جدلية الهوية النيلية للسودان وأبعادها السياسية والفنية والقانونية (3-8)
جدلية الهوية المائية للسودان– وأبعادهما الفنية
أسفار العودة الي صحيح المنابع: من أي الجنان خرج سليل الفراديس؟
(3 من 8)
بروفيسور
د. محمد الرشيد قريش*
مركز تطوير أنظمة الخبرة الذكية
لهندسة المياه والنقل والطاقة والتصنيع
، آملا من هذا "تنبيه الناس وإزالة الالتباس" ( وفق مقولة المفكر العربي الكبير عبد الرحمن الكواكبى المشهورة ) ،
.
استهلال:
كدارس جاد لقضية مياه النيل ، قام هذا الكاتب باعداد خمس سمنارات تحت عنوان: "دبلوماسية ا لمياه والصراع ا لمائي -- حوار المياه أم حرب ا لمياه : التوصيف الفني والسياسي والقانوني لتباين الرؤي في مفاوضات دول حوض النيل الأخيرة" :وقد تناولت هذه الندوات:
"الوحدة الهيدرولوجية وميزان القوي الهيدرولوجي وسط دول الحوض"
"الأمن المائي والأخطار المسبق وأثار المنشئات الهندسية علي دول الجوار"
"تصادم القانون الدولي مع مبدأ السيادة في دعاوي الحقوق المائية"
"الأجماع في اتخاذ القرارات وهشاشة التحالفات المائية"
الحلول المقترحة
ولما كانت هذه القضايا متجذرة وعميقة الغور فقد كان الحوار حولها يجري في الأروقة الدبلوماسية علي نحو هاديء نسبيا ، لكن انبثق منها في السودان جدل غير مؤسس علي حيثيات ويفتقر الي العمق غير أنه صخاب وذو ضجيح حول الهوية المائية للسودان ، مما يدفع بهذا الكاتب لتناوله هنا بشيء من التفصيل طارحا ثلاث أسئلة جوهرية ومحاولة الأجابة عليها وهي:
هل السودان دولة منبع أم مصب أم فقط دولة ممر؟
وهل صحيح أنه بينما ترفد أثيوبيا النيل ب 83 % من مياهه ، ليس للسودان
أى مساهمة فيه لأن أمطاره تضيع في الجنوب و بالتبخر ؟
وان كان السودان دولة منبع ،فكم حجم اسهامه في ايراد النيل والنيل الأزرق؟
آملين من هذا "تنبيه الناس وإزالة الالتباس" ( وفق مقولة المفكر العربي الكبير عبد الرحمن الكواكبى المشهورة )
"وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"(هود 88)
الإهـــــداء:
صحيح منابع النيل و"الدورة المائية" (Hydrological Cycle)-- "أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا " (الرعد 17) ، "وفي السماء رزقكم وما توعدون" (الذاريات 22):
في البدء خَلَقَ الله الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ" (فصلت 9-10) ، وحين ذلك البدء أنزل الله—وفق الحديث الشريف--"أربع بركات من السماء الي الأرض:أنزل الحديد والنار والماء والملح ”، والغريب ان الناس في غابرالزمان كانوا يعتقدون ان النيل ينبع من ”جبال القمر“-والتي كان يعتقد لوقت طويل أنها في وسط أفريقيا ولكن موقعها الفعلي ما زال يشوبه عدم اليقين، وربما كان الأصح أنهم كانوا يقصدون التعرجات الصخرية والبادية علي وجه القمر ،—وحينها يكون الأولون قد أدركوا—بصورة ما—ان منابع النيل ليست فوق هذه الأرض، وانما في السماء! كما تشير يذلك الأية الكريمة أعلاه،
الموارد الطبيعية ودوراتها—قراءة أولية:
شاءت ارادة الله أن تنشط الموارد الطبيعية وتؤدي وظائفها من خلال دورات (Cycles)، وأن تعمل "كأنظمة خبرة ذكية" (Expert System) وقد سخرها الله لخدمة الأنسان --أي أن الله أودع فيها قانون جريانها وبرنامج عملها ،وفي حالة المياه ، فالدورة المعنية هي "الدورة الهيدرولوجية" (المائية) ، وهي عملية مستمرة يتم من خلالها تنقية المياه عن طريق التبخر ونقلها من سطح الأرض و المحيطات الي الغلاف الجوي ثم العودة إلى الأرض والمحيطات
الموارد الطبيعية ودوراتها— قراءة فاحصة:
”وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ “(النساء 83)
"النبط" هو أول ما يخرج من البئر ومن هنا خرج تعبير " استنباط المعاني" و جاء في تفسير الجواهر أن–الأية أعلاه –قد اثبتت ان لأهل العلم "إستنباطا"— ان اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران وان اجتهدوا فأخطأوا فلهم أجر المحاولة . دعنا اذن نري –وفق فهمنا للأية -- ان كان يمكن أن نقرأ دورا أبعد غورا مما يعتقد الكثيرون للماء والدورة المائية في الحياة
الدور الحياتي الحاسم للدورة الهيدرولوجية: "كل الصيد في جوف الفرا" (حديث شريف)
و"الدورة المائية" هي واحدة من " الدورات الحيوية- الجيولوحية- الكيميائية " الأربعة والمسئولة عن ادامة الحياة علي الأرض من خلال تمكين الموارد الطبيعية من انجاز التحولات المطلوبة لتحقيق هذه إلأستدامة للحياة ، والتي تشمل :
الدورة التكتونية (Tectonic Cycle) والموكل اليها عمليات
"تخليق" و تغيير مواد الأرض ، كالماء والتربة والصخور والمعادن
والدورات البيولوجية ( Biological Cycles)، (المسؤلة عن تدوير العناصر الكيميائية خلال الأرض ، والمحيطات ، ورواسب في القشرة الأرضية ، كدورة الكربون ودورة الفوسفورودورة النيتروجين ،والاوكسجين والهيدروجين والكبريت الخ. و "الماكرو مغذيات" الكلية (Macronutrient ، مثل البوتاسيوم والحديد والكالسيوم وغيرها) والعناصر الصغرى (Macronutrients ، مثل النحاس وغيرها)
دورة الصخور (والمسؤلة عن تدوير الصخور والمعادن)،وأخيرا:
الدورة الهيدرولوجية والتي تمثل عملية التوازن الديناميكي الذي يسم و يميز كل الموارد المائية العالمية
وتعمل التكنولوجيا كحافز (Trigger)، يسعى إلى تعديل هذه الدورات الطبيعية (على سبيل المثال من خلال التدابير الهيكلية وغير الهيكلية) لتغير حركتها ونقلها إلى أوقات وأماكن أكثر ملاءمة لتلبية الاحتياجات البشرية ، غير إن العديد من المشاكل في هذه الدورات تنجم عن اشظائها وغياب المعالجة المتكاملة لجميع جوانبها كوحدة لا تتجزأ ، كما هو الحال في تناول الدورة المائية (الهيدرولوجية(
أهمية الدورة المائية: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ “(الأنبياء 30) --"وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ" (فصلت 9)::
والمعني القريب للذهن والذي قد يدرك بداهة من قول الله تعالي في الأية الكريمة الأولي أعلاه يمكن وصفه علي النحو التالي:
بدون الدورة الهيدرولوجية، لن يكون هناك امطارا
وبدون الأمطار، فإن الحياة النباتية لا تنمو لتنتج الأوكسجين—اكسير الحياة
وبدون الأكسجين ، لن يستطيع البشر الحياة
كما أن الماء مكون اساسي في كل خلية –وهي وحدة البناء في كل الكائنات الحية—وهو لازمة لحدوث كل التفاعلات داخل الخلية ولقيام كل عضو بوظائفه
ويبدو أن هذه الأية وردت في الرسالات السماوية السابقة ، فأخذ بها الفيلسوف اليوناني طاليس (Thales) حين صدح بمقولته "الماء أصل كل شيء" قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من خمسمائة عام .
لكن للدورة المائية دورا أخر و أساسي تطلع به هذه الدورة في حفزمعينات الحياة ، يمكن أن يقرأ بين ثنايا الأية الاخري أعلاه ، وقديما اقترب ابن كثير من هذا المعني حين قال في تفسير الأية عاليه بأن الله قدر في الأرض "مَا يَحْتَاج أَهْلهَا إِلَيْهِ مِنْ الْأَرْزَاق وَالْأَمَاكِن الَّتِي تُزْرَع وَتُغْرَس" ، لكننا الأن نعلم أن الدورة الهيدرولوجية (المائية) هي المحرك الرئيسي لجميع" الدورات الحيوية- الجيولوحية- الكيميائية" الأخرى، والتي ترفد كل الأنظمة الحية باحتياجاتها من العناصر الأساسية ، أي "بأقوتها" ، كما عبر عن ذلك القران الكريم ، وذاك هو استنباطنا الأول
متي “اكتشفت” الدورة المائية؟
ينسب أهل الغرب الي برنار باليسي ( (Bernard Palissy أنه أول من جمع وصنف النظريات.المتصلة بالدورة المائية ، وكان ذلك في القرن السادس عشر .. وبالتالي هم يعتبرنه "المكتشفت" للدورة الهيدرولوجية"!
دعنا اذا نري ان كنا سنجد تعريفا و وصفا للدورة المائية قي القران ، يكون المسلمون قد سبقوا به برنار باليسي بأكثر من تسعة قرون! ورغم اننا نبدأ رصد الدورة من مرحلة تبخر الماء، الا أنها كدورة يمكن بدء قراءتها من أي نقطة فيها
في واقع الأمر – وفي استنباطنا الثاني— نقول بأن القران الكريم قد عرف هذه الدورة في ايات عدة ، ابرزها ما ورد في سورةالطارق " حين أقسم الله تعالي ب"” السماء ذات الرجع“ (الطارق 11) ، أي المطر الذي ترجع به السماء مرة بعد مرة ، ثم مضت الايات تكشف سرها ، عنصرا بعد عنصر ، وكل ذلك قبل ما يقارب خمس عشرة قرنأ، ويستطيع القاري متابعة الأيات مع رسم الدورة المرفق:
المصدر : قاعدة بيانات مركز تطوير أنظمة الخبرة الذكية لهندسة المياه والنقل والطاقة والتصنيع
مرحلة تبخر الماء من المسطحات المائية وتعرق النباتات لتطهيرهما (Evapo-Transpiration): "كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا“ (الحديد 20)، حيث تلتقي دورة المياه مع دورة النبات الحياتية في تبخر الماء من المسطحات المائية والنباتية ("تعرق" النباتات) و تحول الماء السائل الي بخار الماء ( Liquid→Gas) ليتم تصفيته وتطهيره ، ليتحقق مراد الأية الكريمة " وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا” (الفرقان 48) ،:
مرحلة التخزين الفضائي من خلال تشكل بخار الماء كسحب ليتم تخزينه في الغلاف الجوي وفي ذرات الهيدروجين والأكسجين (Atmospheric Water Vapour—W.V.): “ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا" (النور 43)، ”وما أنتم له بخازنين“ (الحجر 22)، في وصف تكون السحب الركامية و تخزين المياه كغاز في الغلاف الجوي
مرحلة التكثيف (Condensation) والتلقيح ثم النقل: ، "وارسلنا الرياح لواقح“ (الحجر 22) ، في مرحلة التكاثف التالية بتلقيح السحب ، وفي هذه المرحلة (Phase Transform) ، يتحول بخار الماء الي سائل (Gas→Liquid) " ، " و الذاريات ذروا ، فالحملات وقرا" : فالريح ("الذاريت") وسيلة نقل اللقاح ، والسحاب ("الحاملات") وسيلة نقل الماء
مرحلة انزال المطر (Precipitation):" وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاح بُشْرًا بَيْن يَدَيْ رَحْمَته حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّت“(الأعراف 57) ،"وانزلنا من المعصرات ماء ثجاجا“ (النبأ 14) في مرحلة هطول الأمطار، ”أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون“ (الواقعة 69)
مرحلة الجريان السطحي (Runoff) :"فسالت به أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا“ (الرعد 17) : ”وسخر لكم الأنهار ”(ابرهيم 32)، بعد وصول الجريان السطحي لمصبه في الأنهار والتي سخرها الخالق واودع فيها قانون جريانها ،. فتأمل أيها القاري الكريم دقة التفاصيل بلفت النظر حتي للزبد وللأخشاب التي يحملها السيل وتحملها الأنهار
مرحلة التخزين الأرضي في البحيرات والخزانات والبحار ومجاري الأنهار والمستنقعات والمياه الجوفية(Storage): ”وانزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض“(المؤمنون 18) ” ، ”قل أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين“ (الملك 30)، "وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ" (البقرة 74) ، حيث القران يلفت النظرهنا الي "النظام الربطي" للمياه والتربة تحت الأرض (أو ما يعرف بالSoil-Water Regime ) ، كجزء عضوي من الدورة المائية ، وأحد أهم المخرات (أو المصبات ) الأساسية للأمطار والأنهار ، لكن هذه "التربة تحت الأرض" هي بالمقابل، أحد أهم مصادر ايراد الأنهار وهو أمر تجاهلته "الهيدرولجيا الكلاسيكية الكمية" طويلا،وهو أيضا الأمر الذي يفسر تباين الرؤي حول هوية السودان المائية، كما سنري بعد قليل!
"وما أنتم له بخازنين“ (الحجر 22)، حيث يستقر القليل من هذا الماء في المحيطات و الأوعية التخزينية المحدودة التي شادها المهندسون علي الأنهار، لكن خزائن الماء الكبري هي في "الغلاف الجوي" وفي "ذرات الهيدروجين والأكسجين" في "الدورة المائية"، و يرجع الماء مرة أخري إلى الأرض بعد 12 يوما في المتوسط من مكوثه في الغلاف الجوي—أي إنه يتم استبداله 30 مرة في السنة ، بينما تمتد اقامته المؤقتة في الانهار لحوالي اسبوعين ، وتمتد مابين أياما الي سنين في البحيرات والخزانات ـوالمستنقعات،والي اكثر من 4000 عاما في البحار، لكن اطول نزله هي في ثنايا الأرض كمياه جوفية حيث قد تمتد اقامته الي عشرات الألاف من السنين
حينها، تكتمل الحلقة ،و"تبدأ" الدورة المائية" من جديد ، بتبخر الماء لتطهيره ،وتلك هي الطبيعة الشاردة للمياه“والتي خلدها الفيلسوف اليوناني هرقليطس بمقولته المشهورة " انك لا تستطيع أن تستحم في النهر مرتين“ !
يستطيع القاري أن يلحظ هنا أن الدوره—بلغة علم "تحليل النظم" (System Analysis )-- تنطوي علي :
“دفوق جارية” (Fluxes ، كالتبخر والمطر والجريان السطحي الخ) ،وتمثل مدخلات تبحث لها عن مستقر تـأوي اليه مؤقتا ويعبر عنها في علم "النظم" “بالرسم المائي لتصريف المدخلات المائية (Inflow Hydrograph or Rainfall Hyetograph)
ومستويين (Levels) : "وعاء تخزيني سماوي" (أي خزان الغلاف الجوي) و"أوعية تخزينية ارضية" (كالبحيرات ومجاري الأنهار والمستنقعات الخ) بالأضافة الي عدد اخر من أنواع الأوعية التخزينية ، ليس فقط توفر لتلك الدفوق المستقر المؤقت ، بل هي أيضا "دالة تحويل" (Transfer Function) تعمل علي احداث التحولات الضرورية لأنتاج "المخرجات" (المعلوماتية ) المطلوبة عن مآلات"مدخلات" الدفوقات الجارية بعد مرورها بدالة التحويل
وأخيرا ، مخرجات هذه الأوعية التخزينية الأرضية والتي تتمثل –مثلا--في "الرسم المائي لتصريف المخرجات المائية " ( (Outflow Hydrograph ومنه نستطيع ان نعرف ارتفاع المياه في الخزانات وحجم المياه المخزنة في المواعين الأرضية ومعدلات تدفقها لخارج هذه المواعين ومناسيب النهر في أحباسه المختلفة
ومن الواضح اذا أن "الأوعية التخزينية الأرضية" تستمد مياهها من "خزان الغلاف الجوي" ، فاذن هذا الخزان الفضائي هو المنبع الحقيقي للمياه علي الأرض بما في ذلك—بالطبع—مياه النيل . لكن أين بالتحديد هذا المنبع في الغلاف الجوي؟ دعنا نري:
وقفة مع لطيفة قرانية في أية المعصرات: “”وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا" (النبأ 14) ”أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون“ (الواقعة 69) :
استنباطنا الثالث هنا يتمحور حول كلمة "المعصرات" في الأية الكريمة ”وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا" (النبأ 14) ، وقد جاء في تفسير ابن كثير :"قَالَ الْفَرَّاء أن "المعصرات هِيَ السَّحَاب الَّتِي تَتَحَلَّب بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمْطِر بَعْد ، والثَّجّ =الصَّبّ الْمُتَتَابِع" ، وعَنْ اِبْن عَبَّاس : "الْمُزْن (هي) السَّمَاء وَالسَّحَاب" .
ولأن أبو الدرداء يقول:“لا يفقه الرجل حتي يجعل للقران وجوها“، نحسب أن
المعصرات هي طبقة التروبوسفير(Troposphere) ، فهي مكان تكون معظم السحب ، وهي الطبقة الأكثر "كثافة" من الغلاف الجوي حيث تحتوي على ما يقرب من 75 ٪ من كتلتها، ونحسب أنه بسبب هذه الكثافة سماها القران "المعصرات"، وهي تحوي تقريبا كل بخار المياه وبالتالي تحوي كل الماء الذي ينزل مطرا ، فتأمل أيها القاري الكريم دقة التعبير القراني في استخدام كلمة "المعصرات" الذي لا احسب أن احدا التفت اليه وبالتأكيد لم نجد اشارة الي ذلك في أيا من التفاسير القديمة !
المصدر: الشبكة الأسفيرية
الميزان المائي:
لكن هل من سبيل الي "حوسبة" الدورة الهيدرولوجية لأغرض تخطيط الموارد المائية ؟ أي كيف يتسني لنا أن نقــيِّم هذه الدورة كميا ؟
الأجابة تكمن فيما يسمي "الميزان المائي"(Water Balance) والذي يستخدم في مجال الري والصرف (كتصميم شبكات الصرف المغطى) وفي تقييم السيطرة على الفيضانات و في إدارة إمدادات المياه والتنبؤ بها حيثما قد يكون هناك نقص في المياه (كما في حالة النقص الحالي في الأمداد المائي في العاصمة) بل وحتي في مكافحة التلوث.
و يمثل "الميزان المائي"خلاصة المدخلات والمخرجات، وصافي التغيرات في نظم الموارد المائية خلال فترة زمنية محددة وتوفر"معادلة التوازن المائي :" (Water Balance Equation
(P - R - E T - G = ΔS) وصفا كميا لتدفق المورد المائي (المتمثل في الأمطار”P”) داخل المنطقة ، وتدفق المياه الي خارجها والمتمثل في "صافي الجريان السطحي”R”) Net Surface Runoff -مثلا --الدفق الداخل للنهر ناقص الدفق االمتسرب منه للمياه الجوفية) وفي التبخر والتعرق النباتي (ET)وفي صافي التغيرات في المياه الجوفية (G) وصافي المدخلات والمخرجات والذي يمثل التغيرات (ΔS) في الأوعية التخزينية ،كالأنهار والبحيرات والحفائر)
وفي مستجمعات المياه الكبري، تتبع حدود نظم المياه الجوفية خطوط تقسيم المياه السطحية (Water Divides) مما يحقق توازن تدفقات المياه الجوفية الداخلة والخارجة من الأقليم بحيث يمكن اعتبار صافي التغيرات في المياه الجوفية (G) يعادل صفرا
كما أنه في الأنظمة المائية العالمية (كعناصر الدورة المائية في مستجمعات المياه الكبري) ينبغي -علي مدى فترة من الزمن (مثلا أكثر من 5 سنوات)—أن يكون يكون صافي المدخلات صفرا (0= ΔS وفق قانون حفظ الكتلة، أحد سنن الله في الكون) لأنه ان زادت مدخلات الأمطار مثلا عن المخرجات لمات الناس غرقا ولونقصت عن المخرجات لأتي علي الأنسان حين من الدهر يموت فيه عطشا ، والملفت للنظر أن ابن عباس وابن مسعود (رضي الله عنهما ) قاربا هذه الحقيقة العلمية الحديثة قبل أربعة عشر قرنا بتقرير ثبات كمية الأمطار كل عام ، حين قالا في صدد شرحهم لأية سورة الفرقان " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا" :"ليس عام بأكثر مطرا من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء"!
كل هذا يقلص "معادلة التوازن المائي" الي الثلاثة عناصر (P, R & ET)البادية في الميزان المائي لنهر النيل داخل السودان بشقيه ، كما يتبدي فالجدول أدناه:
يتبع
"وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ" (النحل 9) ، "فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ" (الأنعام 149) ،
" وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " (سبأ 24)
* بروفسير قريش مهندس مستشار وزميل في "الجمعية الهندسية " و خبير في المياه والنقل والطاقة والتصنيع، عمل مديرا للمركز القومي للتكنولوجيا ومحاضرا غير متفرغ بجامعة الخرطوم وبروفيسورا مشاركا في جامعتي ولاية مينيسوتا الأمريكية وجامعة الملك عبد العزيز ومستشارا لليونسكو بباريس و مستشارا للأمم المتحدة (الأسكوا) ، وخبيرا بمنظمة الخليج للأستشارات الصناعية ، وهو حائزعلي الدكتوراه الأولي له في هندسة النظم الصناعية والنقل والتي أتم أبحاثها بمعهد M.I.T.)) . كزميل "مركز الدراسات الهندسية المتقدمة" ، و حيث قام بوضع مواصفات تصميمية أولية لطائرتين تفيان بمتطلبات الدول النامية وأثبت --بالمحاكاة الرياضية علي شبكات الدول النامية-- تفوقهما علي الطائرات المعروضة ، وهو أيضا حائز علي (M. Phil.) و علي دكتوراة ثانية من جامعة مينيسوتا الأمريكية في موارد المياه بتخصص هيدرولوجيا و هيدروليكا، وعلي ماجستير اقتصاد وبحوث العمليات ، و هومجاز كعضو بارز" من قبل "معهد المهندسين الصناعيين" وكعضو من قبل "معهد الطيران والملاحة الفضائية " الأمريكي و"أكاديمية نيويورك للعلوم" والجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين" و الجمعية الأمريكية لضبط الجودة والمعهد البريطاني للنقل ".
E-mail: gore0111@hotmail.com