أسباب وضرورات قيام الثورات!!(3 -3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ( هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) ..الآية
هذا بلاغ للناس
- نتابع في هذه الحلقة الأخيرة وجهة النظر التاريخية للثورات وضروراتها ، فيُعد "أفلاطون" من أوائل الفلاسفة الذين عنوا بدراسة التغيرات التي يمكن أن تطرأ علي البناء السياسي، أما "أرسطو" فكان سباقا فى دراستة للثورات، حيث قدم أول محاولة شاملة لدراسة الثورة، وأفرد لها حيزاً كبيراً من مؤلفه الشهير ''السياسة''. وقد قبل مبدأ وجود الدولة، ولكن الأفكار الخاطئة تؤدي إلي الإحساس بعدم الرضا، وبالتالي حدوث انقلاب سياسي، قد يعمل علي تغيير شكل الدولة بما يترتب علي ذلك من نتائج سياسية، أي أن الثورة ظاهرة سياسية تمثل عملية أساسية لإحداث التغيير الذي قد يؤدي إلي استبدال الجماعات الاجتماعية. ويقول أرسطو في كتابه " السياسة " إن انماط الحكم كلها معرضة للثورة، بما فيها نمطا الحكم الأساسيان وهما الأوليجاركية والديمقراطية، وكذلك ما يسميه نظام الحكم المتوازن، أو الدستوري، أو الأرستقراطي، والمصطلحات الثلاثة تكاد تكون عنده مترادفات، ورأى أرسطو أن في الأوليجاركية والديمقراطية عناصر من العدالة، ولكن كلاً منهما يصبح معرّضاً لخطر الثورة عندما لا يتلاءم نصيب الحكام أو الشعب من الحكم مع تصورهم المسبق عنه. ولا بد من ان نضيف إلى استخدام أرسطو مفهوم التصور " المسبق"، ويقسِّم أرسطو الثورات إلى نوعين: نوع يؤدي إلى تغيير الدستور القائم، فينتقل من نظام حكمٍ إلى نظام آخر، ونوع يغيِّر الحكام في إطار بنية النظام القائم. ففي هذا السياق نجد من يستخدم مصطلح الثورة كتعبير للدلالة على تغييرات فجائية وجذرية تتم في الظروف الاجتماعية والسياسية في مجتمع ما، حيث تشير هذه الظروف إلى تغيير حكم قائم وتغيير النظام الاجتماعي والقانوني، وقد يتم هذا التغيير بصورة فجائية عنيفة.
- ينبغي أن نستصحب أفكار وتعريف بعض الأكاديميين الباحثين والمنظرين فعلى سبيل المثال نعرض لآراء بعض منهم ، فيعرف "كرين برنتون" الثورة في كتابه "تشريح الثورة" بأنها عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى آخر، وأنها تغيير عنيف في الحكومة القائمة بشكل يتجاوز الحد القانوني. كما عرَّفها البروفسور "هاري ايكشتاين" في مقدمة كتابه عن الحرب الداخلية بأنها "محاولات التغيير بالعنف أو التهديد باستخدامه ضد سياسات في الحكم أو ضد حكام أو ضد منظمة. بينما يشير "بيتر أمان " إلى الثورة على أنها " إنهيار لحظي أو على المدى الطويل لاحتكار الدولة للسلطة يكون مصحوباً بانخفاض الخضوع والطاعة ". كما أوضح "شريكر" أن الثورة بمثابة تغيير غير مشروع للظروف المشروعة. في حين عرف كارل فريدريك الثورة بأنها الإطاحة بنظام سياسي مستقر بصورة عنيفة وفجائية. وقد أشار " ل. ب. إدوارد " للثورة بأنها تغيير وإحلال نظام جديد محل نظام آخر كان مشروعا، ولا يحدث هذا التغيير بالضرورة عن طريق القوة والعنف. وفي هذا الإطار، أشار "هيجل" في كتابه »العقل والثورة« في تعريفه لها على أنها الثورة على الأوضاع القائمة، وأنها حركة تتسم برفض وإنكار ما هو قائم فعلاً، وأنها إعادة لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقلاني.
- ومن أسباب حتمية قيام الثورات علينا أن نستصحب رأي عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دوركايم" الذي ربط ، مفهوم الثورة بـ "ظاهرة الفوران الجمعي"، والتي تعبر عن تحرك جماعي لا يمكن تجاهله، ويتضخم بصورة ملحوظة من دون ضمان الاستمرار طويلاً في حالة الفوران. وهي التي تتكون أساساً فيما بين الطبقات الأدنى في المجتمع، فالشعب يعيش حياة مزرية مرتبطة بالفقر في الأساس، إلى جانب نقص الحرية. ووفقاً لـ "جيدنز"، فإن الثورات تمثل طليعة الأساليب غير التقليدية في الحركات الجماهيرية المنظمة التي تُحدث تغييرات جذرية ــ في النظام السياسي السائد باستخدام العنف. وتتطلب الحركات الثورية ـ كما أشار جيدنز شروطا أساسية لاشتعال الثورة من أهمها أساليب استهواء الجماهير وتوجيهها، ويصاحبها عادة توترات وصراعات.
- من اسباب وضرورات قيام الثورات هو ما أرجعه "هوبزباوم" تفجّر الثورة إلى عوامل متراكمة عبر عدد من السنين أحدثت ضغطًا على القاعدة فولّدت الانفجار الذي يجسّد حالة الثورة. ففي السياق الأوروبي تحدّث "هوبزباوم" عن أزمات الأنظمة البائدة شمال العالم وغربه، ويحدّدها في فقدان الشّرعية واستفحال الاستبداد ومصادرة الحرية، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في شمال أميركا وغرب أوروبا. وتمثّل هذه الأزمات القاسم المشترك مع الثورة التونسية التي اعتبرها مثالاً حياً لهذه الضرورات، حيث توالت في السنوات الأخيرة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأزمات حقوق الإنسان والحريات، والتي أسهمت بشكل رئيسى في تفجّر هذه الثورة. وفي السياق العربي يمكن القول بأن الثورة هي نتاج تراكم عوامل ضغط اجتماعي واقتصادي وسياسي على القاعدة الشعبية ممّا أدّى إلى تفجّر الثورة.
- كما أن علينا أن نقرر لحقيقة أخرى هي أن لهذه الثورات أسباب نفسية تراكمية تنفجر حينما تبلغ الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ذروتها ، فالعوامل النفسية هي التي تدفع بالشخص لكي يشارك في الحركات الثورية، ومن أبرز رواد هذا المدخل "جوستاف لوبون"، الذي يعرف الثورة على أنها " مجموعة من التحولات الفجائية في المعتقدات والأفكار والمذاهب، وأن المشاعر والعواطف هي دعائم المعتقدات السياسية والرئيسية، كما يرى علماء النفس أن الثورة تعبير عن سيكولوجية الحشد ويقارنونها مع الارتدادات إلى العقلية البدائية التي يمكن ملاحظتها في حالات الانهيار العصبي.
قصاصة:
- في النهاية لا بد من أن نختم بأن هناك تشوهات حدثت بعد ممارسة الحركات الاسلامية للحكم وكانت النتيجة فشلاً ذريعاً، لما صاحبها من فساد عميق وإنفراد بمقاليد السلطة وتجاهل لمطالب الرعية، إذ أن الخلافة الراشدة في مفهومها الشرعي هي قيادة تجمع بين فقه الدين وفقه الواقع، بين الواجب والممكن، بين المصلحة والضرورة، وبين السياسة والشريعة. فيكون الحاكم في منظور الأمة هو المؤتمن على مصالحها ومنافعها الدينية والدنيوية بما أوتي من علم وفقه وصلاح وتقى ، كما كان شأن أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- ، ومن جاء بعدهما كعثمان وعلي وعمر بن عبدالعزيز – رضي الله عن الجميع - . وهنا يجب تبرأة هذا المثال بما قد يشوبه أحيانا من نماذج سيئة تشوهه وتفسد ملامحه. خاصة عندما يتصدر للسياسة من المنتسبين للعلم والفقه من لا تتوفر فيه حقيقة الديانة والأمانة ، أو عمق الوعي ونور الحكمة. ما يعطي للقوى المعادية للإسلام مبررا للمناداة للفصل بين الدين والسياسة على خلفية نماذج لا تمثل بالضرورة الصورة الحية والمشرفة للعالم الرباني المصلح وهو يقود زمام السياسة للأمة المسلمة.
إنتهى...
Abubakr Yousif Ibrahim [zorayyab@gmail.com]