الشمال. ويفسر هذا كيف ظلت مناطق مملكة مقرة جنوب الشلال الثاني منعزلة عن المؤثرات الاسلامية والعربية لعدة قرون حتى فتح المماليك هذا الباب في القرن الثالث عشر الميلادي (7 هـ).
ولم يذكر ابن أبي الفضائل وابن الفرات مدينة تقوى عندما وصفا خط سير حملة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس إلى دنقلة كما تناولنا ذلك في مقالنا السابق، وتحدثا عن هذه المنطقة تحت اسم جزيرة ميكائيل، ووصفها ابن أبي الفضائل (كتاب النهج السديد في مسعد، المكتبة السودانية ص 252) بكثرة الجنادل، بينما وصفها ابن الفرات (تاريخ الدول والملوك في مسعد، ص 261 و267) بأنها "رأس جنادل النوبة وهي كثيرة الأوعار وفي وسط البحر"، بينما تحدث عنها النويري (نهاية الأرب ص 226) تحت اسم جزائر ميكائيل مما يوضح أنها كانت عدداً من الجزائر. ويؤيد ما ذكره النويري وصْف ابن الفرات (ص 267) لها بإن "بها بلاداً"، كما أضاف بعد ذكره لجزيرة ميكائيل "جزائر الجنادل" مما يوضح أن المنطقة كان بها عدد من الجزر على طرفي الشلال.
ووضح ابن سليم أن منطقة تقوى تابعة لأرض مريس وهي آخر حدود إدارة صاحب الجبل جنوباً. كما ذكر ابن سليم شُحّ مواردها الزراعية، فنخلها وزرعها قليل، ومعظم أهلها يعتمدون على السمك في غذائهم. غير أنها كانت غنية بموارها التجارية، فهي المنطقة التي يتم فيها التبادل التجاري بين المسلمين وأهل مملكة مقرة. ووصف ابن سليم صاحب الجبل والي المنطقة بأنه "من أجل ولادتهم، لقربه من أرض الاسلام" ووضح بإن العبور منها شمالاً غير مسموح به إلا بإذن خاص من الوالي.
وإلى الجنوب من مدينة تقوى وعلى بعد ست مراحل منها تقع مدينة المقس الأعلى (عكاشة) التي كانت مركزاً تجاريّاً وعسكريّاً هامّاً. فقد كانت ترابط بها فرقة عسكرية (مَسْلَحَة) كما في مدينة القصر بالقرب من أسوان، ولا يتبع واليها لصاحب الجبل بل تابع للملك في دنقلة. وذكر ابن سليم أنه شديد الضبط للمدينة، "حتى أنّ عظيمهم إذا صار بها وقف به المسلحي، وأوهم أنه يفتش عليه، حتى يجد الطريق إلى ولده ووزيره"
ولا يسمح لأحد أن يعبر المقس الأعلى جنوباً إلا بعد الحصول على إذن خاص من الملك. وبالطبع فأن ذلك لا يتيسر إلا للوفود أو السفارات الرسمية، ولا يتيسر ذلك للتجار أو غيرهم من عامة المسلمين. وكانت عقوبة من لا يلتزم بذلك – كما عبر ابن سليم – "القتل كائناً ما كان" وواصل ابن سليم "وبهذا الاحتياط تتكتم أخبارهم حتى إنّ العسكر منهم يهجم على البلد إلى البادية وغيرهم، فلا يعلمون به"
والمقس الأعلى هي آخر المناطق التي يتم البيع فيها بالدينار، ففي مناطق ما بعد الشلال الثاني يتم البيع عن طريق المقايضة بالرقيق والمواشي والجمال والحديد والحبوب. ويوجود في هذه المنطقة "السنباذ" ذكر الزبيدي في (تاج العروس ج 1 / ص 1438 موقع الوراق) أن "السُّنْباذَجُ بالضم فسكون النُّون وفتح الذال المعجمة : حَجَرٌ يَجْلُو به الصَّيْقَلُ السُّيوفَ وتُجْلَى به الأسنانُ والجَوَاهِرُ" وضح ابن سليم أن السنباد الذي يخرط به الجوهر، يخرج من النيل في هذه المواضع، يُغطس عليه فيوجد جسمه بارداً مخالفاً للحجارة فإذا أشكل عليه نفخ فيه بالفم فيعرف"
وبعد المقس المقس الأعلى تقع مدينة ساي، وصفها ابن سليم بأنها: "جنادل أيضاً، وهي آخر كرسيهم، ولهم فيها أسقف وفيها بربا" وبربا يعني بها آثار قديمة. وتعتبر مدينة ساي من المدن القديمة في المنطقة والتي يرجع تاريخها إلى النصف الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد. ولذلك لاحظ ابن سليم الآثار القديمة (بربا) فيها.
فقد كانت صاي مدينة هامة في تاريخ المنطقة القديم، فكانت من أهم المراكز التجارية في مملكة كوش – التي عرفت عند المؤرخين بمملكة كرمة - في الألف الثالث قبل الميلاد. ويرى آدمز (رواق النوبة ص 209 و214 و361) إنها بناءً على ما نُقٍّب فيها من آثار لا تقل أهمية في المجال التجاري عن مدينة كرمة عاصمة المملكة. وظلت من المدن الهامة بعد سقوط مملكة كرمة ، وظهرت ضمن المستوطنات الصغرى بعد انهيار مملكة مروي.
وفي العصر المسيحي كانت مدينة صاي كرسي أسقفية في مملكة مقُرّة. وقد ذكر فانتيني (تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة ص 53) أن مملكة مقرة كان بها خمسة كراسي أسقفية في دنقلة وصاي وشنقير التي يظن أنها قرب أبو حمد، وكلمة ومركي، وذكر أن هذين الموقعين الأخيرين ربما كانا في بلاد المحس.
وأطلق ابن سليم على المنطقة الواقعة جنوب مدينة صاي "ناحية سقلوذا"، ووصفها بأنها "أشبه الأرض بالأرض المتاخمة لأرض الإسلام في السعة والضيق في مواضع، والنخل والكرم والزرع وشجر المقل، وفيها شيء من شجر القطن، ويعمل منه ثياب وخشة، وبها شجر الزيتون." ويرى كراوفورد (The Fung Kingdom of Sennar p 24 ) أن سقلوذا هي منطقة السكوت الحالية. وذكر ابن سليم أن معنى سقلوذا السبع ولاة، أي أنها منطقة واسعة غنية وكثيرة السكان. ووضح أن تحت واليها ولاة آخرون خاضعين له.
ووفقاً لما نقلة المقريزي عن ابن سليم فإن هذه هي المنطقة الادارية الثالثة لمملكة مقرة، كانت الأولى منطقة الجبل والثانية منطقة المقس الأعلي ثم سقلوذا المنطقة الثالثة، ويُعَين ملك مقرة ولاة هذه المناطق. وتقع في هذه المنطقة قلعة اصطفون، ووضح ابن سليم أنها أول الشلال الثالث، ووصف وعورة هذا الشلال وشدة انحدار المياه فيه. ذكر أنه على بعد ثلاث أبرد توجد مدينة يستو وذكر أنها "آخر قرى مريس وأول بلد مقرة، ومن هذا البلد إلى حد المسلمين لسانهم مريسي، وهي آخر عمل متملكهم"
والبريد كما في لسان العرب لابن منظور(ج 3 ص 82) كلمة فارسية الأصل وتجمع على بُرد، والبريد يساوي إثنا عشر ميلاً، فمدينة يستو أو بستو كما تكتب أحياناً تقع على بعد ستة وثلاثين ميلاً من اصطفون. وهذا المقياس بالميل العربي القديم وهو يختلف في طوله عن الميل الانجليزي المعروف حالياً.
ووضح ابن سليم أن يستو هي آخر مدن مريس وأول بلد مقرة. فإذا افترضنا أن ابن سليم قصد أن يستو آخر مدن مريس من الناحية السكان إذ ينتهي عندها السان المريسي ويبدأ لسان أهل مقرة، نقف أمام باقي الجملة الذي يقول: "وهي آخر عمل متملِّكِهم" ومن الواضح هنا أن الضمير في كلمة " متملِّكِهم " يرجع إلى أهل مريس، أي أن يستو آخر مُلْك حاكم مريس. وقد تواتر في المصادر وكما ذكر ابن سليم نفسه أن حاكم منطقة مريس الذي يطلق عليه صاحب الجبل كان والٍ على المنطقة الواقعة شمال الشلال الثاني وهو تحت طاعة ملك مقرة، فكيف نفسر ما قاله هنا من أن يستو آخر مناطق سلطة متملك أهل مريس.
يلاحظ أن المصادر العربية بما فيها كتاب ابن سليم لا تطلق على حاكم منطقة مريس لقب ملك، بل يطلق عليه صاحب الجبل. وقد أطلق علىه ابن المقفع (تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية في مسعد، المكتبة السودانية ص 82) لقب الأبرخس وهو كما علق مسعد (ص 136) يعني نائب الملك، ووضح أبو صالح الأرمني (تاريخ الشيخ أبي صالح في مسعد، المكتبة السودانية ص 136) شارات السلطة التي كان يلبسها وهي العصابة والقرنين والسوار، ويدل كل ذلك على أهمية خاصة لحاكم الجبل.
ويقودنا هذا إلى التساؤل هل كان حاكم الجبل من سلالة ملوك نوباتيا التي دخلت في أتفاق أو صلح مع مملكة مقرة، ودخل ملوكها تحت طاعة دنقلة عندما واجها هجوم المسلمين، واحتفظوا بسلطاتهم المحلية على بلاد مريس كما حدث بين العبدلاب وملوك سنار؟ ومن الواضح إن بلاد مريس كانت تمتد حتى الشلال الثالث، ولابد أن ذلك المكان كان آخرحدود سلطة ملوك نوباتيا قبل دخولها في تحاد أو تحالف مع مملكة مقرة. فهل عبارة ابن سليم "متملكهم" تلك ترجع إلى ما كانت عليه الحال قبل اتحاد المملكتين وأن المقريزي لم ينقل نص ابن سليم كاملاً؟ على كل حال مسألة وحدة أو تحالف مملكتي نوباتيا ومقرة تحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة، متى تم ذلك التحالف أو الوحدة؟ وكيف كانت شروطه؟ وهل كان صاحب الجبل من سلالة ملوك نوباتيا تتوارث أسرته السلطة؟ وهل كانت لهم علاقة بمملكة دوتاو التي ظلت قائمة في المنطقة حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي؟
ويلاحظ بوضوح أن المواضع التي تعرضت لها المصادر العربية في أرض مريس يقع معظمها بين الشلالين الأول والثاني. فهل كانت هذه المنطقة معروفة للرواة أكثر من باقي أرض مريس الواقعة بين الشلالين الثاني الثالث؟ قد يبدو هذا معقولاً لأن هذه المنطقة شهدت كثافة سكانية أكبر من المنطقة الثانية في فترة ما قبل سقوط مملكة المقرة.
ويوضح الجدول رقم 4 - من خلال ما تم القيام به من تنقيب آثاري – الأوضاع العمرانية في منطقة مريس في فترة مملكة مُقُرة بالمقارنة مع الفترات السابقة واللاحقة لها. يتضح من الجدول أن منطقة شمال الشلال الثاني (منطقة رقم 1) ومنطقة جنوب الشلال الثاني (منطقة رقم 2) لم يختلفا كثيراً في العمران في فترة مقبل سقوط مملكة مروي. فقد وجدت آثار خمسة مستوطنات مسلحة في كل منطقة. وانفردت المنطقة رقم 2 بوجود آثار مدينة واحدة. بينما تم العثور على آثار عدد كبير من المعابد في المنطقة رقم 1 مما يوضح احتمال أن عدد سكانها كان أكبر من المنطقة الثانية.
جدول رقم 4 العمران في منطقة مريس ماقبل وبعد العصر المسيحي
الفترة الزمنية | مدن | مستوطنات محصنة | قرى | معابد | كنائس | جبانات كبري | جبانات صغرى |
منطقة شمال الشلال والثاني (رقم 1) | |||||||
ما قبل سقوط مروي | - | 5 | - | 10 | - | - | - |
عصر بلانة | | 3 | 5 | - | - | 3 | 59 |
عصرمملكة المقرة | 4 | 4 | 3 | - | 33 | - | - |
ما بعد سقوط المقرة | | 4 | 1 | - | 3 | - | - |
منطقة جنوب الشلال الثاني (رقم 2) | |||||||
ما قبل سقوط مروي | 1 | 5 | - | 4 | - | - | - |
عصر بلانة | - | 3 | 4 | - | - | 2 | 21 |
عصر مملكة المقرة | - | - | 2 | - | 13 | - | - |
ما بعد المقرة | | 14 | 2 | - | 1 | - | - |
المصدر: مادة الجدول مجموعة من خرائط من كتاب آدمز النوبة رواق افريقيا ص 214-454
ويبدو أن الوضع العمراني لم يتغير كثيراً في فترة ما قبل سقوط مروي والفترة التالية لسقوطها وهي فترة ثقافة بلانة. فقد تم التنقيب عن آثار ثلاث مستوطنات مسلحة في كلا المنطقتين وخمسة قرى في المنطقة رقم 1 وأربعة قرى في المنطقة رقم 2. إلا أن عدد المدافن التي تم تنقيبها في المنطقة رقم 1 فاقت تلك التي تم تنقيبها في المنطقة رقم 2 مما قد يشير إلى الزيادة في عدد سكان المنطقة الأولى كما كان عليه الحال في عصر ما قبل بلانة.
واختلف الوضع كثيراً في عصر مملكة مُقُرة إذ ازداد العمران بصورة واضحة في الجزء الشمالي من منطقة مريس ( رقم 1) حيث قامت المملكة المسيحية الأولى. فقد وجدت آثار أربع مستوطنات مسلحة وأربعة مدن وثلاث قرى و33 كنيسة. أما في المنطقة رقم 2 جنوب الشلال الثاني فقد تم التنقيب فقط على قريتين و13 كنيسة مما يشير إلى الفرق في العمران بين المنطقتين. وقد يفسر هذا العدد الكبير من أسماء المواضع التي تمركزت في منطقة ما بين الشلالين الأول والثانيفي المصادر العربية.
ويواصل ابن سليم الأسواني وصف منطقة ما بعد مريس الواقعة جنوب الشلال الثالث حيث تبدأ منطقة بقون، ويرى كراوفورد أنها منطقة المحس الحالية. وذكر ابن سليم أن اسمها "بقون" يعني العجب وذلك لحسنها، وأطنب في وصفها فذكر أنه لم ير "على النيل أوسع منها، وقدّر سعة النيل فيها من الشرق إلى الغرب مسيرة خمس مراحل، الجزائر تقطعه، والأنهار منه تجري بينها على أرض منخفضة، وقرى متصلة، وعمارة حسنة بأبرجة حمام، ومواش وأنعام وأكثر ميرة مدينتهم منها، وطيورها النقيط والنوبي والببغا، وغير ذلك من الطيور الحسان، وأكثر نزهة كبيرهم في هذه الناحية."
ويواصل ابن سليم قائلاً: "وكنت معه في بعض الأوقات، فكان سيرنا في ظل شجر من الحافتين في الخلجان الضيقة، وقيل: إنّ التمساح لا يضرّ هناك، ورأيتهم يعبرون أكثر هذه الأنهار سباحة"
ثم بعد بقون تأتي منطقة سفد بقل وهي عند كراوفورد منطقة شمال دنقلة الأصلية وتمثل دار الجوابرة، وصفها ابن سليم بأنها: "ناحية ضيقة شبيهة بأوّل بلادهم إلا أنّ فيها جزائر حساناً، وفيها دون المرحلتين نحو، ثلاثين قرية بالأبنية الحسان، والكنائس والأديار والنخل الكثير والكروم والبساتين والزرع، ومروج كبار فيها إبل وجمال صهب مؤبلة للنتاج، وكبيرهم يكثر الدخول إليها لأنّ طرفها القبليّ يحاذي دنقلة مدينتهم."
وذكر ابن سليم أن المسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بينها وبين أسوان. فإذا كانت المسافة بين دنقلة وأسوان خمسون مرحلة فإن المسافة بين دنقلة وأول بلد علوة تكون أكبر من ذلك. وفي كل الأحوال فإن ذلك يعبر على إتساعهذا الجزء من أرض مملكة مقرة في أعين ابن سليم خاصة وأنهلم يدخله في رحلته. ويثضح من وصف ابن سليم للمنطقة أنها تمتعت بوارد زراعية وحيوانية غنية. فقد أشا إلى وجود عدد كبير من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم في هذه المنطقة، وأضاف أن في هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام، فيها الجبال والوحش والسباع، ومَفَاوز يخاف فيها العطش. وقرر ابن سليم أن ثروات هذه المنطقة تساوي أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام.
وبين ابن سليم أن النيل ينعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس، وإلى مغربها مسيرة أيام، حتى يصير المصعد كالمنحدر، وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف: بالشنكة، وهو بلد يعرف بشنقير، ومنه خرج العمري، وتغلب على هذه الناحية إلى أن كان من أمره ما كان، وفرس البحر، يكثر في هذه المواضع، ومن هذه الموضع طرق إلى سواكن وباضع ودهلك وجزائر البحر، ومنها عبر من نجا من بني أمية عند هربهم إلى النوبة، وفيها خلق من البجة يعرفون بالزنافج انتقلوا إلى النوبة قديماً وقطنوا هناك وهم على حدتهم في الرعي واللغة، لا يخالطون النوبة، ولا يسكنون قراهم، وعليهم والٍ من قبل النوبة.
وقد تضمنت هذه الفقرة عدداً من الإشارات الهامة مثل: منطقة تعدين الذهب في شنقير حيث وصل العمري، وعلاقة مملكة مقرة التجارية عبر طريق هذه المنطقة، ووجودبعض عناصر البجة (الزنافج في المنطقة). ومن المعروف أن وادي العلقي الذي اشتهر كمصدر هام للذهب في تلك الفترة يمتد نحو الجنوب الشرقي حتى يكون قريباً من النيل عند منطقة أبو حمد. وهي المنطقة التي وصلها العمري في بحثه عن الذهب.
وقد بدأ اهتمام المسلمين بماطق الذهب كما ذكر ابن حوقل (في مسعد ص 67 - 68) عندما عاينوا آثار عمل الرومان في هذا المعدن أثنا حربهم للبجة عام 232 هـ. وعاد المسلمون بعد نهاية تلك الحرب إلى مناطق التعدين، ثم تكاملت القبائل العربية في تلك المناطق عام 238 هـ. وقد تناول المقريزي بالتفصيل في كتابه المُقَـفَّـى (في مسعد المكتبة السودانية صفحات 355 - 371) قدوم العمري للمعدن وأحداث الصراع بينه وبين مملكة المقرة الذي دام وقتاً طويلاً صاحبه النزاع بين ابن ملك مقرة وقائد الجيش ودخول العمري في ذلك الصراع ونشوب صراع بين القبائل العربية في جيش العمري.
وأخيراً انتهى الصراع بهزمة العمري وتقهقره على النيل حتى وصل بالقرب من أسوان وكان ابن طولون حاكم مصر في ذلك الوقت قد أرسل جيشاً إلى أسوان وظل يراقب أحداث الصراع بين العمرى وجيوش مقرة. ولما قدم العمري بالقرب من أسوان اشتبك مع جيش ابن طولون وهزمه، لكنه لقي حتفه غيلة على يد بعض أعوانه. ومن الجدير بالملاحظة أن ملك المقرة اقطع بعض جنود العمري من الشاميين الكثير من المناطق جنوب الشلال الثاني في منطقتي ادندان وجبل عدا عندما انفصلوا من جيش العمري، ولم توضح المصادر ما آل إليه حالهم بعد نهاية الصراع.
وقد أشار ابن سليم في الفقرة أعلاه إلى الطرق التي ربطت مملكة مقرة بمواني البحر الأحمر في باضع وسواكن ودهلَك، وسنرجع إليها لاحقاً في مقالاتنا، كما أشار إلى وجود قبيلة الزنافجة البجاوية في المنطقة ووضح أنهم تابعين لممكة مقرة. وقد تحدثنا عن هذه القبيلة في مقالاتنا السابقة التي تناولت قبائل شرق السودان.