مهنيّو المياه والطيران مدعوون لرحلة رائدة ومثيرة لإسقاط الطعام لمتضرري الفيضانات. بقلم: محمد قريش
بسم الله الرحمن الرحيم
مهندس مدني يوثق لتجربة رائدة ومثيرة لأسقاط الطعام من الجو علي المحاصرين بالفيضان
(1من 2)
بروفيسور
د.د. محمد الرشيد قريش
E-mail: blacknims2000@hotmail.co.uk
مركز تطوير أنظمة الخبرة الذكية
لهندسة المياة والنقل والطاقة والتصنيع
استهلال: استدعاء التاريخ -- بقلم محمد الرشيد قريش
في الرابع من أغسطس 2013 ، قامت ولاية الخرطوم باسقاط معونات من الجو إلى آلاف الأشخاص المتضررين من الفيضانات الناجمة عن الأمطار الغزيرة في منطقة الخرطوم
وفي عام 2007 قامت السلطات باسقاط الطعام لمدينة اروما من الجو
عندما حاصرت السيول و فيضان خور بركة مدينة طوكر مما أدي لأنهيار الجسر الواقي لطوكر و قطع الطريق الوحيد الذي يربط المدينة بسواكن وبورتسودان، بجانب قطع خطوط السكة حديد
هذه الأحداث تعيد ذكري واحدة من اوائل عمليات اسقاط الطعام من الجو في سودان ما بعد الأستقلال ، ففي عام 1956حاصر فيضان خوربركة منطقة كرمبت بضواحي مدينة طوكر مما استوجب القاء الطعام ومعينات درء خطر الفيضان من الجو الي سكان هذه المنطقة المحاصرة ، وهذه التجربة الرائدة والمثيرة لأنقاذ أهالي منطقة كرمبت -من كارثة الفيضان والجوع ، شارك فيها ووثق لها المهندس الرشيد سيد احمد
وهذا المهندس ليس غريبا علي تجاوزات انهار الشرق تلك وقد ألم الكثيرون بشيء من سيرتة المهنية الحافلة بالأنجازات علي الموقعن الأتيين:
"الرشيد سيد أحمد في مئويته: أهمية القدوة الحسنة في تحقيق التميز المهني الإنجاز المبهر لمهندس من الزمن الجميل-- نموذجا "
http://www.sudaress.com/sudanile/45093
http://www.sudanile.com/index.php/2008-05-19-17-39-36/34-2008-05-19-17-14-27/45093-2012-09-26-20-44-09
"استدعاء التاريخ: لمن تقرع أجراس التكريم في تشيد وتعلية سد الروصيرص؟"
http://www.sudanile.com/index.php/2009-09-03-11-01-55/50263-2013-02-14-13-25-54
، وتأتي تجربة هذا المهندس تلك من بعد مجاهداته في ترويض وكبح غلواء نهر القاش وخور بركة ، وتلك كانت تجربة اكثر اثارة خاضها هذا المهندس لسنين طوال في تخطيط وتصميم كل الترع لمشروع القاش ومشروع دلتا طوكر وتشييد منشئات التحكم في المياه وترع وحياض الري لمشروع تسني باريتريا وعمل الميزانيات لها والمحافظة علي مجري القاش وخور بركة وتهذيبهما للحماية من – وضبط- الفيضانات من خلال إقامة السدود و منشئات ترويض النهر المختلفة (Cut-offs, Levees, Check Dams, Diversions) وهوعمل بارز شهد له به كبير مهندسي الري الإنجليز عند انتهاء عمله في شرق السودان قائلا:
"أود أن أشكر لك... كل الحرص والتفاني في العمل والإخلاص للواجب الذي أظهرته...وللمعايير الهندسية العالية التي عالجت بها العديد من المشاكل الصعبة التي نشأت في القاش" (رسالة جورج ن. ألن -- 1945)
• وحين عرض هذا المهندس تجاربه تلك في ترويض نهرالقاش وخور بركة في “المؤتمر الدولي الرابع حول الري والصرف" الذي انعقد في يونيو 1960 بمدريد، (أسبانيا)، عجب المؤتمرون الأوربيون من أن مثل هذا العمل الهندسي الدقيق قد قام به المهندسون السودانيون في أربعينات القرن الماضي! وفي احد هذه المرات ، كاد نهر القاش يبتلع هذا المهندس هو ورفاقه من العمال، وكنا قد وثقنا لهذه التجربة في دراسة بعنوان:
A Case Study On A Pioneering Work Of Successful Design And Execution Of Stream-Training And Flood Damage Abatement Plan :In Memoriam Of Mohamed El Rashid Sid Ahmed
وأما "خور بركة" نفسه ، والذي درج علي أن يقف وراء الكثير من تلك الفيضاتات المدمرة، فهو نهر موسمي الجريان ينحدر من المرتفعات الإرترية بين شهري يونيو وسبتمبر من كل عام عابرا الي الأراضي السودانية ليصب في البحر الأحمر بعد التخلص من حمله الكبير من الطميء وطرحه قبل وصوله للبحر بقليل لينشيء دلتا واسعة تعرف بدلتا طوكر تمتاز بخصوبة تربتها العالية –مثلها في ذلك مثل تربة دلتا القاش – وكلتاهما يصنفان وسط أكثر الترب خصوبة في العالم (أنظر الرسم أدناه أو في موقع سودانيز اون لاين بنفس العنوان)
ونظام الجريان في خور بركة من نوع الجريان النهري "غير المضطرد وغير الثابت"(Unsteady Non-uniform Flow) والذي يسم موجات فيضانه العارمة واندفاعها المفاجئء، والخور—كما حال نهر القاس—ذو "فيضان لمحي" (Torrential Rivers with Flash Floods) ،و تقلبات التدفق في النهرين عالية جدا ويعتبران من " الأنهار المهاجرة" (Migratory Rivers) ، غير أن بركة يتميز بسرعة تدفقه حيث يمكن أن يبلغ تصرفه (1200 m3/sec) بالمقارنة مع شقيقه نهر القاش ، والذي يبلغ تصرفه (800 m3/sec) فقط!
اسقاط المؤن من الجو وحاكميته:
ولا يحسبن أحدا أن القاء المؤن من الجو ليس سوي نزهة امنة في الفضاء للقائمين بتلك المهمة ، بل هي رحلة محفوفة بقدر وافر من المخاطر المرتبطة ب:
أليات اسقاط الطعام
وبتوفرأو غياب الأنضغاط الهوائي في مقصورة الطائرة (Cabin Pressurization) ،
وب "المناورات" الفنية المطلوبة لأنجاز المهة ،
وباحتمال تغير "مركز ثقل الطائرة" مع تغير الحمولات أو اعادة ترتيبها في مقصورة الطائرة ،
وبالطبع بحالة الطقس حين يجري الأسقاط ،
كما قد تنطوي أيضا علي قدر ليس بالقليل من الهدر لبعض المواد التي يراد ايصالها للضحايا ،
فالأنضغاط الهوائي في الطائرة ،مثلا ، وتكييف الضغط داخل مقصورة الطائرة، ليكون مساوياً لضغط الجو العادي (Cabin Pressurization) هو من سمات الطيران التجاري، و عادة هو مطلوب في أي ارتفاعات للطائرة لأكثر من 9843 قدم
ومعظم الطائرات ذات المحرك الكباس(Piston Engined Aircraft ، مثل الComet والIlyusion IL12) والتي تطير بين 12000 و 18000 قدم، (على الرغم من بعضها يمكن أن تطير إلى 22000 قدم أو أعلى) ، تفتقر مقصورتها عادة الي الأنضغاط الهوائي ، أي أنها (Unpressurized Planes) ،
في حين أن الطائرات ذات المحرك التربيني الدافع (Turboprops-- كفوكر27 Fوانتينوف An 12) تطير عادة لأرتفاع 28000 قدم، بينما الطائرات ذات المحرك المروحي التربيني النفاث (Turbofans) كبوينج 737 فترتفع الي ما بين 30000 و 43000 قدم ، وبالتالي يتوفر لها عادة تكييف الضغط داخل مقصورة الطائرة، ،
و في غياب مثل هذا التكيف(أي في حالة ال Unpressurized Planes):
o على ارتفاعات عالية (8000 قدم مثلا ) ، يمكن ان يفقد طاقم الطائرة والركاب وعيهم مع مرور الوقت بسبب نقص الأكسجين،
o وعلي ارتفاعات أعلي من12500 قدم ، يكون ضغط الهواء منخفضا للغاية بحيث لا يسمح للجسم بامتصاص كمية كافية من الأوكسجين دون خطر فقدان الوعي لطاقمها وركابها ، و قد يواجه الركاب "سحب" الهواء من رئاتهم، ونفاخ البطن،و انخفاض حرارة الجسم (Hypothermia مما يدفع الطائرات ذات المحرك الكباس (Piston-Engined Aircraft مثل الComet والIlyusion IL12 بألاء تطير في ارتفاعات أعلي من12500 قدم)
وهذه الأعراض يمكن أن يستغرق حوالي نصف ساعة في ارتفاع 18000 قدم (سقف الطائرات ذات المحرك الكباس)
وليس سوى دقيقة واحدة على ارتفاع 35000 قدم وهو الأرتفاع الذي تطير عليه الطائرات ذات المحرك المروحي التربيني (Turbofans) ،
وبجانب مخاطر الطيران الي ارتفاعات أعلي من سقف طيران الطائرة ، هناك مخاطر مما يسمي الفقدان المفاجئ للضغط ((Explosive Decompression) في الطائرات التي تتمتع مقصورتها بالأنضغاط الهوائي ، و اقل مخاطر ازاله الانضغاط الهوائي تتمثل في فقدان ملكة التقدير السليم و عدم التنسيق الذهني بسبب نقص الأوكسجين في خلايا الجسم (Hypoxia).
وهناك مخاطر انفتاح باب الطائرة او نزعه عمدا، فمثلا انفتاح الباب في الجو على ارتفاعات عالية لطائرة ذات انضغاط هوائي ((Pressurized Planes يمكن أن ينطوي علي مخاطر بالغة:
ففي عام 2005 وعلي ارتفاع 8000 قدم ، تلقت رئيسة وزراء نيوزيلندا، رضوض في ذراعها بسبب اندفاع الهواء الشديد الي مقصورة الطائرة التي تقلها والمفتقرة الي الأنضغاط الهوائي ((Unpressurized Planes بعد ان انفتح باب باب الطائرة في الجو، مما حمل اثنين من حراسها علي ابقاء الباب مغلقا باالضغط عليه باجسامهم حتى هبطت الطائرة.
في عام 1989، وعلي ارتفاع 23000 قدم ، انفتح باب البضائع لطائرة الخطوط الجوية المتحدة (United Airlines, Boeing 747-122 ) ذات المحرك المروحي التربيني((Turbofans ، وأدي الفقدان المفاجئ للضغط (Explosive Decompression) داخل المقصورة، الي تمزق جزء كبير من هيكلها و"شفط"(أي أطاحة) الهواء بتسعة من ركابها الي الفضاء --مع مقاعدهم -- من خلال الثقب الكبيرالذي احدثه تمزق الهيكل ،
في عام 1988، تعرضت طائرة بوينج 737 التي تشغلها شركة ألوها (Aloha و ذات المحرك المروحي التربيني ((Turbofans لأنخفاض الضغط المفاجيء "Explosive Decompression" " علي ارتفاع 24،000 قدم. نتج عن هذا تمزق جزء طوله 18 قدما من سقف الطائرة و"شفط"(أي الأطاحة) الي الفضاء بأحد المضيفات !
وقد لا يدرك الكثيرون أن هناك "تشابه تناظري" (Analogy) بين طيران الطائرة في الفضاء وتدفق المياه في نهر كالقاش او بركة، ففي كلا الحالتين تكمن الحاكمية لهما في قوانين علم ميكانيكا السوائل (الغازية في الحالة الأولي والمائية في الثانية)، وكما أن هناك خواصا هندسية للنهر(مثل اتجاه التيار وتصريفه وترسيبه لحمله من الطمي وتدرج طاقته الخ... ) تسم العملية المورفولوجية التي تحكم تعرج مسار القاش او بركة (River Meandering) وتشكل مجراه وصولا الي تحقيق نظام النهر وتوازنه (River Regime)، فان الطائرة بدورها (مدفوعة بمحركاتها) ليست أيضا مطلقة الحرية في شق طريقها المتعرج وسط بيئتها الجوية—علي عكس ما يتبادر للذهن!—بل هي أيضا -- كالنهر -- سجينة في ممر جوي يسمي "غلاف الطيران" (Flight Envelope) تحكمه ايضا خواصا هندسية معينة (مثل التسخين الأيرودينامي)، كما تحكم الخواص الأدائية لكل نوع من انواع المحركات
وبجانب مخاطر الطيران الي ارتفاعات أعلي من سقف طيران الطائرة ، و مخاطر الفقدان المفاجئ للضغط ، هناك بالطبع مخاطر الطقس والتي وردت الأشارة اليها عدة مرات في رواية هذا المهندس: دعنا نسأل اذا
:كيف يؤثر الطقس على الطائرة؟ بايجاز شديد ، هذا يعتمد على ريجيم (مرحلة) الطيران التي تكون الطائرة موجودة فيها عندما تواجه تداخلات الطقس وهي: مرحلة الإقلاع ، مرحلة الطيران المستوي ومرحلة الهبوط ، وتشكل الثلاثة دقائق الأولي للأقلاع والدقائق الثمانية للهبوط ، المراحل الحرجه في الطيران (Critical Flight Regimes) ، و تمثل مرحلتي الإقلاع و الهبوط أكثر مراحل الرحلة تضرراً من أهواء الطقس و تقلباته، ففي هاتين المرحلتين، تشكل الأتربة و المطر مخاطر جمة تتزايد بسبب أن الطائرة تكون في حالة "توازن ديناميكي" (Dynamic State) و ليست في حالة استقرار (Steady State) كما في حالة الطيران المستوي. و تشكل السحب الركامية (Cumulus Clouds) و "السحاب الطبقي المنبسط" (Stratus Cloudiness)، وما يرتبط يهما من اضطرا بات، أكثر القيود حرجاً بالنسبة للإقلاع و الهبوط.وأغلب المخاطر هنا ترتبط بطبقة التروبوسفير (Troposphere ، والممتدة من الأرض وحتى ارتفاع ما يقارب 13 كيلو متر في الفضاء ، (أي إنها تغطي جّل نطاق الطيران التجاري العادي الذي يمتد عادة حتى 12 كيلو متر)، وبالنسبة للطيران ، فان هذه المنطقة من الغلاف الجوي هي أكثر مناطقه اضطراباً مما يجعل الطائرات التجارية تطير فوقها لتتجنب هذه الاضطرابات الهوائية ، وهو – بالطبع - خيار غير متوفر لهذه الطائرة الصغيرة ، وأهم ثلاثة مخاطر مرتبطة بهذه المنطقة هي:
1. العواصف الرعدية (Thunderstorms.
2. التغيرات في سرعة الرياح أو في اتجاهها (أي Wind Shear ، والتي يشعر به قبطان الطائرة كزيادة أو نقصان مفاجئين في قوة الرفع (Lift) ، مما ينجم عنه ارتفاع الطائرة أو هبوطها بصورة غير متوقعة بحيث يصبح من الصعب التحكم في الطائرة
3. الاضطراب الأنسيابي (الهوائي : الحراري والميكانيكيTurbulence Flow)) والذي يشعر به الركاب كمطبات هوائية تصعد بالراكب وتهبط به بطريقة مفاجئة. وهناك ثلاث "أنواع" للاضطراب الانسيابي الهوائي لكن يهمنا هنا في حالة هذه الرحلة الاضطراب الهوائي الحراري، والذي يحدث بسبب التسخين لبعض الجيوب الهوائية من أدنى، تصعد فيه الطائرة فجأة إلي اعلي ثم تهبط وذلك بسبب التيارات الحرارية التصاعدية (Convective Turbulence) ، يحس بها الركاب كعلو وهبوط مفاجئين ("Bumpy Flight") للطائرة المحمولة على ظهر التيارات الباردة التي تهبط بالطائرة إلي أدنى لتملا الفراغ الذي تركته التيارات الساخنة في صعودها إلي اعلي (وهذا يفسر ارتفاع قائد الطائرة بها الي11 ألف قدم لكي يخفف عن الطائرة الأهتزاز كما جاء في رواية المهندس ) ، وقد يقذف مثل هذا الهبوط المفاجئ والحاد بالركاب --الذي لم يربطوا حزام الأمان-- ليصطدموا بسقف الطائرة ومن هذا نرى أن إطلاق تعيير "الجيوب الهوائية (أي Air Pockets"") على هذه الظاهرة هو توصيف غير دقيق.
هناك أيضا قضية تغير"مركز جاذبية الطائرة" (Centre of Gravity , CG) " والذي يمثل "مركز ثقل" الطائرة أو النقطة الافتراضية التي يتمركز عندها الوزن الكلي للطائرة ، ومركز الثقل ذو أثر جوهري على استقرار الطائرة (Stability)وبالتالي سلامتها ، فمثلا:
"حدود مركز جاذبية الطائرة" ( الطولية والعرضية والتي تحددها الشركة المصنعة لتحقيق "الوزن والتوازن" أثناء الطيران ) ترسم النطاق الأمن الذي ينبغي ألا يتعداه "مركز الثقل" (CG) وهو يغير موقعه وفق المناورات التي تقوم بها الطائرة ومع تغير الأحمال أثتاء الطيران (مثلا بسبب استهلاك الوقود أو بالقاء الطعام والمعدات من الجو للمتضررين من الفيضانات)
ويتأثر "الأستقرار الطولاني" للطائرة خاصة (Longitudinal Stability أي أستقرارالطائرة في مسطح ترجحها ) بشكل كبير بموقع مركز الثقل للطائرة. فمثلا ، نقل "مركز الثقل" ( CG) الي الخلف ، بعيدا بما فيه الكفاية (أي الي ذيل الطائرة) سوف يؤدي الي خفض "الأستقرار الطولاني " للطائرة وبالتالي زعزعة استقرارها وقد يؤدي الي تجاوز هدف الأسقاط الجوي (أوتجاوز مدرج المطار) عند محاولة تصحيح تأرجح الطائرة (Pitch Correction ) ، ولا ينبغي الأقلاع بطائرة ان كان مركز ثقلها خارج النطاق المعتمد، أو اذا كان اعادة توزيع الأوزان أثناء الرحلة (هنا الجولات الخ) سيدفع به خارج النطاق المعتمد وبالتالي يهدد سلامتها
واخيرا ،هناك أيضا موضوع "مناورات الطيران" (Flight Maneuvers) ، مثل الطيران على مقربة من الأرض أو بانعطفات حادة، كالتي قام بها قائد الطائرة موضوع هذه الورقة ،
هذه المناورات تضيف "للأحمال الأرضية"(Ground Loads) التي أقلعت بها الطائرة ، "أحمالا هوائية"(ِِAerodynamic Loads) تضغط علي هيكل الطائرة أثناء الطيران
وهي تمثل اختبارا لبراعة الطيار وقدرات الطائرة اذا احسن اخراجها ، أذا أنها تنطوي علي قدرة الطيار في تحقيق "مقايضات" تبادلية (Trade-offs)بين "الطاقة الحركية" (السرعة الجويةAirspeed) و"الطاقة الكامنة" (الأرتفاع من الأرض Altitude)، لكن اذا تم ذلك بطريقة خاطئة او في الوقت والمكان الخطـأ ، فليس هناك في عالم الطيران شيئا مميتا أكثر من مثل تلك المناوورات (كما نري ذلك بصورة جلية في تحطم الطائرات الذي يصاحب الكئير من العروض الجوية )، اذ أن المناورات علي مقربة من الأرض تشكل 20% من حوادث الطيران القاتلة!ولما كانت هذه الرحلة قد تمت في خمسينات القرن الماضي ، فمن المؤكد ان تلك الرحلة التي وثق لها هذا المهندس لم تكن تتمتع بما يسمي "حماية غلاف الطيران"( Flight Envelope Protection المتوفر اليوم لعدد كبير من الطائرات التجارية الحديثة ) ، والذي يحجرعلي الطيار تجاوز حدوده التشغيل الهيكلية والهوائية مما يعرض الطائرة للخطر
توثيق المهندس الرشيد لتلك المهمة الرائدة:
بشفافية وصدق وروح دعابة كثيرين يسرد لنا هذا المهندس – الذي كان وقتها يشغل منصب السكرتير الفني لوزير الري -- اصطحابه لثلة من ملاحي الخطوط الجوية السودانية في اول تجربة لألقاء الطعام من الجو في سودان ما بعد الأستقلال ،وجميعهم من المدنين الذين ما دربوا -- او حتي اطلعوا - علي مثل هذه التجارب، ومع ذلك لم يترد هذا المهندس في قبول ذلك التحدي والتطوع بخوض هذه التجربة ومرافقة ملاحي الخطوط الجوية السودانية في هذه الرحلة رغم مافيها من مخاطر ، بدلا من اسناد المهمة لمرؤسيه في وزارة الري ، وهم كثر!
والان الي مضابط ما كتبه المهندس الرشيد سيد أحمد، وتجدر الأشارة هنا الي أن الورق الذي وثق فيه هذا المهندس لتلك التجربة كانت الأمطار والأرضة قد نالت من بعض اطرافه وطمست بعض الكلمات مما اضطر هذا الكاتب الي تقدير تلك الكلمات واحيانا اعادة تركيب تلك الجملة ، مع اضافة عناوين فرعية عند بداية كل فقرة لتسهيل متابعة القصة من قبل القاريء، وكل ذلك من غير اخلال بسياق الرواية أو بجوهر التجربة التي اراد صاحبها ان يوثق لها
قصة القاء الطعام من الجو على (منطقة ) كرمبت
( بضواحي طوكر)
بقلم
الرشيد سيد أحمد
(1 من 2)
اهتمت الصحافة اهتماماً بالغاً بفيضان خور بركة وخاصة بعد أن وصلت الأخبار بخطورة الموقف بالنسبة للذين حاصرتهم مياه خور بركة في منشئات المياه بالكرمبت ،علي بعد حوالي سبعة عشر كيلومترا جنوب مدينة طوكر مما أدى الي الحاجة لسفر المسئولين بالجو لمتابعة الحالة الخطيرة هناك وإمداد العمال المحاصرين بالطعام بعد أن نفذ كل شيء عندهم.
قرأ المجتمع وسمع في حينه بإمداد الطعام لهؤلاء المواطنين بالطائرة وكذلك تّذويدهم بأدوات الوقاية لدرء خطر الفيضان وذلك عن طريق الإذاعة أو الصحف وقد مر هذا الخبر كأنه خبر عادي لأن (الجانب المثير في هذه المهمة) لم يكن معروفا إلا ...للقليلين جداً الذين كانوا بالطائرة أو ممن سمعوها منهم ولم يجدوا وقتا لنشر تفاصيل تلك الحلقة وهذا (ما يدفعني) لأشرك القراء الكرام في معرفة تفاصيل تلك القصة ، واعني بذلك قصة القاء الطعام من الجو ، لما فيها من طرافة وان شئت فقل انها انطوت علي شيء من الأقدام بل وربما حتي البسالة لأولئك الذين كانوا بالطائرة لأن الموقف حقاً كان يتطلب توفر مثل تلك الخصال
والآن بعد هذه المقدمة الوجيزة ، انتقل بك أيها القارئ إلى القصة فأقول: قبل أن تبارح الطائرة مطار الخرطوم وعندما كان المسئولون في انتظار تمويل الطائرة بالوقود استدعى السيد مدير الطيران قائد الطائرة المستر اسكوت وقدمه للمسئولين الذين يرافقونه في رحلته كما عرفه بمهمته التي سيقوم بها وهي إلقاء الطعام على الكرمبت.
طلب قائد الطائرة تحديد موقع الكرمبت له كما طلب أن تحضر له الحبال التي سيحتاج لها لمثل هذه المهمة ، وإلى هنا كان كل شيء عادي، غير أن قائد الطائرة اتجه نحونا وقال إن هذه العملية تتطلب منه أن "يخلع" باب الطائرة ويتركه ببورت سودان حتى يتمكن الذين يقومون بعملية إلقاء الطعام بقذف الطعام عن طريق فتحة الباب!
عند سماع ذلك اشرأبت أعناق الجميع اندهاشا لفكرة الطيران وباب الطائرة مفتوحاً ! والحق يقال أن الفكرة اعادت لهذا الكاتبً تجربة شخصية عاشها منذ شهور مضت أثناء نزول الطائرة المتجهة لأديس أبابا حين قام أحد الركاب بكسر شباك الطائرة براسه وهو منتش ومستغرق في الاستمتاع بمشاهدة طبيعة تلك البلاد الخلابة وربما خيل اليه انه يطل من نافذة عربة السكة الحديد ! ولك أن تتصور أيها القارئ الكريم ماذا حصل في تلك اللحظة : فقد أندفع الهواء بشدة وانقض على مقصورة الطائرة وشعر الجمبع ببرد شديد وتوتر أشد وكانت المضيفة يقظة جداً ، إذ اسرعت واحضرت الكابتن الذي عالج الموقف في حينه ولحسن الحظ كان ذلك وقت نزول الطائرة التي نزلت بسلام.
الغريب أن الصحافة السودانية كتبت الكثير عن ذلك الحادث الذي تعرضنا له في الطريق لأديس أببا ، وعن خطورة الموقف الذي نتج عن كسر "شباك" الطائرة عندما كانت على وشك الهبوط ، لكن هذه الصحف نفسها لم تعر مهمة القاء الطعام من الجو على كرمبت اهتماماً -- ولم تشر بشئ للمخاطر التي صاحبت تلك المهمة ، والتي لم تكن نتيجة لكسر "شباك" صغير بل ، إزالة باب بأكمله، استغرق نزعه أكثر من ساعتين !.. ألا يصح القول - بعد هذه المقارنة - أن عملية إلقاء الطعام من الجو على كرمبت قصة طريفة ومثيرة وجديرة بالتوثيق!.
بالعودة لحديث قائد الطائرة، فقد قرأ الكابتن بعض مظاهر "الأرتياب" في وجوه بعض مستمعيه و أن ما حسبه "قنبلة" ألقاها لم تؤثر عليهم إلا قليلاً ، فابتسم وأكد للجميع أن المسألة في غاية البساطة ، وأنه وشريكه ضابط اللاسلكي قد جربا هذه العملية أثناء الحرب ولهم خبرة واسعة فيها ولم يزد علي ذلك !، بل أسرع فوراً لجميع معدات سفره ومراجعة استعدادات طائرته!
بدء الرحلة:
أقلعت بنا الطائرة وكان طيرانها هادئاً حتى اقتربنا من جبال البحر الأحمر حيث تعرضت الطائرة لمطبات هوائية ... وابتدأت الطائرة في تأرجحهها ، وكان الكابتن يتحدث معنا في تلك اللحظة وقد ترك ورءه في كابينة القيادة ضابط اللاسلكي مع الطيار الألي (Autopilot) ليقود الطائرة. ولما شعر الكابتن باشتداد الهزات الجوية تركنا ووعدنا بأنه سيرتفع بالطائرة إلى ارتفاع أعلى (حوالي 11 ألف قدم) لكي يخفف عنا وعن الطائرة هذا الأهتزاز الذي أبت الرياح والسحب ألا أن تحدثه بالطائرة ...، والحق يقال إننا شعرنا بعد ذلك براحة تامة كما "تنفست" الطائرة نفسها الصعداء ، وهدأت في طيرانها بعد أن أنقذ الكابتن الموقف.
عاد الكابتن إلينا مرة أخرى ...، بعد أن هدأنا ونسينا كل شيء حتى قصة الباب الموعود بالنزع ، وذلك بأن أحضر سكيناً وحبالاً وابتدأ يقص ... ، كان يربط الحبال التي قطعها مع بعضها بشكل "سلم" وكان هذا الشكل نفسه كفيل بأن يعيد للركاب توجسهم ، لأن أكثرهم تفاؤلا كان يعتقد بأن هذا السلم سوف يدلى من باب الطائرة ليتعلق به الشخص الذي تؤكل إليه بالقيام بدور إلقاء الطعام ولما لم يكن لأي من الركاب فكره أفضل ، فقد قبل الجميع هذا التعليل على علاتة.... ولما انتهى الكابتن من تحضير (سلمه) ربط طرفاً منه داخل الطائرة أمام الباب كما ربط الطرف الأخر في الناحية الأخرى من الباب ، أقدم علي وضع السلم كحاجز أمام الباب ! وهنا فقط أتضح لنا الغرض منه... وسأقص عليك أيها القارئ في رسالة أخرى بقية القصة (قصة ألقاء الطعام بالكرمبت) وإلى اللقاء إن شاء الله .
م ا س أ
احد الركاب
الخرطوم في 17/8/1956م