بين ولاية الفقيه وولاية العسكري في المشهد المصري: ليبرالية الوصاية

 


 

 





عندما بدأت موجات الديمقراطية تقترب من الشواطيء العربية مع تسونامي ثورات أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات، ظهرت التحفظات في أوساط عدة في داخل هذه الدول وخارجها حول صلاحية شعوب هذه البلدان لحكم نفسها. وكان هؤلاء يقولون في السر –وأحياناً في العلن- إن الشعوب لم تنضج بعد بما يكفي لكي تسود، وقد تخطيء في قرارها فتنتخب من لا يصلح. ووجد هؤلاء ضالتهم في تجارب الأردن والجزائر واكتساح الإسلاميين لانتخاباتها رغم أنها لم تكن حرة، مما دفع بأهل الشأن للتدخل ل "تصحيح" هذا القرار "الخاطيء" من قبل الشعوب.

كان هناك موقف مماليء لهذا "التصحيح" من قبل الغالبية في مراكز صنع القرار، وكثير من المواقع البحثية والأكاديمية والإعلامية، حيث كان مركز قيادة الانقلاب الجزائري على الديمقراطية في مطلع 1992 يقع عملياً في باريس كما أسلفنا في مقال سابق. وقد رحبت الولايات المتحدة بالانقلاب بعد تردد قصير، واصطفت أوروبا خلفه، كما عززت كل هذه القوى دعمها للأنظمة القائمة. 

المفارقة هي أن ما سمي ب "الموجة الثالثة" للديمقراطية (صمويل هنتنجتون) التي اجتاحت معظم قارات العالم، تزامنت مع أزمة احتلال الكويت وتدفق الجيوش الغربية لدعم أنظمة الاستبداد العربية، تزامنا ً مع انسحاب الجيوش السوفيتية من أوروبا الشرقية وسحب الغطاء عن أنظمتها. وقد شهدنا وقتها "أروع" حملات  التضامن بين الدكتاتوريات العربية التي تناست خلافاتها، وخرجت للجهاد دفاعاً عن إمارات الخليج الباسلة، فقاتل جنود أنظمة "الممانعة" السورية كتفاً إلى كتف مع أنظمة "السلام" الانبطاحي المصرية تحت "راية التوحيد" الأمريكية. ولم تشهد الأمة الإسلامية وحدة مثل تلك، حيث كانت إيران الشيعية في حالة تضامن مع السعودية "الوهابية"، وكان الجميع يرحبون ب "مجاهدي" الحرية الذين قدموا من بلاد العم سام لنصرة المظلوم وإحقاق الحق، فسادت المحبة بين الجميع، وأفتى الفقهاء بأن الجهاد مع بوش أصبح فرض عين.

ولكن في نفس تلك الحقبة، ارتفعت أصوات أكاديمية "رصينة" تتحدث عن أن العرب لا يحبون الديمقراطية ولا يفهمونها، وأن الإسلام يحبذ الخضوع للمستبدين، ويحسن لأتباعه التلذذ بسياط الجلاد وغرف التعذيب، وتغييب الصوت، ونهب الأموال لصالح القلة، بينما يرى الحرية كفراً، والسلامة من القهر إثماً مبيناً. ولا نريد هنا أن نطرح السؤال عن السبب في الحاجة إلى سياط الجلاد وغرف التعذيب أصلاً إذا كان المسلمون كما زعم هؤلاء يحبون الخضوع للاستبداد؟ اليس من المفترض إذن أن يتزاحم هؤلاء على تقبيل أحذية جلاديهم طوعاً؟ ثم لماذا كذلك الحاجة إلى تدفق الجيوش والأموال من الخارج من أجل دعم الدكتاتوريات المحلية إن كانت "ثقافتنا" تقوم بالواجب؟

بعض كبار المفكرين في الغرب تناسوا هذه المظاهر البينة لأهمية العامل الخارجي ومظاهر القمع، فدبجوا المقالات في التنظير لحالة "الاستثناء" الإسلامية والتبرير للسياسات القائمة. وكانت مجلة "فورين أفيرز"، لسان حال مجلس العلاقات الخارجية الواسع النفوذ في أمريكا، أحد أهم المنابر لهذا السجال. فقد ظهر فيها مقال للكاتبة الصحفية "جوديث ميلر" المقربة من دوائر صنع القرار الإسرائيلي عام 1993 تحذر الولايات المتحدة من تبني سياسة نشر الديمقراطية في العالم العربي حتى لا تأتي بالإسلاميين إلى السلطة. وطالبت ميلر بالمقابل بالتركيز على حقوق المرأة وحقوق الإنسان والأقليات. وفي عام 1997، طور فريد زكريا، أحد رموز المحافظين الجدد، هذه الرؤية نظرياً بانتقاد ما وصفة ب "الديمقراطيات غير الليبرالية"، وضرب مثلاً لها بدول مثل صربيا والارجنتين تحت رئاسة كارلوس منعم أو روسيا بوريس يلتسين. وقال زكريا إن الديمقراطيات اللاليبرالية أسوأ من الدكتاتوريات المستقرة، لأنها تولد الحروب والصراعات واضطهاد الأقليات، وفضل عليها ما سماه الليبراليات الأوتوقراطية مثل أنظمة سنغافورة وهونع كونغ تحت الحكم البريطاني. وأوصى الحكومة الأمريكية بالتركيز للترويج لليبرالية بدلاً من دعم نشر الديمقراطية التي قال إن ضررها أكثر من نفعها، خاصة في الدول الإسلامية التي لا تحبذ شعوبها الديمقراطية. وقال إنه لو عقدت انتخابات حرة في دول مثل تونس ومصر ودول الخليج، فإن النتيجة ستكون بالتأكيد أنظمة أقل ليبرالية من تلك القائمة وقتها.

وكنت قد أطلقت على مثل هذا الطرح نظرية "ولاية الليبرالي"، قياساً على مقولة "ولاية الفقية" التي طورها الإمام الراحل أية الله الخميني، وكان قد سبقه بها إمام الحرمين الجويني، وحبذها بصورة غير مباشرة الشيخ رشيد رضا. ولا تختلف هذه النظرية كثيراً عن مقولة "الديمقراطية الموجهة" (أو "دكتاتورية البروليتاريا") التي نظرت لها أحزاب شيوعية ومارستها، أو فكرة "الحزب القائد" في سوريا، أو "التنظيم الطليعي" في مصر الناصرية. وتتواطأ هذه المقولات في أنها ترى أن عوام الناس غير مؤهلين لولاية أمر أنفسهم، إما لنقص في العلم، أو قصور في الإرادة والمقومات الأخلاقية أو لسبب آخر. وعليه لا بد من وصاية عليهم من جهة تمتلك المقومات اللازمة من علم وخلق ورجاحة عقل، إلخ، ولا بد أن يساقوا سوقاً إلى ما يصلحهم.

وقد انتقد بعض منظري الديمقراطية، مثل روبرت دال، نظريات الوصاية عموماً باعتبارها تستند على دعاوى لا سند لها في احتكار العلم والصلاح من قبل أقلية هي الخصم والحكم في مدى علمها وصلاحها، كما أن مثل هذه الفئة تدعي كذلك أنها أعلم بمصلحة الخلق من أصحاب المصلحة أنفسهم، وهو تناقض.

وقد أضفت في مساهماتي الأكاديمية تفنيداً لهذه الدعاوى من وجهة النظر الإسلامية، حيث أن المسؤولية في العقيدة الإسلامية أمام الله هي مسؤولية فردية، ولا يجزي فيها اتباع سادة وكبراء، أو الانصياع لفتوى. وقد روي عن الرسول الكريم تفسيره صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" بأنها تشير إلى الاتباع الأعمى لفتاوى هؤلاء الأحبار. فالمسلم مطالب بتحكيم عقله فيما يسمعه من فتاوى، وإلا واجه خطر الوقوع في الشرك. ومهما يكن فإن معظم أحكام الدين الإسلامي تقوم على الاجتهاد، ولا توجد أحكام معلبة جاهزة حتى تكون معرفتها شرطاً للولاية والوصاية. بل إن القرآن والسنة معاً نهيا عن الإكثار من طب الفتوى وإعمال العقل بدلاً من ذلك، كما جاء في الآية: "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، والحديث: "اتركوني ما تركتكم." وإذا كان الإكثار من الاستقتاء منع والقرآن ينزل والرسول حاضر، فكيف يكون تعطيل العقل مطلوباً في حضور أشخاص أقل ما يقال فيهم افتقاد العصمة؟ وفي القرآن أيضاً أن من يزكي نفسه ويدعي الأهلية للولاية فهو كاذب ضال، وأجدر ألا يستفتى ولا يسمع له. فكل نصوص الدين إذن حاسمة في إبطال أي دعوى من هذا النوع.

ولكن أبلغ إبطال لنظريات الولاية هو تطبيقاتها العملية، سواءً في الأنظمة الشيوعية، أو الأنظمة العربية القومية من ناصرية وبعثية و "ليبرالية"، أو الإسلامية في إيران والسودان وغيرهما. فقد شهدنا كيف قاد النظام الناصري مصر إلى الهزيمة ومارس القهر في حق أنصاره قبل خصومه، ودمر وحدة مصر وسوريا، وكيف أن الأنظمة البعثية في العراق وسوريا تحولت إلى دكتاتوريات دموية دمرت البلاد والعباد. أما عن النماذج التي ادعت الدفاع عن الليبرالية في مصر وتونس وغيرها فحدث ولا حرج. وخلاصة الأمر إن "الاستبداد المستنير" وهم لا وجود له، فكل مستبد هو مشروع إجرام سرعان ما يتحقق. ولم تختلف الأنظمة "الإسلامية" في إيران والسودان عن غيرها، حيث أن من أكثر من يجأر بالشكوى منها اليوم هم الإسلاميون قبل غيرهم.

من هنا فقد كان عجباً أن ليبراليي مصر قد استبشروا خيراً بظهور "الولي الفقية" والمخلص الملهم في بزته العسكرية، ورأوا فيه إمام الزمان ومنقذ مصر، ومخرجها من أوحال الديمقراطية المضطربة إلى فضاء الليبرالية الرحب. وقد قام سماحته باختيار "فقيه" آخر من رجال القضاء يتولى الرئاسة على طريقة شيخنا أحمدي نجاد قدس الله سره، وسارع ذلك الحبر بدوره باصطفاء ثلة أخرى من فقهاء الليبرالية كلفهم بوضع دستور لا يأتيه الباطل "الإسلامي" من بين يديه ولا من خلفه، حيث ستفرض الحرية على شعب مصر من فوهة البندقية، ولكن بعد وضع فقرات لعلها تقتبس من الدستور الإيراني، تعطي "الولي العسكري" (أو ربما الولي "القاضي"، ففي تركيا مثلاً كان القضاء والجيش وجهان لعملة واحدة تتولى الكهانة لدين أتاتورك وتعاقب المهرطقين بما يليق بملة الكفر) حق الفيتو على كل قرار لبرلمان منتخب او رئيس مفوض.

ونحن نبشر المحتفلين في ميدان التحرير بيوم ندامة قريب، ونذكر بأن من كان في استقبال آية الله الخميني رحمه الله يوم حطت طائرته الميمونة في مطار طهران في مطلع فبراير عام 1979 كانوا بين خمسة وستة ملايين، بينما شيعه أكثر منهم يوم رحيله في يونيو عام 1989. فنظرية ولاية الفقية، مثل نظرية ولاية العسكري، لم تفتقد الدعم الشعبي. وهذا قد يدفعنا إلى مراجعة مقولاتنا التي ظللنا نؤكد عليها من أن العرب والمسلمين لا يحبون الدكتاتورية. ولعله مما يدعو إلى القلق أكثر، هو أنه حتى بافتراض تطابق ولاية العسكري وولاية الليبرالي في الحالة المصرية، فإن الترحيب غير المسبوق من جهات كثيرة غير متهمة بالليبرالية بهذا الفتح المبين في مصر المحروسة، يثير تساؤلات حول المغازي. فإذا كان بشار الأسد وحكام السعودية ونوري المالكي وإعلام طهران تواطأوا على الاحتفال بسقوط الديمقراطية في مصر، أليس هذا آية من أيات الزمان؟

نحن نعرف أن مصريين كثر احتفلوا بسقوط عرابي ووصول بوارج الانجليز وعسكرهم لحكم مصر، كما احتفل كثيرون غيرهم بوصول طلائع قوات آية الله بوش إلى قلب بغداد. فهل نحن حقاً كما يقول المستشرقون وحكامنا المستبدون، أمة قاصرة لا تريد حكم نفسها ولا تطيقه؟ لقد أخذ رصيدي من الحجج يتآكل بسرعة ضد هذه المقولات، ولعلي أتحول بعد قليل إلى طائفة المؤمنين بأننا أمة لا يصلحها إلا السوط وأعقاب البنادق.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء