حول أصول سكان السودان -25-
من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية
د. أحمد الياس حسين
كلية التربية جامعة الخرطوم
ahmed.elyas@gmail.com
مملكـة علـوة: حدودها ومواردها
جاء أول ذكر لعلوة كما ذكر ماكمايكل ماك مايكل (A History of the Arabs in the Sudan p 46 – 47.) على مسلة الملك الكوشي نستاسن الذي أرخ له رايزنر(298 – 278 ق م ) حيث تلقب بلقب ملك علوة Alut إلى جانب المناطق الأخرى من مملكته. وقد شيد الملك ناستاسن معبداً في علوة مما يؤكد أهميتها كأحد أقاليم أو مدن مملكته. كما ورد ذكر علوة أيضاً في نقش عيزانا في القرن الرابع الميلادي أنه أخذ "أسرى عند إلتقاء نهري تكازى وسيدا، وفي اليوم التالي أرسلت جيش Damawa وPalha وSera للإغارة على القطر والمدن المشيدة بالطوب والقصب، المدن المشيدة بالطوب هي مدن علوة وDaro." ويرى ماكمايكل أن علوة أطلقت في نقش الملك عيزانا ولاحقاً في كتابات ابن سليم الأسواني على العاصمة والإقليم.
وجاء اسم علوة في إغلب المصادر العربية مكتوباً بالتاء المربوطة في آخر الكلمة، ولم أقف على من رسم الاسم بالألف في الكلمة "علوا" غير ابن الفقيه (كتاب البلدان، ص 21) وياقوت الحموي (معجم البلدان، ص 166) وتبدأ حدود مملكة علوة في الشمال كما ذكر ابن سليم بمنطقة الأبواب. ووضع ابن حوقل حدها الجنوبي على النيل بمسافة شهر إلى نهاية بلد طُبلي الذي يحده بلد كرسي جنوباً، وسنتعرض لهذين الموضعين لاحقاً.
وتمتد حدود المملكة شرقاً مسافة ثمانية مراحل إلى تفلين عند دلتا القاش شمالي مدينة كسلا العالية. وتتوغل حدود علوة غرباً في الصحراء مسافة خمس مراحل كما ذكر ابن حوقل (صورة الأرض، ص 73 و 75) إلى بلد امقل الذى ستناوله لاحقاً. وقد قدر اليعقوبي إتساع المملكة بنحو شلاثة أشهر. وهكذا امتدت حدود مملكة علوة – بناءً على المصادر العربية - على النيل الأبيض جنوباً، ووصلت حدودها شرقاً إلى منطقة كسلا وغرباً إلى مناطق دارفور. فمملكة علوة قد امتدت تقريباً على الحدود الحالية للمناطق الوسطى والغربية والشرقية للسودان. وسيتضح ذلك أكثر عنما نتعرض للمعلومات التي وردت في المصادر العربية عن المناطق التابعة للمملكة.
وقد تناولت المصادر العربية وبخاصة ابن سليم في كتابه (أخبار النوبة) وابن حوقل في كتابه (صورة الأرض) وصف بلاد علوة وضحت أنهارها ومواردها ومدنها وسكانها. واتضح أن مملكة علوة تمتعت بثروات متنوعة من أراضي زراعية خصبة وواسعة وثروات حيوانية ومعدنية وأنشطة تجارية. وبينت المصادر العربية قوة مملكة علوة وثرائها بالمقارنة إلى مملكة مقُرة. فوصف ابن حوقل بلاد علوة بأنها أعمر بلاد النوبة وذكرأنها "ناحية لها قرى متصلة وعمارات متصلة حتى أن السائر ليجتاز في المرحلة الواحدة بقرى عدة غير منقطعة الحدود، ذوات مياه متصلة بسواق من النيل."
ووضح ابن سليم أن بلاد علوة "أخصب وأوسع من مقرة، والنخل والكرم عندهم يسير وأكثر حبوبهم الذرة البيضاء التي مثل الأرز منها، خبزهم ومزرهم واللحم عندهم كثير لكثرة المواشي، والمروج الواسعة العظيمة السعة، حتى أنه لا يوصل إلى الجبل إلا في أيام، وعندهم خيل عتاق، وجمال صهب عراب." وذكر الادريسي أن أهل علوة "يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والقثاء والبطيخ"
وقد اشتهرت مملكة علوة كمصدر للذهب شأنها في ذلك شأن الممالك الافريقية في جنوب الصحراء في ذلك الوقت مثل ممالك غانة ومالي وكانم. فقد وضحت المصادر العربية توفر الذهب في أراضي مملكة علوة كما ذكر ابن حوقل، ويبدو أن أخبار كثرة الذهب في بلاد علوة قد أدت بياقوت الحموي إلى القول بإن الذهب "ينبت في بلادهم"
ووصف الادريسي بإن "حال علوة في هيأتها ومبانيها ومراتب أهلها وتجاراتهم مثل ما هي عليه حالات مدينة دنقلة، وأهل علوة يسافرون إلى بلاد مصر وبين علوة وبلاق عشرة أيام في البر وفي النيل أقل من ذلك انحداراً ... وأكثر وكذلك أهل علوة ودنقلة يسافرون في النيل بالمراكب وينزلون أيضاً إلى مدينة بلاق في النيل"
كما ارتبطت مملكة علوة عبرالبحر الأحمر بعلاقات تجارية شرقاً ببلاد العرب. وإلى جانب قيام مملكة تفلين الإسلامية داخل حدود علوة الشمالية الشرقية في منطقة دلتا القاش، فقد كانت حدود المملكة مفتوحة أمام التجار المسلين بعكس ما كان الحال عليه في مملكة مقرة حيث لم يكن يسمح بدخول المسلمين إلى الجنوب من منطقة حلفا إلا بعد إجراءات إدارية دقيقة. ولذلك فقد ارتبطت علاقات مملكة علوة وقويت عبر حدودها الشرقية وبخاصة مع الممالك الاسلامية التي قامت في الحبشة.
فقد شهدت الحبشة ومنطقة القرن الافريقي قيام نحو أحد عشر مملكة اسلامية في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث والتاسع الهجريين (9 – 15 م) ولما كانت حدود مملكة علوة مفتوحة مع الحبشة وعلاقاتها طيبة وقوية مع المسلمين - بدليل وجود مملكة اسلامية داخل حدودها – فلا بد أن ذلك أدى إلى تطور العلاقات إلى جانب التداخل السكاني بين علوة والحبشة عبر أحواض الأنهار والأودية المتعددة التي ربطت حدود البلدين. ولا بد أن ذلك أدى إلى انتشار الاسلام في حدود المملكة الشرقية مما هيأ الآوضاع إلى قيام سلطنة سنار. ويبدو لي معقولاً أن تاريخ المراحل المبكرة من قيام سلطنة سنار لا يمكن دراسته بمعزل عن تاريخ الحبشة في تلك الفترة.
أورد ابن سليم الاسواني وصفاً مفصلاً للنيل وروافده في مملكة علوة، فذكر أن النيل يتشعب من منطقة الأبواب أنهار وهي:
1. نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه، فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء، وزادت البرك التي فيه، وأقبل المطر والسيول في سائر البلد، فوقعت الزيادة في النيل، وقيل: إنّ آخر هذا النهر، عين عظيمة تأتي من جبل.
قال مؤرخ النوبة: وحدّثني سيمون صاحب عهد بلد علوة، أنه يوجد في بطن هذا النهر، حوت لا قشر له ليس هو من جنس ما في النيل، يحفر عليه قامة وأكثر، حتى يخرج، وهو كبير وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة، يقال لهم: الديجيون، وجنس يقال لهم: بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين، وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة.
2. ثم النيل الأبيض، وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن. قال: وقد سألت من طرق بلاد السودان من المغاربة عن النيل الذي عندهم، وعن لونه، فذكر أنه يخرج من جبال الرمل، أو جبل الرمل وأنه يجتمع في بلد السودان في برك عظام، ثم ينصب إلى ما لا يعرف، وإنه ليس بأبيض، فإمّا أن يكون اكتسب ذلك اللون، مما يمرّ عليه أو من نهر آخر ينصب إليه، وعليه أجناس من جانبيه.
3. ثم النيل الأخضر، وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة، صافي اللون جدّاً، يرى ما في قعره من السمك، وطعمه مخالف لطعم النيل، يعطش الشارب منه بسرعة، وحيتان الجميع واحدة، غير أنّ الطعم مختلف، ويأتي فيه وقت الزيادة خشب الساج والبقم والغثاء، وخشب له رائحة كرائحة اللبان، وخشب غليظ ينحت ويعمل منه مقدام، وعلى شاطئه ينبت هذا الخشب أيضاً، وقيل: إنه وجد فيه عود البخور. قال: وقد رأيت على بعض سقالات الساج المنحوتة التي تأتي فيه وقت الزيادة، علامة غريبة، ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة، ويبقيان على ألوانهما قريباً من مرحلة، ثم يختلطان بعد ذلك، وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما.
قال: وأخبرني من نقل النيل الأبيض، وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن يختلطا، وبين هذين النهرين، جزيرة لا يعرف لها غاية، وكذلك لا يعرف لهذين النهرين نهاية، فأوّلهما يعرف عرضه، ثم يتسع فيصير مسافة شهر، ثم لا تدرك سعتهما .
4-7 والأنهار الأربعة الباقية، تأتي أيضاً من القبلة مما يلي الشرق أيضاً في وقت واحد، ولا يعرف لها نهاية أيضاً، وهي دون النهرين الأبيض والأخضر في العرض، وكثرة الخلجان والجزائر. وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر، وكذلك الأوّل الذي قدّمت ذكره، ثم يجتمع مع الأبيض، وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها، وأحد هذه الأربعة يأتي مرّة من بلاد الحبشة.
قال: ولقد أكثرت السؤال عنها، واستكشفتها من قوم عن قوم، فما وجدت مخبراً يقول إنه وقف على نهاية جميع هذه الأنهار، والذي انتهى إليه علم من عرّفني عن آخرين إلى خراب، وأنه يأتي في وقت الزيادة في هذه الأنهار، آلة مراكب وأبواب وغير ذلك، فيدل على عمارة بعد الخراب، فأمّا الزيادة فيجمعون أنها من الأمطار مع مادة تأتي من ذاتها، والدليل على ذلك النهر الذي يجف ويسكن بطنه، ثم ينبع وقت الزيادة.
ومن عجائبه: أنّ زيادته في أنهار مجتمعة، وسائر النواحي والبلدان في مصر وما يليها والصعيد وأسوان وبلد النوبة وعلوة، وما وراء ذلك في زمان واحد، وأكثر ما وقف عليه من هذه الزيادة أنه ربما وجدت مثلاً بأسوان، ولا توجد بقوص. ثم تأتي بعد فإذا كثرت الأمطار عندهم واتصلت السيول، عُلم أنها سنة ريّ، وإذا قصرت الأمطار عُلم أنها سنة ظمأ.
• من الفصل الرابع من الجزء الثاني من كتاب "السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية"