عود إلى بدء حول ميثاق كمبالا: وقف سفك الدماء ليس طوباوية … بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي

 


 

 



أود أن أتوجه بالشكر لكل الإخوة الذين علقوا على مقالي حول وثيقة كمبالا بعد نشره على هذه الصفحات في الخامس عشر من يناير المنصرم، بمن في ذلك من أوفانا نصيبنا غير منقوص من التجريح. ولكنني أخص بالشكر الأخ الصديق الدكتور جبريل ابراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة لتعليقه الضافي الذي نشر على العديد من المواقع السودانية ابتداء من الرابع والعشرين من الشهر الماضي. وقد عبر الأخ جبريل عن رأي الكثيرين حين قدر أن ما صرحت به من آراء في أداء المعارضة "قدّم خدمة جليلة للنظام – من حيث أراد أم لم يرد – بكيله السباب و الذمّ للمعارضة بشقّيها، و إظهارها بأنها أسوأ من النظام القائم، و أن وصول تحالف ميثاق الفجر الجديد إلى السلطة لن يكون سوى احلال نظام مستبد سدّ منافذ الحوار بآخر أقل حسناً منه. كما قدّم ذات الخدمة الثمينة للنظام بسعيه الحثيث عبر المقال - لدقّ إسفين بين أطراف التحالف بإيغار الصدور و تخويف الأطراف من بعضها، باتهامه للمعارضة المسلحة بأنها لا تثق في الأخرى، و أنها لا محالة ستهيمن على السلطة بقوتها العسكرية إذا بلغتها".

وأضاف الدكتور جبريل متسائلاً: " لماذا اختار الدكتور الأفندي القيام بهذا الدور الهدّام تجاه المعارضة في هذا التوقيت و بهذه اللغة الفظة التي لا تليق بعالم؟"

وبالمقابل دافع جبريل عن المعارضة بشقيها المدني والمسلح، وحمل النظام المسؤولية كاملة عن إجبار المعارضة لحمل السلاح بإغلاقه كل منافذ الحوار، وفرضه خيار الاستسلام أو القتال. وأكد أن المعارضة المسلحة تبحث عن حل يسع الجميع ولا تنوي الانفراد بالسلطة.  وقدم تفسيراً مختلفاً لتجربة نيلسون مانديلا أعطى فيه الوزن الأكبر لحملة السلاح، والأقل لحكمة مانديلا والشق السياسي من المعارضة.

ولنذكر القارئ بأن المقال المذكور انتقد وثيقة كمبالا التي وقعتها بعض فصائل المعارضة  السودانية السلمية مع المعارضة المسلحة بحسبانها تجر الجميع إلى مربع العنف الذي لا ينتهي إلا بغلبة السلاح. وينسجم هذا مع ما طفقت أكرره منذ أن أطل علينا الربيع العربي، والذي غير بنظري المعادلات لصالح النضال السلمي، الذي يوحد ولا يفرق، ويجعل الحوار هو أسلوب حسم الخلافات. وبنظري إن استمرار النزاعات المسلحة يعوق الجهود الرامية إلى حشد الدعم الشعبي للتغيير السلمي، تحديداً لأنه يخلق مخاوف يستفيد منها النظام.

ما جاء في رد صديقنا جبريل لم يؤثر في هذه القناعات، خاصة لجهة محاولته طمأنتنا بأن الحركات المسلحة لن تسعى إلى احتكار السلطة، وستقبل طائعة بنتائج الحوار مع الآخرين. فمجرد الكلمات والوعود لا تكفي في هذا المجال، وإنما لا تجزي سوى الأفعال. ولنبدأ من هيكل "الجبهة الثورية" الحالي، حيث هي في الظاهر حركة سياسية واحدة، ولكن لها خمس جيوش منفصلة على الأقل. فلماذا يصر كل فصيل على الاحتفاظ بجيش منفصل، إذا كان يثق في الآخرين؟ فالمشكلة ليست هي فقدان الثقة بين المعارضة المسلحة والسلمية، بل فقدان الثقة بين فصائل المعارضة المسلحة نفسها. وإذا كانت هذه الفصائل عاجزة عن توحيد صفوفها وهي تحت القصف، حيث التحدي هو تقاسم التضحيات، فأي ضمان لأن تتوحد حين تأتي ساعة اقتسام المغانم؟

ليست الإشكالية إذن فيما نقوله نحن عن المعارضة، وإنما في أفعالها. وهذا يعيدني لسؤال جبريل حول سر توقيت نقدنا للمعارضة، وهو في هذا يذكرني بانتقادات مماثلة من النظام لما نكتبه بحجج مماثلة، وهي أنه يفيد الخصوم والشانئين، وأنه نشر للغسيل غير النظيف، ومن الأفضل أن تقال النصيحة سراً، كما قال لنا أحد العلماء الأجلاء غفر الله لنا وله. والرد بالطبع هو أنه إذا كانت العيوب ظاهرة فإن الإسرار بالنقد لن يخفيها، وهو على كل خيانة للأمانة والمسؤولية أمام المواطنين. ومهما يكن كيف يستقيم أن يشاد في مقال الأخ جبريل برفضنا "فقه السترة" حين يتعلق الأمر بنواقص النظام ثم نطالب ضمناً بمراعاة السترة تجاه تقصير المعارضة؟

وكنا قد نوهنا في السابق بتقصيرنا في تناول تقاعس المعارضة عن تحمل مسؤولياتها بسبب تركيزنا على تناول أخطاء الحكومة، وكنا نتمنى أن يتولى أنصار المعارضة النقد الذاتي، ويسارعوا بالانتباه إلى أخطائهم. ولكن للأسف لم يحدث هذا، ولا يكفي هنا تعداد مثالب الحكومة بما يشبه الذكر والتسبيح، فشيطنة النظام لا تعني أن المعارضة من الملائكة المقربين.

وحين يتحدث الأخ جبريل عن الطوباوية فكأنه يقول إننا نطالب المعارضة بسلوك ملائكي، وليس هذا بصحيح، لأننا نطالبهم في الحقيقة بأقل القليل، وهو التوقف عن سفك دماء الأبرياء. وكما قلنا في السابق فإننا لم نمنع المعارضة من إسقاط النظام بالقوة أو بغيرها، ولكننا ننتقد أولاً فشل استراتيجيتهم. فالحركة الشعبية ساهمت في إهلاك مئات الآلاف من أهلنا في الجنوب قبل وصول النظام الحالي إلى السلطة، ولم تستطع أن تستولي على مدينة واحدة من مدن الجنوب الكبرى الثلاث خلال أكثر من عشرين عاماً، وبعد أن بلغ عدد الضحايا قرابة مليوني شخص بحسب بعض الإحصائيات، ثم لجأت في نهاية الأمر إلى التفاوض على أمور كان يمكن أن تحصل عليها بكلفة أقل. فكم من الملايين يجب أن يهلكوا، وكم من السنوات يجب أن ننتظر حتى تسقط الحركات النظام؟ بل حتى تتوحد، وهو أضعف الإيمان. فما أخشاه حقيقة ليس وصول المعارضة المسلحة إلى السلطة وتورطها في ممارسات غير سليمة، فهذا أمر مستبعد جداً. ولكن ما نخشاه هو أن تعيش المناطق المتأثرة عقوداً أخرى من التدمير تضيع معها أجيال كاملة كما حدث في الجنوب ويحدث في دارفور، بدون مردود يناسب التضيحات.

من جهة أخرى فإن المقارنة مع جنوب افريقيا غير دقيقة هنا. فقد كان مانديلا ومعظم قادة المعارضة في السجن أو المنفى، كما كان السود في جنوب افريقيا ممنوعون من كثير من ابسط الحقوق، ناهيك عن العمل السياسي. أما في السودان فإن أحزاب المعارضة لها مكاتب/دكاكين مفتوحة في كل ناحية، وأنصارها قادرون على الحركة والنشاط الإعلامي والحشد. وقد سافر الموقعون على وثيقة كمبالا إليها من الخرطوم وعادوا إليها. ولا يستوي الأمران.
إضافة إلى ذلك فإن الإيحاء بأن المعارضة المسلحة هي التي أسقطت نظام جنوب افريقيا أو حتى ساهمت في ذلك هو بعيد كل البعد عن الحقيقة. فجنوب افريقيا كان لديها أحد أقوى جيوش العالم، وقد ساهم جيشها في تدمير البلاد التي آوت الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الافريقي، حيث ما تزال موزامبيق وأنغولا تعاني حتى اليوم من ويلات تلك الحملات. وإنما سقط النظام الافريقي عندما تحول أهل جنوب افريقيا إلى النضال الشعبي السلمي في الداخل من قبل الجبهة الديمقراطية المتحدة بزعامة شخصيات مثل سيريل راموفوزا وويني مانديلا وديزموند توتو وغيرهم. وقد كان ذاك "الربيع الافريقي" هو الذي قلب معادلات الداخل والخارج وأقنع قادة البيض في جنوب افريقيا بحتمية التغيير.

من جهة أخرى فإن البلاد التي قامت فيها ثورات شعبية كانت المعارضة فيها كانت تواجه تضييقاً لا يقارن بما تواجهه المعارضة في السودان. وبخلاف تلك الأنظمة المدعومة دولياً، فإن حكومة الخرطوم تواجه العزلة الدولية، وتمارس الانتحار السياسي عدة مرات في اليوم. وعجز المعارضة عن حشد مظاهرة صغيرة في الخرطوم هو مشكلتها هي، لا مشكلة الحكومة. فإذا كانت المعارضة لا تخشى العمل المسلح ومواجهة الرصاص، ألا يسعها مجرد إقناع أنصارها بتغبير أقدامهم ساعة من الزمان وتحمل الكر والفر مع الشرطة في العاصمة؟

إن واجب حقن دماء السودانيين هو واجب سياسي وأخلاقي في نفس الوقت. سياسياً أثبت العمل المسلح أنه عاجز عن تحقيق أهدافه في إضعاف النظام، بل بالعكس، إنه يقوي النظام. والإنقاذ ما كانت لتصل إلى السلطة لولا وجود الحركة الشعبية وتصرفاتها وحالة الاستقطاب السياسي العميق الذي خلفه وجود حركة تسعى إلى فرض أجندتها بالسلاح وترفض الاعتراف بنظام ديمقراطي انتخبه الشعب. وهو واجب أخلاقي من واقع المسؤولية عن أرواح الأبرياء الكثر التي تزهق لتحقيق أهداف سياسية كان يمكن تحقيقها بطرق أخرى. ولا أعني بالأبرياء هنا فقط المدنيين، وإنما كذلك الجنود ورجال الشرطة، وغالبهم من الفقراء والمهمشين ممن لا مصلحة لهم في الصراع. هذا بالطبع إذا افترضنا أن الحروب شنت وفق القواعد المتعارف عليها، ولم يقارفها ارتكاب جرائم حرب وتصفيات وصراعات داخل الحركات، وهذا باب لا نريد فتحه.

إذن ما ندعو له هو تحكيم العقل. لقد اندلعت حرب الجنوب قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، بينما يصادف هذا الشهر الذكرى العاشرة لتفجر الصراع في دارفور. وخلال هذه العقود قتل الملايين وشرد أضعافهم ودمرت حياة أضعاف هؤلاء، وأهدرت موارد لا يحصيها إلا الله تعالى. ومع ذلك بقي الوضع السياسي يرواح مكانه أو ينحدر إلى أسوأ. وبالمقابل نجد في تونس ومصر تحركات سياسية حققت في أسبوعين أو ثلاثة انقلابات هزت العالم كله، وبكلفة أقل بكثير في الأرواح والممتلكات. أفلا نقول كما قال ابن آدم المفجوع بذنبه وأخيه: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي؟

وأخيراً فإننا إذ نكرر شكرنا وتقديرنا للأخ جبريل –الذي أبادله المودة والتقدير-  على إعلائه قيمة الحوار، فإننا كنا نود لو ترفع عن تلميحاته التي كررها أكثر من مرة وإيحاءاته بأننا قد نكون نظهر خلاف ما نبطن، لأنها تسيء إليه هو، نعيذه وإيانا بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وآثامنا الكثيرة التي نحمد الله أنه ليس من بينها النفاق أو أننا نخشى في الله لومة لائم، كائناً من كان.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء