بدر الدين سليمان أو أقصى العقوبة لحب السودان
محمد الشيخ حسين
19 February, 2012
19 February, 2012
abusamira85@hotmail.com
القاعة الكبرى في فندق كورال الخرطوم زاد من بهائها وأناقتها ذلك الحضور النوعي الكبير لجلسة استعراض كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان (بدائل جديدة للنمو ــ نتائج النمو الأخلاقية).
مساحات شاسعة من حياتنا على كل صعيد جاب بدر الدين سليمان أبعادها واستحضرها في أعماقه. الجالس في مقاعد المتفرجين لوقائع حفل الاستعراض الأنيق، قد يتعذر عليه الإحاطة بالتفاصيل، لكن المراقب الحصيف يمكنه أن يزعم أن بدر الدين كثيرا ما سبق ويسبق زملائه ونظرائه وأخوته المتخصصين أو المهتمين في جوانب ومستويات وجودنا الإنساني.
احتشدت القاعة على سعتها ورحابتها بحضور نوعي متميز جدا، أجيال مختلفة من المستنيرين والمرموقين. وزراء سابقون ووزراء حاليون، وبالطبع وزراء لاحقون. سفراء أساتذة جامعات خبراء في مختلف المجالات.
وحيثما يمتد بصرك تجد أسماء سودانية لامعة ومرموقة ومثيرة للاحترام والتقدير، فيما يتعلق بحماية الوطن تجد شخصية قامة وقيمة مثل الفريق عبد الوهاب إبراهيم، وفي الشأن الاقتصادي بتشعباته المعقدة تجد شخصية ضخمة ذات أثر وتأثير مثل عثمان النذير، وفي مجال التكنولوجيا بآفاقها الرحبة تجد شخصية رائدة تحملت عبء المبادرة والمغامرة في تأهيل الحياة السودانية للتقنية الرقمية مثل الدكتور أبو بكر مصطفى محمد خير.
الأسماء كثيرة والحضور قوي والمنصة اكتملت معلنة بصوت أستاذ الأجيال البروفسيور علي شمو وحضوره القوي عن بدء الجلسة الاستنثائية لمناقشة كتاب استنثائي ومؤلف استنثائي.
حفظت الجلسة اللقب والمقام الرفيع لكل أي مشارك فيها، وبدأت بصورة غير تقليدية فالقرآن الكريم رتله البروفسيور شمو بقراءة خريج خلوة نبيبه ووقور، ثم دلف مباشرة إلى إجراءات الجلسة محددا زمنها بساعتين منقسمة إلى قسمين قسم أول لمداخلتين من البروفسيور عبد الله علي إبراهيم والدكتور أمين مكي مدني ثم كلمة مكتوبة من الأستاد عبد الباسط سبدرات. أما الجلسة الثانية فقد خصصت للنقاش العام.
بدا الدكتور عبد الله علي إبراهيم سعيدا ومنتشيا بتشريفه للحديث عن كتاب ضم بين دفتيه كلمات متفرقة وأوراق عمل باللغتين العربية والإنجليزية أعدها الأستاذ بدر الدين خلال فترات عمله في مناصب دستورية مختلفة، لكنه يخلص إلى أن هذه الكلمات المرموقة قد كتبت بماء الفكر والتجربة.
يكرر الدكتور عبد الله عن سعادته عن استعراض هذا الكتاب وسط هذا الجمع الكريم، لأنه يعود به إلى زمن جميل عرف فيه ملكة بدر الدين على القراءة حين ترك مكتبة ومكيف وكنبة للقراءة في منزل الأسرة في أمدرمان ورحل إلى منزل الزوجية.
الدكتور عبد الله استفاد من هذه الرفاهية (الكنبة والمكيف) بصحبة الأستاذ غازي سليمان حين سكن معه في المنزل فترة من الوقت.
كان بدر الدين مشغولا الذهن والوجدان بالقضية الوطنية منذ سنوات طفولته وشبابه، لكن الدكتور عبد الله يقف عند مقالين في الكتاب، يقف عند مقال كتب باللغة العربية بعنوان (أزمة الحكم في السودان). يرى أن المقال الذي كتب في مايو 1988 في صفحة 51 من الكتاب يحمل توصيفا لدقيقا لأزمة البلاد وتلمح مسارات للخروج من هيمنة الأزمة أو الأزمة المهيمنة على حياتنا. ويقف عند مقال آخر كتب باللغة الإنجليزية عن سبل مكافحة الفقر وعدالة التوزيع في أفريقيا، منتهيا إلى أن المقال يحمل مؤشرات جيدة لعناصر النظر الاستراتيجي الشامل، وهو عند بدر الدين نظر القدرة على طرح الفرضيات الصائبة وعلى التنبؤ بارهاصات المستقبل المكنونة.
عندما اعتلى الدكتور أمين مكي مدني المنصة وجد نفسه في موقف ليس بالسهل، فبدر الدين رغم علمه بالقانون، عمل ما يقارب نصف عمره وزيرا ومسؤولا عن المالية والاقتصاد والصناعة والعمل والشؤون الاجتماعية، لذا كان من البديهي أن يضم كتابه حصيلة وعصارة لتجاربه الثرة تلك ولإسهاماته في الأوساط المحلية ومداخلاته في المحافل الاقتصادية الدولية.
ويستعرض صفحات الكتاب متوقفا عن مقارنة المؤلف بين اقتصاد السوق ومجتمع السوق، بالتأكيد على أن لا يصبح السوق محددا للاختبارات الاجتماعية والقيم والمثل الأخلاقية.
ويخلص الدكتور أمين في استعراضه الشيق إلى الإقرار بأننا بحاجة إلى صيغة ديمقراطية حقيقية تتوافر فيها كل الشروط اللازمة للنمو السياسي والحقيقي. ويستند في هذه الخلاصة إلى قول المؤلف (نحن مدعوون لوضع حد للوهن والاضمحلال وانحلال قوى البلاد السياسية). ويضيف الدكتور أمين عبارة (التي عانينا منها تحت النظم كافة، خاصة العسكرية منها).
حين استلم المجال الأستاذ عبد الباسط سبدرات، لم يكن المتحدث سبدرات القانوني الضليع أو السياسي المرموق، بل كان سبدرات الذي طالب برجوع (القمرة لوطن القماري)، بدا لي أن سبدرات حن إلى الشاعر في دواخله، فأخرجه في تلك الليلة ليلقي كلمة مؤثرة في حق الأستاذ بدر الدين سليمان الذي يحرص دائما على زيارته في مكتبه من حين لآخر ليتأكد من أن (سبدرات حي ويرزق). سبدرات قال كلاما طيبا في حق بدر الدين وزمالته وريادته.
كان حديث سبدرات صادقا ومؤثرا سعي به إلى إعلاء قيمة الفرد في حياتنا، وتأسيس ثقافة الاعتراف بأفضال الآخرين، بدا لي كأنه يقول لنا بدر الدين سليمان أو أقصى العقوبة لحب السودان. ولا يقلل من هذه المبادرة دفقة الشجن الأليم التي تملأ كلمات سبدرات حين تأتي سيرة الصعود والهبوط في لعبة كراسي السلطة.
نحن الآن على مشارف خواتيم جلسة استعراض كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان الحضور في انسجام تام وسط محيط ثقافي راق الكل يجلس حسبما وجد مكانا خاليا وزير مهم جدا مثل الأستاذ السموأل خلف الله يجلس وسط الحضور كمثقف يسعده المشاركة في مثل هذا اللقاء. ووزير أكثر أهمية هو الأستاذ حسن عبد القادر هلال المشغول بهموم البيئة قبل أن يصبح وزيرا لها يدعو أن تهتم عملية الحراك الثقافي بمسألة تغير المناخ من أجل بث الوعي الذي يضمن تحقيق التنمية المستدامة.
فوق الصفات الجميلة والنبيلة التي يمتاز بها أستاذ الأجيال شمو فهو في خطابنا الإعلامي صاحب مدرسة التحول من بلاغة السلطة إلى بلاغة الجمهور، والمرجع أن كل التغطيات الإعلامية التي أدارها أو أعدها تميزت بأن الخطاب الإعلامي كتب بلغة الجمهور وليس بلغة السلطة، ليت الدكتور هاشم الجاز يهتم بتكليف أحد طلابه لإعداد أطروحة بعنوان (شمو من خطاب السلطة إلى بلاغة الجمهور).
غير أن أهمية إفادة شمو عن كتاب بدر الدين أنها أعدها كباحث رصين أولا وكمثقف ملتزم ثانيا. ورغم صعوبة الموضوع فقد نجح في استعراض الكتاب بصورة مبسطة تضئ الكثير من المسالك للقراء.
يبدأ شمو يتاكيد ان الكتاب يعلمنا أهمية تحديد موقع المجتمع السوداني في السياق التاريخي عبر جهد منهجي يمزج المعرفة الحديثة بالواقع الاجتماعي للحياة السودانية.
وحسب شمو فإن هذا الكتاب يجسد بدر الدين نموذجا لباحث مخلص ومفكر مجتهد في السياسة والاقتصاد، رغم أنه خريج قانون.
ويلفت أنظارنا إلى أن قراءة كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان تكشف عددا من الخصائص والسمات المهمة لأسلوبه كباحث موسوعي، لا يتطرق إلى موضوع من الموضوعات إلا بعد الإحاطة بكل ما كتب عنه من الباحثين الغربيين والعرب. ومن بين هذه السمات الالتزام بصرامة المنهج العلمي مع الحرص على وضوح الأفكار وبنائها في السياق الذي يخدم الفكرة الأساسية للموضوع. ولعل بدر الدين المسكون بموسوعية العلامة التجاني الماحي منذ الصبا الباكر، تراه في كل ما يكتب يقتطف فقرة ما أو يستعير لهجة أو تركيبا لغويا، وأغلب محاولاته تقترب من الجوهر الذي يتطلب إدراك التغييرات الأساسية التي طرأت على القيم وما يصاحب هذا التغيير من عناء قسوة على روح الإنسان واستقامة رؤيته للأحداث والمشاكل.
ويخلص إلى أن هذا الكتاب أضاف للمكتبة السودانية جهدا فكريا مهما في تحليل العلاقة المتشابكة المعقدة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع، وما يسفر عنها من تعقيدات وخصومات وآحن. كما يعد اهتمام الكتاب بالثقافة من أجل التنمية ناقوسا لإثارة الانتباه إلى المضمون الحقيقي للتنمية المتمثل أساسا في الإنسان.
ولم يشأ الأستاذ بدر الدين سليمان أن يفسد تلك الليلة بحديث طويل كان أم قصير، كل الذي فعله شكر الحضور على الحضور الأنيق وشدد على رؤية وطن موعود لا مفقود يسهم في بناء حضارة إنسانية تفسح المجال لمعاني التجلي الإنساني والتعبير عن ذكر الله ولتحرير البشرية من العقوق للملكوت الإلهي وللفطرة الإنسانية ولمحو المظالم التاريخية التي ابتلى بها المستضعفون في الأرض.
حصاد القول إن الدعوة لقراءة كتاب (نموذج بديل للنمو ـ نتائج النمو الأخلاقية) في الحقيقة ليست دعوة للاحتفاء بسيرة مفكر وسياسيي رفيع المستوى فقط، بل هي أيضا دعوة للتعرف على منظومة فكرية عقلانية تنحاز لقيم النهضة السودانية وتضع يدها على الكثير مما يعتور الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعنا. وتقترح إيجاد البدائل التي يرى بدر الدين أنها يمكن أن تحقق التنمية الحقيقية للمجتمع عبر ترشيد العلاقة بين المؤسسات السياسية الرسمية وتفعيل دور المجتمع المدني في صياغة الحراك السياسي والاجتماعي اللازم لتحقيق التنمية والنهضة.