أقالوه ولم يستقل يا دكتور مصطفى
بابكر فيصل بابكر
25 April, 2013
25 April, 2013
boulkea@gmail.com
شهدت ساحة حزب المؤتمر الوطني حدثاً هاماً مُوحياً بالحالة التي آلت إليها أوضاع حزب السُّلطة من حيث توفر الحُريَّات الداخلية, و كيفية التعاطي مع الرأي المُختلف داخل المؤسسة الحزبيَّة, وهى حادثة إقالة الدكتور غازي صلاح الدين من موقعه كرئيس للهيئة البرلمانيَّة لكتلة نوَّاب الحزب.
وعلى الرغم من أنَّ وقائع الإقالة وأسبابها معروفة ولا تحتاج إلى إثبات إلا أنَّ القيادي الآخر بالمؤتمر الوطني الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل, خرج علينا بتصريحِ مُدهش للغاية, وهو التصريح الذي أوردتهُ صحيفة "الصحافة", وجاء فيه أنَّ الأخير أكد أنَّ الدكتور غازي صلاح الدين لم يُعف من رئاسة الهيئة البرلمانية لكتلة المؤتمر الوطني, بل أنه ( تقدم باستقالته وكان يُصرُّ علي أن تقبل، فالصحيح أنَّ المكتب القيادي وافق علي طلب غازي بإعفائهِ من منصبهِ وغازي نفسه لا ينكر ذلك وهذا ما حدث ). إنتهى
نود بداية أن ندحض التصريح الغريب للدكتور مصطفى بأحاديث لصاحب الشأن نفسهُ ولقياديين آخرين بالمؤتمر الوطني, ومن ثم ننظرُ في دلالات حديثهِ عن "إستقالة" وليس "إقالة" الدكتور غازي صلاح الدين.
أوردت وكالة السودان للأنباء تصريحاً للدكتور غازي عقب صدور قرار إقالته من المكتب القيادي قال فيه إن أمر إقالته نشر بالإعلام ولم يصله أمر رسمي, ونوَّه إلى أنه ( لا يزال في موقعه رئيساً للهيئة البرلمانية لحزبه). وبعد صدور قرار الكتلة بإقالتهِ قال أنه كان رافضاً لقرار المكتب القيادي ولكنه سعيد بقرار الكتلة، داعياً الى التفريق بين رضاه بقرار الهيئة ودونها, في إشارة لتمسكه بالمؤسسية في إتخاذ القرار.
غير أنَّ الأمر الأهم في هذا الصدد هو رأي الدكتور غازي في الإقالة, حيث قال في ردَّه على سؤال عن أسبابها : ( لا توجد مسببات ), مضيفاً : (ربما تلك مشكلة الذين أصدروا القرار ). ونحن من جانبنا نسأل الدكتور مصطفى هل هذا حديث يصدر عن شخص تقدَّم بإستقالتهِ من منصبه ؟ الدكتور غازي يقول بوضوح أنه لا توجد مُسببات لإقالته, فمن أين إذاً جاء الدكتور مصطفى بحديثه الغريب عن إستقالة الرَّجل ؟
أمَّا القيادي البارز بالمؤتمر الوطني, وعضو المُجلس الوطني عباس الخضر الحسين فقد إعتبر أنَّ ( إبعاد د.غازي صلاح الدين من الهيئة البرلمانية للحزب أمراً غير موفّق من المكتب القيادي ). إنتهى
يبدو أنَّ الدكتور مصطفى عثمان حاول أن يخفف من أثر إقالة زميله في الحزب بطريقة "الغتغتة", وهى طريقة أصبحت غير مُجدية في الخروج من "الأزمة" العميقة التي يُعاني منها حزب الحكومة, و قد رأينا كيف أنَّ "يأس" بعض المنتمين إليه عضوياً وفكرياً جعهلم يشرعون في الإنقلاب عليه بالقوة العسكريَّة.
يقول الدكتور مصطفى ( أنا من اقرب الناس الي دكتور غازي واحترمه جداً وهو إصلاحي ويريد الإصلاح من الداخل، وطرح رأيه بقوة في مؤتمر الحركة الإسلامية ،لكن هذا لم يخرجه من مؤتمر الحركة الاسلامية أو المؤتمر الوطني والآن يعبر عن رأيه ونحن محتاجون لمثل هذه الأصوات ). إنتهى
فات على الدكتور مصطفى أنَّ "مراكز القوى" داخل حزبه ما عادت تحتملُ الرأي المُخالف وهنا تكمُن المأساة, فالدكتور غازي لم يفعل شيئاً سوى التعبير عن رأيهِ في قضيَّة ترشح الرئيس لدورة أخرى, وهي قضية لم يبتدرها هو, بل قدَّم فيها إجتهاده الخاص في قراءة نصوص الدستور, وكان يُمكن لمخالفيه أن يقدِّموا وجهة نظرهم, وينتهي الأمر إلى هذا الحد, ولكن من الواضح أنَّ ردَّة الفعل عكست حالة متراكمة من الصراعات الداخلية لم يعد بإستطاعة أطرافها التعايش سوياً, وبالتالي لا بد من ذهاب أحد الأطراف.
وقد عبَّر الدكتور غازي عن عُمق الأزمة داخل حزبه بالقول : ( عندما تنعدم ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ ويستعصى ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺗﻘﺒﻞ ﺁﺭﺍﺀ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻳﺒﺪﺃ ﻣﻮﺗﻪ ﺍﻟﺤﺘﻤﻲ. ﻟﻜﻦ ﻗﻴﺎﺱ ﻧﻘﻄﺔ ﺍﻟﻤفاﺭﻗﺔ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺩﻗﻴﻘﺔ يعتمد ﺃﻳﻀﺎ ﻋﻠﻰ ﻧﻮﺍﺡ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻨﻮﺍﺣﻲ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ). إنتهى
دلالاتُ حديث الدكتور غازي أعلاهُ لا تقفُ عند حدود الخلافات الداخلية للمؤتمر الوطني, بل تنعكس على مُجمل العملية السياسية الوطنية, إذ كيف يُمكن لحزبٍ يضيقُ بتباين الآراء داخل هياكلهِ أن يحتمل الرأي المخالف الذي تعبِّر عنه قوى سياسية أخرى تختلف معهُ بصورة كبيرة ؟ إجابة هذا السؤال يكمن فيها سبب تعثر جميع دعوات الحوار الوطني وإستمرار حالة الإحتقان السياسي و تكاثر النزاعات المسلحة.
في ردَّه على سؤال بصفحته على "الفيس بوك" حول إحتمال إنشقاقه عن المؤتمر الوطني أو تأسيسه حزب جديد, قال الدكتور غازي (عندما تنعدم ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ ويستعصى ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺗﻘﺒﻞ ﺁﺭﺍﺀ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻳﺒﺪﺃ ﻣﻮﺗﻪ ﺍﻟﺤﺘﻤﻲ. ﻟﻜﻦ ﻗﻴﺎﺱ ﻧﻘﻄﺔ ﺍﻟﻤفاﺭﻗﺔ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺩﻗﻴﻘﺔ يعتمد ﺃﻳﻀﺎً ﻋﻠﻰ ﻧﻮﺍﺡ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻨﻮﺍﺣﻲ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ).
الحديث اعلاهُ – يا دكتور مصطفى – ليس حديث شخص تقدَّم باستقالته كما تقول, بل هو حديث رجل أصابهُ اليأس من إمكانيَّة الإصلاح, ولم تعُد القضايا "الأخلاقيَّة" التي شكلت على الدوام مصدر شرعيَّة جميع حركات الإسلام السياسي هى ما تمنعهُ من "مفارقة" حزبه فقد رأى وعايش كيف يتم وأدها وتجاوزها في خضم الصراع على السلطة, بل هناك أسباب "عملية" تؤجل خطوته التالية, وهذه الاخيرة لا تتعدى ان تكون ترتيبات وحسابات سياسية مؤقتة, ومن ثمَّ يقع الطلاق.
الرَّجل يزنُ خطوته التالية بميزانٍ دقيق لأنهُ يعي المزالق التي يُمكن أن تؤدي إليها المُفارقة, وهو ما عبَّر عنه في إجابتهِ عن سؤال يُعيب عليه "التردد" في إتخاذ مواقف قويَّة, حيث قال : ( لست مُتردداً ولكنك رأيت ما تفعله المُنازعات السياسية في العالم النامي من موت ودمار، المشكلة أنه لا توجد في أنظمتنا حُريَّات حقيقية وأي تحرك سياسي مناويء يمكن أن يؤدي إلي أن تسيل الدماء). إنتهى
يبدو أنَّ الرَّجل أدرك بعد سنوات طويلة في دهاليز السياسة أنَّ "الحُريَّة" هى الحاضنة الأمثل لإدارة الخلاف, و هو لا يتعجل التحرُّك ضد النظام خوفاً من وقوع الصدام . ربما كان هذا هو الدرس المهم الذي خرج به من تجربته السياسية, فهو ذات الشخص الذي ترك مقاعد الدرس بالجامعة وحمل السلاح لتغيير نظام مايو, و كان مما نسب إليه مؤخراً القول أنه إذا إستقبل من أمره ما استدبر لما شارك في ذلك العمل العسكري.
بات من الجلي أنَّ الدكتور غازي لم يعد يُطيق الإستمرار في منظومة لا تحتمل الرأي الآخر, منظومة أضحى يُحرِّكها من وصفهم في مقاله "من يحكم السودان ؟" ب ( من يجرون حسابات خاصة دون نظر إلى مصلحة عامة ), ولذا فإنهُ الآن بصدد التفكير في الخطوة التالية, والتي ستكون في ظن كاتب هذه السُّطور أكثر جرأة من كل المواقف السابقة التي إتخذها في معاركه الداخلية, كيف لا والرَّجل قال في إجابة له اخيرة عن سؤال حول مستقبله السياسي : " لدينا حديث طويل بنقولو بعدين".
قريباً من السيِّاق : لاحظتُ أنَّ عدداً كبيراً من المسئولين الذين يتمُّ إبعادهم من مواقعهم يتوجهون للعمل بالزراعة, هذا ما فعله على سبيل المثال والي جنوب دارفور الأسبق, و شرق دارفور الحالي عبد الحميد كاشا الذي غادر فور إقالته من منصبه السابق للقضارف لمتابعة مشروعه الزراعي الذي تفرغ له, وعندما سئل اللواء عادل الطيب أحد المفرج عنهم في إطار العفو الرئاسي مؤخراً عن خطوته التالية أكد اتجاهه للعمل الزراعي, وكذا فعل الدكتور غازي صلاح الدين الذي قال للصحفيين وهو يجمعُ متعلقاته من البرلمان أنهُ ذاهب للزراعة.
متى يا ترى سيذهب الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل للزراعة مُصطحباً معه الخبير الوطني ربيع عبد العاطي ؟!