هل حقا أن الربيع العربي قد زار السودان منذ عام 1989 ؟ .. بقلم :د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
23 December, 2011

 


عمود : محور اللقيا
من الواضح لكل متابع في مآلات الربيع العربي , ذلك الإجماع الكلي من الأحزاب في الأقطار المتأثرة به , على أن تتبع النهج الديموقراطي في تداول السلطة عن طريق الإقتراع الحر و النزيه و الشفاف , و أن تجنح للإعتدال من غير تطرف يميني أو يساري , و أن تخاطب قضايا المواطنين جميعا دون تمييز بين معتقداتهم أو أعراقهم . هذا ما رأيناه من حزب الفضيلة التونسي برئاسة الشيخ راشد الغنوشي , و أيضا من حزب الحرية و الفضيلة التابع لحركة الأخوان المسلمين , و أيضا من برامج الأحزاب الجديدة في ليبيا . لقد سبق و كتبت عما إعتور الفكر السياسي للشيخ راشد الغنوشي و قادة الإخوان المسلمين من تغييرات نتيجة لتراكم الخبرات لديهم في العمل الديموقراطي العام خاصة بعد إندلاع ثورات الربيع العربي , و قلت أن الشيخ راشد الغنوشي قد ذكر بعد عودته الأخيرة إلى تونس من منفاه أن لديهم حزب إسلامي و ديموقراطي يشبه كثيرا حزب العدالة و التنمية في تركيا . أما الأخوان المسلمون فقد كونوا في مصر حزب الحرية و العدالة كواجهة لتنظيمهم , و ذكروا أنه حزب مدني ملتزم بالتحولات الديموقراطية و حرية الرأي و التعبير و قبول الرأي الآخر و التعددية الحزبية عن طريق الإنتخابات و تساوي الناس أمام القانون , و أن الأمة هي التي تجيز الدستور .
الآن أورد الجديد الذي شد إنتباهي و هو ما صدر حديثا من مجلس الأزهر الشريف من فتوى بعدم جواز منع الخمور في مصر حتى لا يضار غير المسلمين من ذلك خاصة في قطاع السياحة الذي تعتمد عليه مصر كثيرا في إنعاش إقتصادها , و قد علل المتشددون من علماء الأزهر أن يكون عدم جواز منع الخمور لغير المسلمين فقط . أما المرجعية في فتوى مجلس الأزهر فقد كانت الفتوى التي أصدرها الإمام أبو حنيفة النعمان في زمان دولة الخلافة العباسية و أشار فيها إلى ذلك الأمر بحجة أنه لا يجوز للمسلمين تحريم أمر على غير المسلمين إن كان دينهم قد أباح لهم ذلك. في زماننا هذا و في الكثير من الدول العربية و الإسلامية نجد أنهم لا يمنعون بيع الخمور بل يقننونها و أحيانا يبيعونها بأذونات صرف لغير المسلمين فقط . إن المفهوم الإسلامي للمجتمع الديموقراطي الحر الذي يسترشد بالديموقراطية الغربية نجده متمثلا في تجربتين جديرتين بالكتابة عنهما لما حققتاه من تقدم و مكتسبات إقتصادية وضعتهما في مصاف الدول المتقدمة , و أنا أخص هنا تجربتي تركيا و ماليزيا :
بعد الحرب العالمية الأولى التي هزمت فيها تركيا , تم عزل السلطان محمد آخر السلاطين الأتراك في عام 1922 , و قد كان لمصطفى كمال أتاتورك ( أبو الترك ) دور كبير في تلك التغييرات , فهو مؤسس حزب تركيا الفتاة ( الفتيّة ) القومي و مؤسس الجمهورية التركية و رئيسها في عام 1923 , وبذلك الغى الخلافة الإسلامية في عام 1924 . لقد إنتهجت تركيا النظام العلماني الديموقراطي و لكنها لم تنج من بعض الإنقلابات العسكرية التي طالتها و صار نظامها الديموقراطي ذا مرجعية عسكرية يتحكم فيها الجيش و يحافظ فيها على نهج الدستور العلماني التعددي الذي يقر بحرية المعتقد و الدين . لقد فاز حزب العدالة و التنمية ذو التوجهات الإسلامية مرتين في الإنتخابات العامة و يرأسه رجب الطيب أردوغان , و هو الذي نصح الإسلاميين في مصر بإتباع الديموقراطية العلمانية !
كانت تركيا منذ تكوين جمهوريتها تعاني من إقتصاد متردٍ جعل عملتها الليرة التركية تفقد الكثير من قيمتها بجانب العملات الصعبة خاصة الدولار , و لكن في العقود اللاحقة و مع إزدياد عدد المهاجرين الأتراك صارت عائدات تحويلاتهم تمثل دعما هائلا للتطور الإقتصادي , و منذ نهاية القرن الماضي و إلى الآن شهد الإقتصاد التركي تطورا هائلا جراء الخطط الإقتصادية الطموحة و جذب الإستثمار الأجنبي و زيادة الصادرات بزيادة الإنتاج الزراعي و الصناعي , و قد تحصلت تركيا على صفة دولة مرشحة للإنضمام للإتحاد الأوربي في عام 1999 و هي ساعية كي تنال العضوية الكاملة . لقد بلغ الناتج القومي التركي 735 مليار دولار في عام 2010 و صارت تركيا تصنف ضمن ( الأسواق الناشئة ) في العالم . لقد شكلت السياحة دخلا معتبرا لتركيا إذ زار تركيا في عام 2010 قرابة الثلاثين مليون سائحا أدخلوا إلى البلاد ما يقارب ال 22 مليار دولار ! لقد شرعت حكومة أردوغان بزعامة حزب العدالة و التنمية في جذب البساط من تحت أقدام العسكر و أجازت الحجاب للنساء و مدت جسور التقارب التي كانت قد إنقطعت طويلا مع الدول العربية و الإسلامية . الشعب التركي لا زال متمسكا بتعاليم الإسلام , و قد شاهدت ذلك في تركيا رغم علمانية الدولة ووجدت عامة الناس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر زجرا و لطفا , و عند رفع الآذان سمعت كل البلاد تدوي به حتى لا تدري من أين يأتيك الصوت و ذلك لكثرة المساجد التي تكتظ بالمصلين ! 
أما في ماليزيا , فقد ظهرت دولة ماليزيا بشكلها الحالي كإتحاد بين الملايو و بورنيو الشمالية في عام 1965 و عاصمتها هي كوالالمبور . نظام الدولة في ماليزيا نظام ملكي برلماني ديموقراطي يتم فيه إختيار الملك بالإنتخاب بينما يترأس الحكومة رئيس الوزراء , و يكون التنافس للبرلمان عن طريق الإنتخابات الحزبية , في نظام شبيه بالنظام البريطاني . لقد إنتشر الإسلام في ماليزيا و في كل جنوب شرق آسيا عن طريق التجار العرب و الدعاة , و لم ينتشر عن طريق الفتوحات الإسلامية . الخارطة الديموغرافية فيها تتكون من 50 % من الملاويين و 25 % من الصينيين و البقية من الهنود الهندوس و من أجناس أخرى مثل الحضارمة و الجاويين . المجتمع الماليزي مجتمع متعدد الأعراق و الأديان و الإسلام هو الدين الرسمي , إذ يعادل عدد المسلمين 60 % من السكان و البوذيين 20 % و المسيحيين 9 % و الهندوس 6 % . الدستور الماليزي يضمن حرية الأديان , و المحاكم الشرعية تخص المسلمين في الأحوال الشخصية , بينما تخضع الجرائم الجنائية للمحاكم المدنية , في نظام شبيه بدستور السودان المؤقت القديم . كانت ماليزيا تعتمد في إقتصادها على المنتجات المحلية كالمطاط و زيت النخيل و القصدير , و منذ السبعينات إتخذت ماليزيا قرار اللحاق بالنمور الآسيوية ( كوريا الجنوبية و تايوان و هونغ كونغ و سنغافورة ) فطرقت مجال التصنيع بعد جذب الإستثمارات خاصة اليابانية و دخلت مجال الصناعات الثقيلة , مع وضع خطط قصيرة و طويلة المدى كان للإقتصادي العبقري مهاتير محمد , رئيس الوزراء لعدة دورات , القدح المعلى في إنجاحها بحسن إدارته و تخطيطه و إعتماده على الوزراء و التنفيذيين التكنوقراط في حكومته , و إفتتاحه للكثير من مراكز البحث العلمي . من أعظم شواهد التطور العمراني في ماليزيا برجا بتروناس اللذان أعتبرا أعلى برجين في العالم حين إنشائهما . جراء ذلك فقد قفزت ماليزيا بقوتها الإقتصادية إلى المرتبة الثانية في جنوب شرق آسيا ! إنني لم أزر ماليزيا بعد و لكنني شاهدت بعض الصور التي أخذت فيها أثناء صلاة الفجر داخل المساجد , و قد تراءت المساجد مكتظة بالمصلين رغم وساعها !
على النقيض لكلا التجربتين في تركيا و ماليزيا تتجسد لنا التجربة الإنقاذية في السودان , فقد كان مدخلها إلى السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري و من ثم غرزت مخالبها في البلاد في حكم شمولي تسلطي و بعيد كل البعد عن الأنظمة الديموقراطية التعددية . رغم ذلك يقول قادة الإنقاذ ان الربيع العربي قد زار السودان منذ العام 1989 و هو عام إستيلائهم على السلطة ! دعوني أتطرق معكم إلى بعض من تطبيقات التجربة الإنقاذية في ما يخص التمايز العرقي و العقائدي فقط , و أترك جانبا تبعات تطبيقاتها في مجالات الإقتصاد و المعيشة و الصحة و العمل حتى لا أطيل كثيرا :
1 – الترهيب بإسم الدين للمواطنين المسلمين و غير المسلمين , و هو أمر يحدث في بلد إنتشر فيه الإسلام عبر عشرة قرون بالسماحة و القدوة الحسنة و التعايش السلمي و عدم الإكراه .
2 – الجلد كعقوبة للفتيات بتهمة عدم الإحتشام في اللبس , و الغلو في ذلك و ترك الأمر لأفراد الشرطة لتحديد الإحتشام من عدمه و تقدير كيفية التعامل معه للقضاة , دون مراعاة لمعتقد المتهمة .
3 – الجلد كعقوبة لمتعاطي الخمر حتى ولو كانوا من غير المسلمين , و حتى لو كان شرب الخمر ( كالمريسة ) يعد وجبة غذائية عندهم و قد إعتادوا علي تناولها منذ آلاف السنين .
4 – السجن لصانعات الخمور البلدية غير المسلمات و اللاتي يصنعنها كوجبة غذائية لأفراد عائلاتهم تقيهم من الجوع . المأساة هنا تتجسد عندما يكون لهؤلاء النساء أطفال صغار يتركنهم خلفهن .
كل تلك الأحكام و غيرها تصدر تحت قانون النظام العام و قوانين سبتمبر . فقط أرجو التمعن في الفرق ما بين فاقد ( بعد الأفق ) الذي يعم قراراتنا و فتاوينا و بين ما أفتى به علماء مجلس الزهر !
النتيجة الحتمية كانت تنفير غير المسلمين من الإسلام الذي لا يعرفونه جيدا و لكنهم وجدوا تجربة له مشوهة في السودان إعتبروها هي حقيقته , و النتيجة تفضيل الإبتعاد و الإنفصال و هكذا إنفصل الجنوب و فشلت تجربة التعايش العربي – الإسلامي مع الإفريقي في السودان , و هكذا صرنا على خطى التجربة السابقة في زنجبار و شرق افريقيا !
هل ثمة إصلاحات ترتجى من نظام الإنقاذ ؟ رغما عما يكتنف أقطار الربيع العربي من تغييرات عدة كنت قد ذكرت بعضا منها في بداية مقالتي هذه , أجد أن الواقع الإنقاذي في السودان لا يعير كل تلك التغييرات إهتماما , بل يواصل مسيره على نفس الخطى الأولي ممهدا لجمهوريته الثانية و لإجازة الدستور الدائم للسودان الذي بدأت تترى ملامح الإجماع عليه بأن يكون صنوا للمؤقت الحالي و شاملا لقوانين سبتمبر و قوانين النظام العام , دون تأثر بأي من التجربتين الناجحتين في تركيا و ماليزيا و ما يحدث من تحول ديموقراطي في اقطار الربيع العربي .
إن الإصلاحات التي سوف تمهد لضم السودان إلى أقطار الربيع العربي تكون في إلغاء القوانين المقيدة للحريات و في إشاعة الحريات العامة كحرية الرأي و التعبير و حرية الصحافة و حرية الإعلام و حرية العقيدة و حرية التنظيم و حرية القضاء و الفرز بين السلطات الثلاث و محاربة الثراء الحرام و إنهاء الإحالات للصالح العام و إعادة المتضررين من ذلك و إنهاء سياسة التمكين و إعادة النظر في من قفزوا إلى أعلى السلم الوظيفي و الشروع في التحول الديموقراطي الحق عن طريق تداول السلطة بالإقتراع الحر و النزيه و الشفاف و بالعودة إلى دولة المواطنة و الحكم المدني .

omar baday [ombaday@yahoo.com]
///////////////

 

آراء