في الظاهرة القطرية مرة أخرى
تأملات في تحديات التحديث في المحيط العربي الإسلامي
خلال أقل من عامين، تحولت دولة قطر من قبلة لمعظم التيارات الناهضة في العالم العربي إلى مصب للعنات وتهم بعض التيارات الراديكالية والليبرالية، خاصة تلك المؤيدة للنظام السوري وإيران، أو المعارضة لحكومات مصر وتونس وليبيا. وكانت قطر، خاصة منذ إطلاق قناة الجزيرة الفضائية عام 1996، أحب الدول العربية إلى كل التيارات العربية، من ليبرالية وإسلامية وقومية، لأنها منحتها مساحة حرية افتقدتها في أوطانها، وكسرت عنها حصاراً فرضته الأنظمة القمعية. وقد دفعت قطر، ومعها الجزيرة، ثمناً غالياً لهذا الدعم: قطعاً للعلاقات الدبلوماسية، ومحاربة إعلامية وسياسية واقتصادية، كما تعرضت مكاتب قناة الجزيرة للإغلاق، بل والقصف، وتم الاعتداء على الصحفيين بالضرب والاعتقال، وأحياناً القتل.
ورغم علاقات قطر الطيبة مع الولايات المتحدة وحتى فتح مكتب لإسرائيل في الدوحة، فإنها لم تخف دعمها للمقاومة، كما أنها بنت علاقات طيبة مع إيران وسوريا، مخالفة في ذلك أحياناً إجماع حلفائها الخليجيين. وكنتيجة لهذه السياسات المنسجمة مع طموحات الشارع العربي في دعم الحرية من جهة والمقاومة من جهة أخرى، اكتسبت قطر احترام الراي العام العربي أو غالبيته على الأقل، ومحط نقمة الأنظمة القمعية. وقد أهلها هذا بدوره للعب دور قوي على الساحة العربية، كونها موضع ثقة عند معظم الأطراف العربية، حيث توسطت بنجاح بين حماس وفتح وبين الطوائف اللبنانية وفي نزاع دارفور، كما قدمت كذلك المعونات الاقتصادية والإنسانية لكثير من الأطراف العربية وغير العربية.
يلاحظ من كل هذا أن سياسة قطر، فيما عدا دعمها للحريات عبر قناة الجزيرة، كانت تعمد إلى تجنب القضايا الخلافية، وتركز على سياسات "بناءة"، مثل الوساطة بين الفرقاء ودعم القضايا محل الإجماع. وفي حالات نادرة دخلت في مواجهات مع محور دول "الاعتدال" (مصر ومعظم دول الخليج) حول الموقف من حرب لبنان عام 2006 وحرب غزة عام 2008.
لهذا السبب مثل الربيع العربي انتصاراً بيناً لقطر ونهجها، مع انهيار أكثر الأنظمة شراسة في عداوتها، خاصة مصر وتونس، وصعود القوى السياسية التي استقادت من كسرها الحصار الإعلامي على المعارضات. ولم يكن هناك أدنى خلاف بين هذه القوى على الدور البناء الذي لعبته قطر وقناة الجزيرة في رفد الثورات بالدعم. وإذا كان هذا الدور ثانوياً في تونس، فإنه كان محورياً في مصر، حيث كانت قناة الجزيرة وميدان التحرير وحدة عضوية رغم القرار الحكومي الرسمي بإغلاق مكاتب القناة وقطع إرسالها عبر نايل سات.
ولكن نجاح الثورات العربية، وانحدار بعضها إلى مواجهات مسلحة، كما حدث في ليبيا وسوريا، وضع قطر لأول مرة في موضع المواجهة مع قوى كانت في الماضي تصطف إلى جانبها. ففي ليبيا، ورغم الإجماع العربي والدولي على دعم الثوار، إلا أن تدخل حلف الأطلسي بتفويض أممي في الصراع هناك أثار مخاوف قديمة في بعض الأوساط العربية والافريقية حول عودة الهيمنة الغربية إلى المنطقة من باب دعم الثورات. وقد تعمق الانقسام بعد اكتساح الإسلاميين للانتخابات في تونس ثم مصر، وأخيراً بعد انحدار الثورة السورية إلى صراع طائفي مكشوف.
ومن غير الواضح لأول وهلة لماذا صب الخاسرون في هذه المواجهات (خاصة أنصار النظامين الليبي والسوري، والخاسرون في انتخابات مصر وتونس) جام غضبهم على قطر دون غيرها. فلم تكن قطر هي التي فرضت على الجامعة العربية ومجلس الأمن التصويت بما يشبه الإجماع على دعم الثوار في ليبيا، ولا هي التي قادت حلف الأطلسي في تلك المعركة. وليست لقطر حدود مع سوريا حتى تكون هي الداعم الأول لثوارها، ولعلها بالعكس تلكأت في ذلك كثيراً لأنها كانت أقرب الدول العربية إلى سوريا وإيران وحزب الله. ولم تكن قطر هي التي نظمت انتخابات مصر وتونس أو حسمت أمر الفائز فيها.
ولعل هذا الحنق على قطر يعتبر شهادة على فاعلية دورها، لأن من ينحون باللائمة عليها يسجلون اعترافاً مزدوجاً بأنه لا بقية خصومهم يقلقونهم مثل قطر، ولا داعموهم الكثر يفيدونهم في مواجهتها. ففد وجدت القوى المناهضة للإسلاميين في مصر وتونس الدعم السخي من معظم دول الخليج والسند الكاسح من الغرب، علاوة على غالبية الأجهزة الإعلامية المحلية، بمافيها الإعلام "الرسمي"، دون أن يغني ذلك عنها الكثير. أما النظام السوري، فقد عارضه العالم كله، ما عدا روسيا وإيران وفنزويلا، ولكنه لا يرى أنكأ من عداوة قطر.
السؤال الذي يطرح نفسه إذن هو ما سر هذه الفاعلية شبه الأسطورية المنسوبة لقطر حتى كأنها السحر؟
يمكن نسبة فعالية قطر لعاملين يرتبط أولها بوسائلها والثاني بغاياتها. ويمكن تلخيص العامل الأول في كلمة واحدة: المهنية. فإعلام قطر مهني بامتياز، ودبلوماسيتها مهنية حرفية بلا منافس، وسياساتها الاقتصادية كذلك مهنية متقدمة. فمهما اختلف المرء مع سياسات قطر في هذه الجزئية أو تلك، إلا أنه لايسعه أن يعترف بأنها تنجز ما تريد بفعالية كبيرة. ولعل أبرز شاهد على هذه الفعالية الدبلوماسية-الإعلامية إنجاز قطر كأول دولة عربية إسلامية تفوز بحق تنظيم مباريات كأس العالم لكرة القدم عام 2022. وقد يرى البعض هذا الأمر هامشياً، إلا أن الفوز في منازلة مع عمالقة مثل استراليا واليابان وكوريا وروسيا، ليست "لعباً" بأي حال. فهنا تحتاج الدولة إلى مهارات دبلوماسية عالية (أكبر بكثير من الضروري للفوز في الامم المتحدة ونحوها)، وأهم من ذلك، قدرات مهنية في مجال الدعاية والاقتصاد لإقناع محترفين مهنيين دوليين بأن الدولة المعنية تمتلك أفضل المهارات والقدرات الفنية والأمنية والهندسية والمعمارية بين منافسيها لاستضافة مناسبة بهذا الحجم.
وهذا يذكر بأن أزمة المهنية كانت العقبة التي تهاوت عليها معظم مشاريع النهضة العربية الإسلامية منذ أيام التنظيمات في الدولة العثمانية ومساعي محمد علي لتحديث مصر. وقد كان مرد ضعف المهنية في الحقبة الأولى إلى نقص الخبرة والمعرفة وفقدان الكفاءات، ولكن في حقب لاحقة جاءت المشكلة من التضحية بالكفاءات والاعتبارات المهنية لصالح الولاء خياراً سياسياً.
وهذا يقودنا إلى النقطة الثانية في سر نجاح قطر، وهو اعتمادها غايات واقعية في معظم الأحيان، وابتعادها عن المغامرات غير المحسوبة. فبخلاف دول أخرى فاقت قطر في الثروات والإمكانات البشرية، مثل ليبيا والعراق ومصر، تجنبت قطر المغامرات الأجنبية وإهدار الجهود والمال في حروب غير مدروسة أو قمع داخلي إجرامي. صحيح أن قطر ليست نموذجاً في الديمقراطية، ولكنها ليست دولة قمعية ولا تحتاج لذلك. ويعترف معارضو النظام –وهم موجودون- بأن الأسرة الحاكمة لو خاضت انتخابات ضد معارضيها لكسبتها بدون كبير جهد. ومهما يكن فإن قطر اعتمدت سياسة تصالحية مع الداخل كما هي مع الخارج، ولم تقع فيما وقعت فيه بقية الدول الخليجية الأخرى (ما عدا عمان) في صدامات مكتومة أو ظاهرة مع قوى المجتمع.
وهناك بلا شك معادلة دقيقة بين الاعتدال الحذر والسقوط في فخ الذرائعية، وبين الالتزام الأخلاقي والتهور. وفي عالمنا العربي، وقعت معظم الدول في المحذورين. فالدول التي اختارت "الاعتدال" وقعت في أحضان العدو، وأصبحت من "المجاهدين"، ولكن في الصف الآخر، بينما الدول التي اختارت "الممانعة" والمواجهة دخلت في مغامرات مدمرة، ثم وقعت في أحضان العدو. ومن ذلك مصر التي قادت العرب إلى هزيمة 1967 ثم انقلبت خلال أقل عقد من الزمان إلى أقرب حلفاء إسرائيل. وقد شهدنا كيف انطلق العراق من حروب داخلية إلى حروب خارجية انتهت بالخضوع لاستعمار فعلي كان فيه "المفتشون الدوليون" يفتشون غرف نوم الرئيس بحثاً عن المحظورات (وهذا حتى قبل الغزو الفعلي). أما سوريا فحدث ولا حرج، حيث دعمت إيران في حربها ضد العراق، ثم أرسلت جنودها ليحاربوا كتفاً بكتف مع جنود بوش في جزيرة العرب، وعقدت الصفقات مع إسرائيل (وما تزال تتغنى ب "وديعة رابين" المزعومة باعتبارها الكنز المفقود) كما مارست التعذيب مقاولة عن السي آي إي، وما تزال تستجدي دعم الغرب وإسرائيل بالزعم بأن سقوط الأسد سيزيل حاجزاً منيعاً يحمي الغرب من الإرهابيين وإسرائيل من "المقاومة". فاعجب من "ممانعة" تتبجح بالجهاد نيابة عن الغرب ضد "التكفيريين"!
ولكن قطر تجنبت هذه المصائر المؤلمة. فهي تعتبر من قبل الدول الكبرى حليفاً لا تابعاً، بينما تدعم قضايا الأمة بفعالية ومن دون تهور يؤدي إلى النقيض. إسلامياً أيضاً سبق "النموذج القطري" النموذج التركي بعقود في المزج بين الإسلام المعتدل والانفتاح على متطلبات الحداثة. والخلاصة أن هناك الكثير مما يستحق الانتقاد في قطر، ولكن ما تنقمه عليها فئة الخاسرين من الربيع العربي ونقابة الفاشلين العرب هو بالعكس، ما يستحق الإشادة: ذلك المزيج الذهبي من الفعالية والمهنية من جهة، والالتزام الأخلاقي بقضايا الأمة والحريات من جهة أخرى. وبدلاً من لعن قطر حسداً من قبل الساقطين أخلاقياً والفاشلين عملياً، ليرنا هؤلاء نموذجهم البديل، وليستبقوا الخيرات إذا كان عندهم عطاء مقابل. فنحن في حاجة إلى أكثر من نموذج ناجح عوضاً عما عشناه من تعدد النماذج الفاشلة. وبالمقابل فإن آخر ما نحتاجه هو تعميم النماذج الفاشلة عبر السعي إلى تدمير النماذج القليلة الناجحة وتشويه صورتها حتى نستوي جميعاً في الحضيض كما ظل عليه الحال حتى عهد قريب.
ما نأمله كذلك هو أن تحافظ قطر على مكاسبها وهي تنتقل إلى حقبة جديدة، وأن تتطور إلى الأمام بناءً على ما تحقق من قبل، وألا تخسر الصيغة الذهبية التي تبنتها حتى الآن، وحققت عبرها كل هذا النجاح.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]