عودة الدبلوماسية السودانية إلى عادتها القديمة

 


 

 





لفترة قصيرة خلال أزمة هجليج، وجدت الدبلوماسية السودانية نفسها في وضع لم تعتد عليه من قبل، وهو وضع كسبت فيه التضامن غير المسبوق من كل المؤسسات الدولية والإقليمية، بما فيها مجلس الأمن، ضد خصمها ممثلاً في دولة جنوب السودان. ولأول مرة في عهد الإنقاذ، لم تجد الدولة السودانية نفسها في حاجة لبذل أي جهد حتى تنحاز إليها كل القوى الدولية ذات الشأن، وتدعم موقفها بدون قيد أو شرط. في نفس الوقت، شهدت الحكومة التفافاً غير مسبوق من القوى السياسية وقطاعات الشعب السوداني حول موقفها من نزاعها مع دولة الجنوب، وكان هذا أيضاً تحولاً جذرياً على الساحة السياسية الداخلية تماشى مع التحول في الاصطفافات الدولية.

وقد كانت هذه فرصة نادرة للحكومة لتستثمر هذا الوضع الاستثنائي لتعزيز الوحدة الوطنية داخلياً وتقوية موقف السودان الدبلوماسي دولياً، وذلك لخدمة الاستقرار السياسي الضروري للسلم الداخلي ولمعالجة المشاكل الاقتصادية والإنسانية التي تواجه البلاد. وليتحقق هذا كان لا بد من تحرك رسمي حاسم لمعالجة الخلافات السياسية التي ظلت حتى الآن تعوق أي تقدم باتجاه التوافق وإنهاء الحالة الاستثنائية التي ظلت البلاد واقعة في إسارها منذ عقود، إن لم يكن منذ الاستقلال. دولياً كان لا بد تبني مواقف عقلانية معتدلة تعزز الدعم الذي لقيه موقف السودان، وهو اعتدال يتعزز إذا نجحت مجهودات ترتيب البيت الداخلي.

ولفترة قصيرة، نعمت الدبلوماسية السودانية بهذه الحلة الجديدة من القبول الدولي ورفلت فيها. وفي نفس الوقت استجابت الحكومة للسند الشعبي لمواقفها بتبني خطاب جديد نسبياً يتحدث عن الوطن ومصالحه العليا كقيمة مشتركة مع القوى السياسية والشعبية. ولكن هذه المواقف لم تطل. فبينما نجد الحكومة لجأت مع بداية الأزمة إلى مجلس الأمن والاتحاد الافريقي لتسجيل احتجاجها على عدوان دولة جنوب السودان وطلب الدعم، إلا أنها سارعت بعد ذلك إلى رفض قرار مجلس السلم والأمن والافريقي الذي يدعو الجنوب للإنسحاب ويطالب الطرفين بالعودة إلى المفاوضات. عطفاً على ذلك عارضت الحكومة مسودة قرار مجلس الأمن الذي بني بدوره على قرارات الاتحاد الافريقي.

بعد صدور القرار، أعلنت الحكومة رسمياً القبول به، ثم قبلت كذلك خريطة الطريق الافريقية. ولكن الخطاب الرسمي والدبلوماسي ظل متسماً بالتذبذب حتى من المصدر الواحد، وبالتناقض بين تصريحات الأطراف. فمن جهة نجد الحكومة أعلنت قبولها الرسمي غير المشروط لقرارات مجلس الأمن والاتحاد الافريقي، كما أن وزارة الخارجية، رغم حديث بعض مسؤوليها عن "تحفظات" على القرارات الدولية، أعلنت انحيازها لها، بل طالبت على لسان أحد كبار مسؤوليها ب "ضبط التصريحات"، وطلبت من البرلمان مساعدتها في لجم تجاوزات بعض المسؤولين. ولا ندري إن كان بعض هؤلاء يعنون في من يجب أن تضبط تصريحاتهم وزير الخارجية نفسه، وهو الذي اتهم في بيان له أمام البرلمان بعد يومين من هذه التصريحات الاتحاد الافريقي ومبعوثه رئيس لجنة الحكماء تابو امبيكي ب "خطف قضية الصراع بين السودان ودولة جنوب السودان" وإحالتها إلى مجلس الأمن بدون وجه حق. وهل يشمل ذلك رئيس الجمهورية الذي أعلن قبل يومين أن السودان لن ينفذ من القرارات الأممية والإقليمية إلا ما يروق له وينسجم مع مصالحه؟

في نفس الوقت، تكاثرت تصريحات المسؤولين التي تتهم دولاً مجاورة، مثل يوغندا، وأطرافاً أخرى لم تسمها، بالتآمر على السودان. وتثني نفس هذه المصادر فتتهم أطرافاً في المعارضة السودانية بالتآمر والخيانة لأنها طالبت طرفي النزاع بنبذ الحرب والجنوح إلى السلام. ويورد هؤلاء سنداً لاتهام يوغندا بالقول بأنها سعت لتوتير علاقات السودان وجنوب السودان لتستفيد اقتصادياً من قطع العلاقات الاقتصادية بين البلدين، متناسين أنه لا يوغندا ولا جنوب السودان كان من سعى لإغلاق الحدود ومنع التجارة بين السودان وجنوب السودان! فنحن هنا أمام بلد "يتآمر" على نفسه ثم يلقي التهم على من استفاد من أخطائه!

الحكومة السودانية، وعلى أعلى مستوياتها، صرحت أيضاً على الملأ بأنها الآن تسعى للإطاحة بحكومة جنوب السودان، وهو سلوك يخالف القوانين الدولية ويضع السودان موضع المساءلة. ويبرر المسؤولون ذلك بأنه رد بالمثل، لأن حكومة جنوب السودان تدعم جهات تسعى للإطاحة بحكومة السودان. ولا شك أن هناك فرق بين أن تدعم حكومة سراً قوى معارضة تريد إسقاط حكومة بلدها وبين أن تعلن دولة صراحة رغبتها في إسقاط حكومة بلد مستقل. على سبيل المثال، نجد إيران دعمت لعقود حركات معارضة تسعى لإسقاط النظام العراقي، ولكنها لم تتعرض لانتقادات مثل تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة وبريطانيا عندما قررا غزو العراق عام 2003. بل إن إيرن لم تتعرض حتى لمثل الانتقادات والإدانات الدولية التي تعرض لها العراق نفسه عندما غزا إيران عام 1980. بل إن السودان نفسه ساهم بفعالية في إسقاط نظم الحكم في تشاد (عام 1990) واثيوبيا (عام 1991) ودعم المعارضة بعد ذلك في يوغندا واريتريا دون أن يتعرض لكبير انتقاد إلا من الدول المتضررة، التي كانت بدورها تدعم المعارضة ضده. ولكن بالمقابل نجد جنوب السودان تعرض لإدانات دولية بعد غزو هجليج، لأنه اعترف بذلك علناً، وأرسل جيشه إلى هناك، ولكن لم نسمع قبل ذلك إدانات لدعم الجنوب المعروف لحركات التمرد في دارفور، وهو دعم يرجع إلى عام 2002، أو إلى استمرار دعمه للتمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق، لأن ذلك يتم "من وراء حجاب"، مهما كان شفافاً.

مهما يكن، فإن مقتضى المثل السوداني "السواي ما حداث" ينطبق على هذا الوضع، لأن من يريد إسقاط الأنظمة لا يفعل ذلك بالتصريحات عبر المنابر. وقبل ذلك احترف النظام إسقاط الأنظمة، ولكن كان لذلك ثمنه، لأنه اعتبر بسبب ذلك من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، بعد أن تكاثرت شكاوى مصر ومعظم دول الجوار من تدخلات السودان في شؤونها. على سبيل المثال في حين كانت الولايات المتحدة تجتهد في مطلع عام 1991 لإيجاد حل تفاوضي لنقل السلطة في اثيوبيا، قام السودان بتعويق جهودها عبر عرقلة عقد مؤتمر مقترح في لندن بين الحكومة والمعارضة حتى نجح حلفاؤه في إسقاط النظام. في العم التالي رفض السودان التوسلات الأمريكية بعدم معارضة التدخل الأمريكي في الصومال، وقبل ذلك تزعم الحملة المناوئة للتدخل الأمريكي ضد العراق في الكويت. ثم يستغرب المسؤولون السودانيون بعد ذلك "لاستهداف الأمريكي" لبلادهم!

الخطاب الدبلوماسي السوداني كان وما يزال يخالف المقولة المشهورة (والحكيمة) المنسوبة إلى الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت: "تحدث بنعومة وأنت تحمل عصا غليظة". فالقادة السودانيون يتحدثون بخشونة ويحملون عصاً من ورق، ولهذا يكثر الزعيق وتقل النكاية في العدو. وأذكر أنه في الخلاف الذي دار حول دعم نظام صدام أيام حرب الكويت كنت أقول للمسؤولين: "هل لديكم قوات ستقاتل مع صدام إذا هجمت أمريكا، أم أنكم ستضرون أنفسكم بهذه المواقف غير المدروسة بدون أدنى فائدة للعراق؟" وها نحن نجد عودة إلى نفس نسق التصريحات غير المدروسة في وقت تعاني فيها البلاد مشاكل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية لا حصر لها.

الأزمة الأخيرة كانت نقمة في طيها نعم كامنة، حيث أنها أتاحت فرصة التقدم باتجاه مصالحة وطنية حقيقية وإنهاء للنزاعات الداخلية في السودان، ثم إعادة تأهيله دولياً. وكان من المفترض لو توفرت الحكمة، أن تستمر الدبلوماسية السودانية في حشد الرأي العام الدولي والإقليمي وراءها، عبر اتخاذ مواقف معتدلة، والبعد عن الزعيق التعبوي الذي لا يقتل ذبابة، ولكنه يعرض البلاد لهجمات تتناسب طردياً مع التهديدات التي يطلقها مسؤولوه. كذلك ليس من الحكمة استعداء الدول والمنظمات بدون مبرر. فالحديث عن "اختطاف الاتحاد الافريقي" لملف الجنوب، في حين أن المعروف أن السودان هو الذي طلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن والسلم في الاتحاد الافريقي، هو قمة التناقض والتضارب، خاصة عند ما تعقب ذلك تصريحات تطالب الاتحاد الافريقي بدور أكبر في حل القضايا العالقة!

في نهاية المطاف، فإن معظم إشكالات العلاقات الخارجية التي يواجهها السودان، بما فيها الأزمة الأخيرة مع الجنوب، هي انعكاس لمشاكله الداخلية (سواءً في الجنوب أو دارفور أو مع المعارضة القومية وحالياً في النيل الأزرق وجنوب كردفان)، أي بمعنى آخر تعبير عن عجز عن إدارة الشأن الداخلي. ويجدر بالذكر هنا أن الحكومة السودانية هي التي ظلت تفتح الباب للتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي، وذلك عبر العجز عن حسم الخلافات الداخلية أولاً ثم عبر استجداء الوساطات الخارجية أو سرعة القبول بها، كما حدث عندما قبلت الدولة بدخول قوات أجنبية إلى أبيي بدون مبرر.

فالمفتاح إذن هو إصلاح البيت وتقوية الجبهة الداخلية. وهذا بدوره يعني إنهاء الخطاب الإقصائي، والاعتراف الرسمي (حيث أن الاعتراف الفعلي قائم ولا مهرب منه) بالتعددية الثقافية والعرقية في السودان، وطمأنة كل القوى الاجتماعية والسياسية حول موقعها المستحق داخل الساحة السياسية، شريطة نبذ العنف. وهذا يعني أيضاً أن تنبذ الحكومة العنف في التعامل مع المعارضة السلمية.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء