ورحلت حفيدة ماري أنطوانيت عاشقة باب السنط في أمدرمان
رحلة البحث عن الذات قادتها إلى تدريس الفقه في الجامعة الإسلامية
abusamira85@hotmail.com
انتقلت إلى جوار ربها عصر الثلاثاء السادس من ديسمبر الحالي الدكتورة فيفان أمينة ياجي أرملة الدكتور محمد أحمد ياجي الوزير والسفير السابق. وقبل أن يرخي ليل يوم وفاتها سدوله كانت الراحلة حفيدة ماري انطوانيت قد استقرت في مثواها الأخير، ولست أدري إن كانت أمنية أم حلم أم مغامرة حين قادت رحلة العثور على وطن خلف كواليس الذاكرة الراحلة قبل أكثر من نصف قرن من الزمان إلى أمدرمان، لكي تقع في هوى تلك المدينة وتستعيد فيها ذلك الظل الخافت في أنفاسها، ومن ثم تعيش حالة العشق والانتماء لتلك المدينة الطيف الذي زارها خلسة في مطلع الصبا الباكر، وحين وجدتها في أمدرمان استعادت تفاصيل الدفء الذي كانت تبحث عنه خلف حدود ذاكرة كانت تردد مع الراحل عبد المنعم عبد الحي (لو إنسان صبح قصة .. أنا القصة يا أمدرمان).
وتحمل ثنايا هذه القصة تفاصيل حياة إنسان بدأت مع خواتيم الحرب العالمية الثانية في عاصمة النور والجمال باريس. بطلتها فتاة فرنسية من أسرة عريقة تصل جذورها إلى ماري أنطوانيت، لكن رحلة البحث عن الذات في الأجواء التي خلفتها الحرب الكونية الثانية في أوروبا، قادتها إلى تعلم العربية واعتناق الإسلام، ومن غيرت اسمها إلى أمينة بدلا من فيفان.
ومن ثم ارتبطت بشاب سوداني، لكي تعيش في أمدرمان وتكتسب عشقها وتتطبع بصفات أهلها، وتدرس فقه السنة لطلاب جامعتها الإسلامية، وتتمنى أن تقبر فيها.
قصة عشق أمينة مع أمدرمان دفعها إلى الكتابة والترجمة عن أمراء وعظماء الثورة المهدية. وكرست الرسالة التي أعدتها لنيل درجة الدكتوراه، لتقديم صورة إيجابية عن خليفة المهدي الذي ظلمته المؤلفات الأجنبية حسب تقديرها، وهنا تفاصيل القصة التي سردتها في خواتيم العام 2007 .
الصبا الباكر
مرحلة الصبا الباكر في حياتي بدأت والحرب العالمية الثانية لم تضع أوزارها بعد، عالمي الشخصي اكتنفته محاولات البحث عن الذات في أجواء ملأى بالإحباط من الدمار الذي خلفته الحرب على أوروبا آنذاك.
حياتي الأسرية كانت هادئة تماما فأنا أنتمي إلى أسرة محافظة جدا وعريقة من الطبقة العليا وتصل جذورها إلى ماري أنطوانيت.
إذن مرحلة شبابي أثرت فيها أجواء الحرب العالمية الثانية ومازلت حتى الآن حين أتذكر تلك الأيام أحس بالظروف الصعبة والقسوة التي تتخلل مناحي الحياة
المختلفة.
في تلك الأجواء بدأت رحلتي في البحث عن الذات وبدأ التفكير الشديد في الحياة من حولي والمبادئ التي اعتنقها والأهداف التي أسعى إلى تحقيقها.
كانت قناعتي بالدين المسيحي مهتزة نوعا ربما بفعل الشباب أو ظروف أوروبا بعد الحرب، المهم اتجهت إلى القراءة المتعمقة في الأديان المختلفة تزامنت هذه القراءات مع اجتيازي للجزء الثاني من مرحلة البكالوريوس، حيث أتاحت لي المعرفة الوثيقة بالعلماء المسلمين مثل ابن رشد وابن سينا، الوقوف على تأثير الحضارة الإسلامية على مختلف مناحي العلم والمعرفة في أو وربا، وبدا لي واضحا أن العلماء المسلمين هم الذين نقلوا الحضارة الإغريقية إلى أوروبا.
سؤال مهم
في تلك المرحلة من عمري برز لي سؤال مهم لماذا الحديث عن دور العلماء المسلمين يتضاءل في حين أنهم قاموا بالدور الكبير في نقل الحضارة إلى أوروبا؟.
في سبيل البحث عن إجابة لهذا السؤال الهام بدأت خطواتي الأولى نحو الإسلام، وكنت بحكم الدراسة على معرفة بالفكرة العامة للإسلام.
أما اعتناقي للدين الإسلامي فقد جاء بعد تفكير عميق في هذا الدين توجته قراءة متأنية للسيرة النبوية للرسول الكريم وهذه القراءة المتأنية للسيرة النبوية قادتني من الظلام إلى النور، وبعدها قرأت ترجمة للقران الكريم وهنا رسخ في ذهني أن أقرأ عن الإسلام باللغة العربية، وليس الكتب المترجمة حتى أعرف هذا الدين من منابعه الأصلية.
واستقر في ذهني أن أتعلم اللغة العربية والتحقت بمدرسة اللغات في قسم الدراسات الشرقية وكانت المقر الوحيد الذي يمكن أن أدرس اللغة العربية فيه.
وحين قدمت أوراقي للالتحاق بالمدرسة كان العام الدراسي في منتصفه وطلب مني أن أتقدم في بداية العام الدراسي الجديد.
ماذا أفعل في هذا الفترة ؟ لم يكن أمامي إلا أن أتجه إلي المدارس المسائية التي تدرس الطلاب الأفارقة غير النظاميين، وصدفة وجدت بعض الفصول تقدم المحاضرات باللغة العربية.
عندما اعتنقت الإسلام لم أجد أي معارضة من الأسرة، لأن القرار كان قرارا شخصيا جدا، ولذلك لم أجد أي مضايقات من أي جهة.
شهادة التوحيد
إذا سألت عن اعتناقي الإسلام فقد كانت شهادة التوحيد لا إله إلا الله والعدل الذي أعتبره قيمة أساسية ومهمة جدا في الحياة، مداخلي لاعتناق الدين الحنيف.
حصاد القول إن رحلة البحث عن الذات في مطلع الصبا الباكر دفعتني إلى دراسة الفلسفة التي أتاحت لي الاطلاع علي الأديان والحضارات المختلفة في جميع أنحاء العالم. وهذا الاطلاع قادني إلى اعتناق الإسلام دين التوحيد والعدل.
عندما قررت دراسة اللغة العربية واعتناق الإسلام لم يكن في ذهني إطلاقا أن أتزوج من مسلم.
ومن المهم الإشارة إلى أن دراستي للغة العربية تزامنت مع دراستي للأدب الفرنسي، لكن بعد أن هداني الله للإسلام رسخ في ذهني أن ثمة صعوبة أن أكون مسلمة وأن أعيش في الوقت نفسه في فرنسا، وأتجه تفكيري إلى السفر إلي سوريا أو المغرب للإقامة هناك بعد تعلم اللغة العربية. ولم أكن أملك تفسيرا لاختيار سوريا والمغرب. وكان في ذهني هاجس ما للعيش هناك.
أنا الآن طالبة في مدرسة اللغات الشرقية وكانت المدرسة تعج بأعداد كثيرة من الطلاب العرب والأفارقة، وفي المدرسة تعرفت بشابين الأول من اسكندنافيا والثاني أفريقي.
وفي قاعة المحاضرة كان الأفريقي يقف بجانبي في المدرج ودعوته إلى الجلوس، وعندما انتهت المحاضرة قلت له هل تدرس اللغة العربية هنا؟ أجابني بأن اللغة العربية لغته، وجاء إلى باريس لتعلم اللغة الفرنسية، وأتي إلى هنا للمزيد من الاحتكاك باعتبار أنه سيجد من يتقنون الفرنسية إلى جانب العربية حتى يستفيد.
وسألني إن كنت قد درست اللغة العربية بطريقة نظامية؟ أجبته بأنني تعلمت اللغة العربية بالمعرفة.
بعد ذلك عرفت أن هذا الشاب الأفريقي من السودان، وأن أسمه محمد أحمد ياجي، ثم
دار بيننا نقاش حول صعوبة اللغة العربية وأبدى استعداده لمساعدتي في تعلم اللغة العربية.
من جهتي رحبت بهذه المساعدة واتفقنا أن نلتقي صباح كل يوم سبت، ودعوته للحضور إلى منزل الأسرة لكي أتعلم منه اللغة العربية، ويزيد هو معرفته باللغة الفرنسية.
وظلت علاقتنا الدراسية فترة طويلة عرفت خلالها أصالة السودانيين ونبل أخلاقهم من خلال تعاملي معه.
وذات يوم طلب يدي للزواج من والدي وقبلت. وهكذا تدخل القدر لكي أحقق رغبتي في الإقامة في دولة مسلمة وفزت بالإقامة في السودان بدلا من سوريا أو المغرب.
وصلت الخرطوم في أبريل 1956م وجئت بالباخرة من أسوان حتى حلفا القديمة، ومن حلفا بالقطار حتى الخرطوم.
عباسية أمدرمان
بعد وصولي محطة السكك الحديدية في الخرطوم توجهت إلى منزل زوجي في أمدرمان.
وكنت أخشى أن لا أقابل بترحاب في منزل أهل زوجي بحسبان أن العرف السائد آنذاك كان لا يقبل أن يتزوج الشاب بفتاة غريبة عن أهله ناهيك عن أجنبية جاءت من فرنسا.
حقيقة عندما دخلت منزل الأسرة في عباسية أمدرمان كنت أخشى من هذا الشعور هل
تقبلني الأسرة أم لا؟ وكان أكثر خوفي من والدته، بحسبان أن الأم تكون أكثر التصاقا بابنها، وتحبذ أن تختار له شريكة حياته بنفسها. المهم عند وصولي الدار في أمدرمان دخلت منزل الأسرة من باب الخشب القديم (السنط)، كان إحساسي حين دخلت أمدرمان مثل من كان يبحث عن كنز وجده.
يا سلام على أمدرمان فقد أصبحت فيها مثل (الزول) الذي يبحث عن بلد بعيد، ثم فجأة يجدها أمامه. ونفس الشعور الذي انتابني عندما دخلت أمدرمان للمرة الأولى أحسست به عند زيارتي الأولى للمدينة المنورة.
الآن أسكن في الخرطوم بعيدا عن أمدرمان أتصور يوم رحلنا من أمدرمان للخرطوم كان إحساسي (زي الكتلوني(.
الرحلة من باريس حيث الأسرة العريقة إلى الحياة الشعبية في أمدرمان لم أجد فيها أي مفارقات، ذلك أنني كنت على يقين بأن السودان ليس فرنسا.
بالمناسبة عائلة زوجي في أمدرمان من الأسر العريقة وتتمتع بتقاليد وعادات لا تختلف كثيرا عن تقاليد الأسر العريقة في أوروبا.
الدبلوماسية والتدريس
المحطة الأولى في العمل الدبلوماسي مع زوجي السفير محمد أحمد ياجي كانت في نيويورك. وكان زوجي يرغب في العودة إلى الجامعة للعمل بالتدريس، ولكن طلبوا منه الاستمرار في العمل الدبلوماسي. ومن نيويورك اتجهنا إلى بغداد على أيام عبد الكريم قاسم وبعدها إلى الكنغو كينشاسا وبعدها إلى جدة وبعدها إلى السودان.
من ذكرياتي الحلوة في أمدرمان كانت محاولتي لتدوين الأحاجي السودانية وعندما كنت أجلس إلى النساء خاصة الكبيرات في السن لكي يروين لي الأحاجي كن يتخوفن من السرد بحجة أني أود أن أسخر منهن، وقضيت فترة طويلة في الحديث معهن حتى بدأن يقتنعن أنني لا أرغب في السخرية منهن.
تدوين التراث
اهتمامي بالأحاجي السودانية لم يكن دراسة وإنما محاولة لتدوين هذا النمط من التراث والحمد لله تكللت محاولاتي بالنجاح بأعداد أربعه كتب عن الأحاجي السودانية. ولم أدون هذه الأحاجي لكي يتداولها الأطفال، بقدر ما أشبعت رغبتي في الاستماع إلى هذه الأحاجي وتوثيقها.
تصور أنني كنت ربة منزل منذ زواجي في 1952م إلى أن التحقت بجامعة الخرطوم لتدريس الأدب الفرنسي في عام 1988م. وكنت قبلها قد التحقت بجامعة أمد رمان الإسلامية 1986م لتدريس الفقه باللغة الفرنسية.
وأثناء جلوسي في المنزل كربة منزل عملت في الترجمة وتمكنت من ترجمة كتاب نعوم شقير عن جغرافية وتاريخ السودان وبعض مؤلفات توفيق الحكيم.
لقد كان جل اهتمامي بالترجمة يتمثل في ترجمة مؤلفات رجال الثورة المهدية ومسرحيات الملك نمر، نبته حبيتي، خطوبة سهير، وتاجوج والمحلق.
منذ وصولي السودان في 1956م حتى الآن 2007م نصف قرن من الزمان ألاحظ ثمة اختلاف كبير جدا بين سودان 1956م وسودان 2007م لكن تجربتي ممتازة جدا ولن أبدلها لو عاد بي الزمن إلى الوراء مرة أخرى، وأسال الله حين تحين منيتي أن أدفن في أمدرمان.