دعوة الرئيس المرزوقي : هل يُستجاب لها ؟

 


 

 


boulkea@yahoo.com


شهد "بازار" رؤساء الدول الأعضاء في الجمعيَّة العامة للأمم المتحدة كعادته الإسبوع الماضي "مزايدات" سياسية عديدة ومتنوعة حول "البضائع" الساخنة في الساحة الدولية وعلى وجه التخصيص القضايا التي تحتل صدراة الأخبار في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن : القنبلة النووية الإيرانيَّة, الثورة السورية, والفيلم المسيىء للرسول الكريم (ص).  

غير أنَّ الرئيس التونسي, والمناضل الحقوقي العتيد "المنصف المرزوقي" فجَّر في خطابه أمام الجمعيَّة العامة دعوة جريئة لإنشاء آلية دولية لمحاربة "الدكتاتورية". حيث قدَّم الإقتراح التالي : 

( الجمهورية التونسية تقترح إستحداث محكمة دستورية دولية على غرار محكمة المحكمة الجنائية الدولية تتوجَّه إليها الجمعيات المدنية المحلية والدولية والأحزاب الديمقراطية الوطنيَّة، إما للطعن في دساتير أو قوانين مخالفة للقانون الدولي وإما للطعن في انتخابات غير حرَّة. ويكون من صلاحيَّة هذه المحكمة إصدار حكم بضرورة مراجعة الدساتير والقوانين المتنازع عليها وفي الحالات القصوى الحكم بلا شرعية انتخابات مزيفة مما ينجرُّ عنه آلياً إنعدام شرعية النظام المنبثق عنها بالنسبة للأمم المتحدة ). إنتهى

تنبع دعوة المرزوقي في جزء كبير منها من تجربته النضالية الطويلة في مقاومة النظام الدكتاتوري التونسي المتسلط الذي – مثل كل الأنظمة الشبيهة له – لم يتورَّع في إنتهاك حُرية وحقوق الأفراد والجماعات, عبر تكميم الأفواه والسجن والتعذيب والقتل. هذه الأنظمة بحسب المرزوقي ( تنطلق باعتماد القوة الفجَّة ثم تسعى لاكتساب شرعية مُزيّفة والتواصل في الحكم عبر تنظيم إنتخابات مبنية على التزييف الفجّ، أي أنها لا تستحي من إستعمال آليات الديمقراطية لضرب الديمقراطية ). إنتهى

لا تستطيع القوى المدنيَّة والحقوقية وحدها مواجهة هذه الأنظمة التي تحيط نفسها بآلة قمعيَّة ضاربة من الجيش والشرطة والأمن والمليشيات, وتسيطر على موارد المال والإقتصاد و بيروقراطية الدولة, وتحتكر وسائل الإعلام, وهو الأمر الذي يمكنها من تمرير كل ما تخطط له من دساتير وقوانين وإنتخابات دون أن يعترض سبيلها شىء, إذ لا حيلة للقوى المدنية المعارضة ولا ملاذ سوى الحسرة وهو الأمر الذي عايشه المرزوقي شخصيَّاً أبَّان معارضته لنظام الطاغية زين العابدين بن علي وقال عنه في خطابه :

( لم يكن في مقدور المعارضة الديمقراطية التونسية أو الحركة الحقوقية المحلية والدولية إلا أن تلاحظ بكثير من المرارة عجز أدوات القانون المحلي والدولي عن الإنتصار للحق حيث لم يكن بوسعها الالتجاء لمحكمة دستورية تونسية أو لمحكمة دستورية دوليّة لعدم وجود لا الأولى ولا الثانية). إنتهى

بحكم تخصصه المهني كطبيب, شخَّص الدكتور المرزوقي "الدكتاتوريَّة" كمرض لا مثيل لهُ من حيث الخطورة على حياة الملايين من البشر, ونادى بالقضاء عليه بكل السبل المتاحة وقال :

( لقد طوَّر الطب أدواته على مرِّ العصور إلى أن استطاعت المنظمة العالمية للصحة في القرن العشرين طرح وتحقيق برنامج القضاء على شلل الأطفال وهو الأمر الذي كان سيبدو محض خيال لأطباء القرن التاسع عشر. ولأننا نكتسب بنفس الكيفية خبرة سياسية متزايدة في طرق تسيير النظم السياسية, ولأن الدكتاتورية أخطر على حياة وصحة ورفاهة وأمن مئات الملايين من البشر من أيِّ مرض آخر، ولأنَّ الأمم المتحدة عبر ميثاقها وترسانتها القانونية ومؤسّساتها تسعى لتعميم نظم سياسية تدعم وتطوِّر الحقوق الفردية والحريات الجماعية والسلام بين الشعوب، فإننا ندعو منظمة الأمم المتحدة إلى إعلان الدكتاتورية آفة سياسية-اجتماعية يتعيّن على كل شعوب الأرض السعي للقضاء عليها وتطوير مؤسساتها لتكون أكثر نجاعة في تحقيق برنامج طموح، لكنه ليس أكثر طوباوية من برنامج القضاء على الجدري أو شلل الأطفال ). إنتهى

هذه الدعوة النبيلة للقضاء على آفة الدكتاتورية بواسطة آليات دولية تشرف عليها الأمم المتحدَّة ستواجه بالإستنكار والرفض في عالمنا الثالث من قبل جهتين على الأقل. الجهة الأولى لا تنظر للفوائد الكبيرة التي يمكن أن تعود على الأفراد والجماعات والشعوب جرَّاء توظيف هذه الآليات بل تجتهد في التشكيك في إمكانيَّة توظيف هذه الآليات لخدمة مصالح الدول الكبرى, أمَّا الجهة الثانية فتتمثل في دوائر المتكسبين من الدكتاتورية من الأفراد و الفئات الذين تهدِّد هذه الآليات مصالحهم.

الحُجة التي يسوقها الرافضون لإنشاء مثل هذه الآليات تتمثل في أنَّ : هذه المحكمة تنتهك "السيادة الوطنيَّة" واستقلال البلاد وتمثل تدخلاً في الشئون الداخلية, وأنها تمثل خضوعاً للدول "المستكبرة", وهذه حُجة بائرة لأنَّ السيادة والإستقلال لا قيمة أو معنى لها إذا كان المواطن "الإنسان" نفسهُ جائعاً و مُستعبداً ومسروقا.ً

في ختام مُخاطبته للجمعيَّة العامة طالب الدكتور المرزوقي الأمم المتحدة - اعتمادا على المادة 22 من ميثاقها- بوضع مقترح خلق المحكمة الدستورية الدولية في قائمة جدول أعمال الدورة الثامنة والستين في 2013 لتتبناه الجمعية الموقرة وتعطي انطلاقة تنفيذه. كما ناشد الدول الديموقراطية مساندة المقترح وقال :

( تأمل الجمهورية التونسية أن يلقى هذا الإقتراح دعم أكثر عدد ممكن من الدول الديمقراطية ومن منظمات المجتمع الدولي التي لعبت دوراً رئيساً في استحداث المحكمة الجنائية الدولية وبوسعها أن تفعل نفس الشيء لتصبح المحكمة الدستورية الدولية جزءاً من منظومة متكاملة تحمي بقدر المستطاع شعوبنا والأجيال المقبلة من آفة متجددة كم كلّفت وكم ستكلّف البشرية من دم ودموع ). إنتهى

 

آراء