حَسَنْ والوطن وأمي

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم


alkanzali@gmail.com


مفارقات 



للوطن مذاق خاص ومكانة أخص، وريح طيب يأيتك من كل مكان، فهو كعرق الأم عندما يختلط بثوبها. عندما كنتُ في المهد صبياً، كنتُ اتحسس ثوب أمي حتى ولو كان خيطاً من بين ألف ألف ثوب، فلا أخطئه، لأني أجد فيه ريحها ولو يفندون. وإن غسل ثوبها مرة، أو أكثر يبقى ريحها معلق بالثوب لا يبلى حتى لو بلى الثوب، فيظل معلق بأنفي وأجد ريحه من بعد مسيرة شهر.
كان هذا حالي معها وأنا في المهد صبيا ثم بعلاً، ولو أمد الله في أيامها لكان هو حالي وأنا في مرحلة متقدمة من العمر لا يبعدني من أن أكون شيخاً إلا سن لبون. وابن اللبون من الأبل هو الذي يبلغ من العمر والقوة بما يعطيه القدرة أن يرعى بين الأشجار ويرد الماء دون رفقة، ولكنه لا يقوى على الهروب أو رد الشر عنه عند ظهور مفترس. من ارأد معرفة سن ابن اللبون فعليه بكتاب زكاة الأبل، ودية القتل الخطأ.
لهذا اطربني بل قل اسكرني ما وجدتُ من معناً في قول الكندي ذو الاصول السودانية من لذة ومذاق، وهو يرد على سؤال شرطية الحدود: " أيهما أحب إلى نفسك، كندا التي منحتك جنسيتها، أم السودان الذي جئت منه؟". فأجاب بذكاء متقد، وحضور ذهني: "كندا هي امرأة حسناء طلبتُ ودها فرضيت بي، ثم تزوجتها لجمالها ورغد عيشها، وسعدتُ بها ومعها. اما السودان فهو أمي التي بها أعتز وأفخر، الجأ إلى صدرها لتذهب عني الحزن، ولتعطي لفرحي طعماً وقيمة ومعناً وحضوراً.
فالوطن عندي هو سمرة جلدي وهويتي التي ليس لي منها فكاك. عدتُ إليه في هذا الشهر، بعد غيبة لم تمتد لفصل من الشهور لأشارك أخ وصديق عزيز في أول أفراح ذريته، فقد تزوجت كبرى بناته هند. فكنتُ شهوداً يوم الفرح الأكبر، أي عقد القرآن، قادماً لصيوان الزواج من المطار في ساعات الصباح،  فمثل حسن تُشَدُ إليه الرحال. فادركت الإفطار وفاتتني خطبة الزواج.
زهلتُ وزهل غيري من كثافة الحضور، وتذكرت أيام حياة الأمام الهادي المهدي وابيه عندما يأتيان أحدهما أو كلاهما لزيارة قريتنا بالنيل الأبيض، فلهما فيها رحم وزوج. كانت تضيق الأرض بما رحبت عند قدوم الإمام. فقد ضاق كذلك بيت حسن كمبال بالأحبة والأهل رغم سعته واتساعه، ولكن لم يضق صدر حسن بأحد من الناس، فهو كالبحر من أي جهة أتيته فأنت في ساحله ولن تدرك لجه إلا أن تكون صاحب حُلم، وتؤدة ومودة وصبر وعطاء وكرم.
صدر حسن عرفتُ بعضه، وأعرضتُ عن بعض، فقد دخلتُ عليه في شتاء يوم قارص والثلج يحيل شوارع مدينة جنيف وسقوف بيوتها لبياض كأننا في الليالي المقمرة (قمر دورين). دلفتُ لغرفته بالمستشفى وهو مستغرق يكتب وصيته بخط يده خشية أن يأتيه الأجل في أرض يجبر شتاؤها الناس بأن تنزوي. فقد كان طريح الفراش لا يقوى على الحركة كأنه مشلول مما أصابه في سلسلة ظهره. عندما تراه على تلكم الحالة تكاد أن تدمع عيناك، وتجهش باكياً، فالجسد لا حراك فيه إلا اليدين والرأس. ولكن حينما تطل عليه بغرفته تسبق يداه ابتسامة يسري منها وفيها رضى المؤمن وفرحه كأنها فرحة صائم، فترى الإيمان والصبر حوله قبل أن ترى بياض أسنانه، فلا تجدُ من خيار أمامك إلا أن تتماسك، فابتسامته تلقي عليك برداً وسلاماً وتشع نوراً إيماني، أو هكذا بدأ لي.
عاد حسن من جنيف معافاً يمشي على قدمين، بعد أن مشى على قولبنا حتى خالط الحب في الله ولله وبالله الدم والجلد والعظم واللحم وصار تجسيداً للوطن. فإن عددتُ مآثره فلا بد إني ظالمه، لهذا علي أن امسك ولا أسهب مخافة أن أنسى ما علمتُ عنه، دع عنك ما لم أعلم.
لحسن مع أهل قريتي مودة ورحمة، ليتها تكون يوماً رحماً. ففي جدران مسجد حي العشرياب والبحيرية قصة لو رويتها لظنني القارئ اهزأ وأفرط في الحب بالمبالغة، لذا وجب الامساك عنها. أما قصة علياء التي كادتُ أن تموت حزناً لفقر والديها وفقر مجموعها لدخول الجامعة، فهي قصة حزن لكل بنت تعيش ظروف مماثلة فيقف المال دون طموحها لولوج مدرجات الجامعة (العجز عن الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة) مما يكون سبباً في الحصول على نتائج غير مبرزة. إلا أن حسن رتق فقر الوالدين بمنحة في أشهر جامعات أفريقيا ورتق فقر المال بمال.
أما صديقي الأستاذ صلاح بن النيل الأبيض فقد أنتهى به الحال مريضاً بالسكري مما استدعى بتر قدميه وساقيه تلك التي طافت وحفيت وتشققت وهي تطوي أرض السودان طياً، شرقاً وغرباً، وسطاً وشمالاً. فما من بقعة في الوطن إلا مكث فيها صلاح معلماً بالمدارس الوسطى. كان كل طموحه العلاج بالخارج وتركيب ساقين صناعيين، وإلا فأدنى مطالبه أن يحصل على (موتر معاقين) فكان لحسن نصيب غير منقوص في المطلب الأخير، أما الخيار الأول فما زال صلاح يترقبه ويرغبه، فهل من مجيب؟
لهذا عَجِبَ واسْتَعجبَ من حولي من الأستفتاء حول حسن يوم زواج ابنته هند، حتى قال أحدهم لو أن الرئيس البشير رأى ما رأينا لجعله خليفة له، هذا إن لم يتنح في الحال، فقد كان الحضور بتنوعه في السحنة والإنتماء السياسي والديني والوضع الأجتماعي استفتاء لمحبة الناس لحسن.
ظني بربي أن يكون حسناً ممن نادى الله ملائكته فيهم وقال: " يا ملائكتي إني أحببتُ فلاناً فأحبوه، فأحبته الملائكة ونادت الملائكة في الناس: يا عباد الله إن الله وملائكته أحبوا فلاناً فأحبوه، فيحبه الناس".
مثل هؤلاء الرجال وتلكم الأم يجعلنا نتعلق بالوطن رغم جنوحه وصده وعنفه وترابه وغباره الذي ينشط في مايو وغير مايو، وعلى ترابه نجد الأم، والأخ والأخت، وفيه رجال ونساء مثل حسن، تجدهم في المساجد والمأتم والأفراح والمستشفيات والمدارس والشوارع والطرقات، يتقون النار بشق تمرة، ووجه طلق يلقي السلام عليك فتسري في روحك تفاؤل ورضى بان في غدٍ سيرتدُ إلينا بصرنا وناتي للوطن بأهلنا أجمعين.
" ربِ بما انعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين".

 

آراء