الوعي الأمني الحاضر الغائب في حياتنا!

 


 

 


abusamira85@hotmail.com
ممارسة السياسة وغياب الوعي الأمني كتاب ممتع ومخيف في آن واحد، فهو ممتع لما يتضمنه من نظرات وأفكار ثاقبة عن أوضاع البلاد الأمنية خلال العقود الأخيرة، وهو مخيف لأنه يشعرك بالخوف على الحياة السياسية، بعد أن تحول القادة والزعماء ومن لف لفهم  إلى قيادات مشغولة بالاستقواء أو الاستعلاء على بعضهم البعض.
غير أن مؤلف الكتاب العميد حسن صالح بيومي يرى في خلاصة كتابه الأساسية (أن هذا الكتاب يمثل سطرا أمنيا واعيا لحجم وطبيعة الاستهداف الخارجي وطبيعة المخاطر الداخلية وحجم وطبيعة الثقوب الأمنية التي أطلت بقبح ملحوظ على الخارطة السودانية، بسبب غياب الوعي الأمني).
إذن يغطي الكتاب في 480 صفحة حاجة ملحة ليس فقط لتحسين مستوى الوعي الأمني، ولكن كذلك لسد الذرائع عبر استراتيجية للتوعية يجب أن تصل إلى الناس بأيسر الطرق وأقلها تكلفة خاصة وأنها توعية غير ربحية. ولن يكون الأمر بعيد المنال إذا ساهم الجميع  من باب الالتزام والمواطنة والمسؤولية في بناء جسور الثقافة الأمنية بين المؤسسات الوطنية المختلفة، لإعداد جيل قادر على التعامل مع مستجدات العصر بعلومه وقيمه.
ولعل المهم في الحاجة للوعي الأمني ضرورة تكامل وتكافل الأدوار كلها للحد من المشاكل التي تواجه الممارسة السياسية من جهتي الفكر والسلوك.
ولذا يسهب المؤلف العميد حسن بيومي مستندا على معرفة وخبرة أنفق فيهما أحلى سنوات العمر في العمل في جهاز أمن الدولة على أيام الرئيس الراحل جعفر نميري، في تطوير الحلول  وفق قواعد علمية واضحة مستندة إلى منظومة قيم اجتماعية أصيلة قادرة على تحصين الوطن وأبنائه من جهات كثيرة ومتعددة بوسائل وأساليب تعزز اللحمّة الاجتماعية والنسيج الوطني كاملا.
قد يبدو للبعض أن الوعي الأمني ثقافة إجرائية تخص الجهات المعنية بحفظ الأمن، أو جزء من معان ومفاهيم  ينبغي ان يدرك أسرارها رجل الأمن فقط. لكن الكتاب بفصوله الـ 25 يدعم بوضوح أن موضوع الوعي الأمني أوسع من هذه المنطقة الضيقة، واكثر تعبيرا عن ضرورات صيانة الوعي الاجتماعي والوعي السياسي والرؤية الواضحة لما يجري في المشهد العام. وهنا نصل إلى أن الحاجة إلى الوعي الأمني عند العميد حسن بيومي لا تعني حاجة تعبوية، ولا تعني أيضا حسا أمنيا مجردا، لأن الأمن هنا لا يعني الأمن السياسي أو الأمن الجنائي، ولا يعني أن يكون الإنسان معبئا من رأسه إلى قدميه لمواجهة عدو مفترض، بقدر ما تعني أيضا قيما أخرى للأمن الوطني والأمن الثقافي، والأمن المعلوماتي.
وهذه الأشكال للأمن يربطها في جميع فصول الكتاب خيط رفيع يتلخص في حيازة شروط أخلاقية ومعرفية لحماية الإنسان من أخطار شتى، وتنظيم حياته في سياق علاقاته مع الآخرين، فضلا عن اقترانه بالقيم الحقوقية التي تعني أيضا معرفة الإنسان بحقوقه ومصالحه، وبالتالي معرفته لآليات الدفاع عنها وحمايتها، والتأكيد على أن الانسان كائن قانوني، وأن شرعته تتأتى من خلال احترامه للقوانين ولحقوق وحريات ومصالح الآخرين.
بحسب سلّم ماسلو الشهير للحاجات تقع الحاجة إلى الأمن في المستوى الثاني فوق القاعدة التي تمثل الحاجات البيولوجية، ويقصد بالأخيرة متطلبات الإنسان الجسدية ولا سيما إلى الطعام والنوم، فيما تعلو الحاجة إلى الحب والاحترام فوقهما ومن ثم تأتي الحاجة إلى تحقيق الذات، وفي أعلى سلّم الهرم نجد الحاجة إلى الجماليات، بمعنى أن الإنسان حين يشبع حاجاته من ضمن المستويات الأربعة الأولى الآنفة الذكر يكون في حالة عقلية ونفسية تؤهله للاستماع إلى الموسيقى أو قراءة الأدب أو تأمل جمال الكون الخ.
وفي إطار هذه التوليفة يربط حسن بيومي ربطا محكما بين مداعبة الفن لطغيان السلطة ونوايا أمريكا الباطنية تجاه بعض الأنظمة، فاختيار الحديث عن مداعبة الفن للسلطة الزائدة عند بيومي، لم يأت اعتباطا، وإنما ضرورة تمليها تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة.
ولتداخل الحاجة إلى الأمن مع الحاجات البيولوجية للإنسان، فالوعي الأمني عند بيومي هو طريقة إبداعية يتدرب عليها الفرد لإيجاد الوسائل التي تمكنه من اجتناب الاخطار المحدقة به، وهي مرحلة مختلفة عن الحس الأمني، حيث أنه يتم اكتسابها عن طريق المعرفة والتدريب.
أما القلق الناشئ من تعدد أشكال الوعي الأمني، فيهزمه بيومي بحزمة من التعريفات، نفهم منها أن الوعي السياسي هو عملية إدراك القضية الوطنية وما يدور حولها من أمور مرتبطة بالواقع السياسي المؤثر على هذه القضية. ونعلم منها أيضا أن الوعي الاقتصادي هو الإلمام بالأحوال المعيشية التي تحافظ على مستوى حياة الفرد والتي تؤدي إلى تطور الحياة في المجتمع. ويتجاوز بيومي الحساسية المرتبطة بالوعي الديني بتأكيد كفالة حرية التعبد حسب نصوص الأديان السماوية لمن يعتنقونها، واحترام كريم المعتقدات للآخرين. ويكاد يجمل حق الوعي بـ: القانون، الصحة، التعليم، والبيئة والوعي في أهمية معرفه الفرد والمجتمع بحقوقه وكيفية مراعاة حقوق وواجبات الآخرين.
ويبث المؤلف في جميع صفحات الكتاب قناعة فحواها أن الوعي الأمني من ضرورات ومستلزمات حياة الإنسان بكل مفاصلها باعتبار إن الأمن يعتبر العصب الأساسي والهام في الحياة اليوميه  والباعث الوحيد للهدوء والاستقرار والطمأنينة فلا استقرار ولا سعادة ولا إعمار بغير الأمن والدولة التي لا تهتم بأمنها ولا تراجع حساباتها وأخطائه.
ويبدو أن العميد حسن بيومي قد يئس من علاج علل الممارسة السياسية، هذا المرض العضال الذي أنهك حياتنا على المدى المنظور، مما دفعه إلى التعبير  عن اعتقاده بأن مرض السودانيين بالممارسة السياسية أو(الجوطة) إن شئت الدقة متوغل متجذر لن يشفى سريعا، وأنه يعيق تقدم المجتمع ويعد سببا رئيسيا في تعاسته على المستويات الثقافية والاجتماعية.
وينتقل بهذا اليأس  إلى الإقرار بأن علاج السياسات الحكومية لن يجدي وحده لوقف تدهور الأحوال، وذلك لأن مرض السودانيين ليس سياسيا محضا، بل هو اجتماعي اقتصادي عنصري جهوي، متوغل في قلب المجتمع بشكل يحتاج عقود لعلاجه.
سبب المرض كما يراه العميد حسن بيومي الذي تلقى دورات أمنية متقدمة في أمريكا وروسيا وألمانيا، يعود للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي تعرض لها السودانيون منذ عام 1985م، حيث دفعت الأحداث عجلة الممارسة السياسية بشكل غير مسبوق وبسرعات عالية وبدون وعي بتبعاتها الاجتماعية والثقافية نظرا لضعف الخلفية الفكرية والثقافية لقادة الأحداث أنفسهم.
ويكاد العميد بيومي يسخرمن هؤلاء القادة لأنهم لم يجيدوا الحديث عن هموم المواطن في خطابهم السياسي، ولم يكونوا معنيين بالاستقلال الفكري والثقافي في الوقت الذي كانوا مشغولين فيه باللحاق بالغرب سياسيا واقتصاديا.
وبهذا يجد القارئ نفسه وسط سيل مستمر من الأفكار والمقارنات الممتعة التي تدفعه للتفكير والتأمل والتوقف بشكل متكرر لإبداء الإعجاب بأفكار المؤلف أو التأمل فيها أو نقدها.
بمعني أخر أن الكتاب مليء بالأفكار المثيرة للتأمل والإعجاب, وتصب جميع هذه الأفكار والأمثلة في نظرية واحدة وهي نظرية الكتاب وأطروحته الرئيسية المتعلقة بسيطرة فكرة الممارسة السياسية على حياة وتفكير السودانيين، حيث يدور الكتاب حولها بشكل بعيد كل البعد عن الملل، فالمؤلف يضرب عبر صفحات الكتاب مثالا بعد الآخر ويأتي بدليل تلو الآخر وبمعلومات ثم مثال من حياته المهنية دون أن يمل أو يعطي القارئ فرصة للشعور بالملل، وكل هذه الأفكار تصب في نفس الاتجاه وفي نفس الأطروحة.
لذا تشعر وأنت تقرأ الكتاب بأنك أمام مؤلف كبير متمكن من مادته يعرضها بأقل مجهود، بشكل يقصد به امتاع القارئ وجلب انتباهه حتى أخر سطر من سطور الكلمات دون عناء أو مجهود من قبل المؤلف، فالكتاب وأسلوبه ينتميان لتلك الفئة من الكتابة في غاية السهولة والعمق في آن واحد. والكتاب في مجمله تجميع لمقالات كتبها الكاتب على فترات متفرقة ثم قام بتجميعها، وهو أمر يشير إليه المؤلف في مقدمة كتابه.
ورغم أن الكاتب أجاد في جمع تلك المقالات وربطها وجعلها تصب جميعا في أطروحة الكتاب الرئيسية، إلا أن القارئ يشعر أحيانا بأن الكتاب ينتهي فجأة بلا تمهيد وأن بعض فصوله كالفصل الذي تناول الصراع داخل الحركة الإسلامية وتداعيات مذكرة العشرة لا يتماشى مع تسلسل الكتاب وموضوعيته.
وهناك أيضا مشكلة يثيرها الكتاب تتعلق بما شهده العالم العربي والإسلامي من فوضى سياسية وإعلامية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 م، استهدفت العالمين العربي والإسلامي خصوصا بعد أن  شرعت وسائل الإعلام الأمريكية والدوائر السياسية وبسرعة فائقة إلى توجيه أصابع الاتهام إلى تنظيم القاعدة وربط الاتهام بالرئيس الراحل صدام حسين كراع للقاعدة في تضليل واضح وتوظيف المشاعر المتعاطفة مع الضحايا تمهيدا لغزو أفغانستان والعراق المخطط لهما منذ أعوام تسبق الحادث. وكانت تلك الحادثة هي الشرارة الأولى لبدء المرحلة الثانية من الحرب العالمية على الإرهاب على لسان الرئيس الأمريكي السابق بوش بعد أن نادى بها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان وأفضت إلى تجريم الولايات المتحدة الأمريكية من قبل المحكمة الدولية بإرهاب القوة وباستخدام القوة بصورة غير شرعية ضد نيكاراغوا.
وهكذا أصبحت أحداث 11 سبتمبر حصان طروادة لحروب الشرق الأوسط في أفغانستان والعراق ونحتت مصطلحات وشعارات إعلامية دعائية ذات منحى سياسي وحربي لتغلف المشهد الحربي القادم وينمط العرب والمسلمين بالإرهاب بما يتوافق مع فلسفة صموئيل هنغتون والذي يعلن الحرب العالمية على الإسلام. وشهدنا الكثير من العروض المسرحية لتسويق مشاريع استعمارية لتفتيت العالم العربي والإسلامي.
ورغم أن تلك العروض حملت دعوات وشعارات ديمقراطية ترافقها الكثير من التساؤلات والمتناقضات، إلا أن المؤلف تركنا دون إجابات، خاصة حين تحدث عن محاولات تطبيع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، بإشارات مقتضبة عن عرض الولايات المتحدة لإقامة علاقات أمنية مع السودان عبر مندوب السودان في الأمم المتحدة آنذاك الفريق الفاتح عروة، وكذلك الحديث عن الأساليب التي اتبعتها أمريكا في التخلص من الرئيس الأسبق الراحل جعفر نميري، رغم العلاقة القوية التي ربطته بها. إضافة إلى أن صفات المنبهرين والمنبطحين بأمريكا تحتاج إلى المزيد من التحليل والتقويم وقبل ذلك وضع النقاط على حروف الاتهامات التي وزعها المؤلف يمنة ويسارا.
كتاب ممارسة السياسة وغياب الوعي الأمني يمتلك مزايا عديدة على رأسها سهولة لغته وامتلائه بأفكار ثاقبة يمزج فيها الخبير الأمني الكبير حسن بيومي بين المعلومات والتحليل العلمي والأفكار التحليلية الثاقبة والأمثلة التي تعبر عن قلب المجتمع السوداني ونبضاته.
على أن المهم أن نخلص إلى أن ممارسة السياسة قد تدور حول التكتيكات الأمنية والعسكرية، لكن يتعين علينا أن ندرك أيضا أنها معركة حول القيم، معركة يستطيع المرء أن ينتصر فيها فقط بالانتصار في التسامح والحرية.
وخير ختام عبارة توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق (إن هذا الصراع هو صراع حول القيم، فقيمنا هي التي ترشدنا، وهي تمثل تقدم البشرية عبر العصور. وقد كان علينا القتال لأجلها عند كل نقطة والدفاع عنها. وبينما يدعونا عصر جديد، فقد حان الوقت لنتقاتل من أجلها مرة أخرى). 



 

آراء