مقالات تمنيت لو كتبتها (2 – 3)
مقال الاستاذة ايمان ابو سليم بعنوان (السوداني ما معروووف)
الاستاذة اماني ابوسليم لها اسلوب خاص و فريد في كتاباتها، اسلوب يخصها و قد تجده عند آخرين لكن نادرا. اسلوبها في الكتابة تماثل عندي هذه الصورة: شخص في اشد حالات الغضب و الثورة لما يحدث في البلاد مما "يفقع المرارات" ، فتمسك بيده الاستاذة اماني و تطلب منه الجلوس ، ثم تطلب منه ان يأخذ نفسا عميقا ، فيفعل ثم يهدأ... عندها تعطيه تشخيصا للمعضلة باسلوب هادئ و منطقي ، ثم تقترح الدواء ، و الذي قد يكون دواءا يتطلب العلاج ان يتناوله الشعب السوداني طول العمر، فالمرض لا يقل خطرا عن السكري او ضغط الدم ، و ربما يكون دواؤها جلسة سايكولوجية (Psychological Therapy) او اسئلة تحدد اجاباتها اصل المشكلة و الطريق الي جلب العلاج الناجع حتي و ان كان المشوار عشرات السنين.
الاستاذة اماني مثلك و مثلي ايها القارئ ، محبطة و حزينة علي بلادنا و الحال الذي وصلنا اليه من التدهور و التفسخ و الضياع ، لكن ردة فعلها تجاه هذا البلاء ليس الخروج في مظاهرة بمقالها كما يفعل حسين الزبير و آخرون كثر ، تزدحم بهم الصحف الالكترونية، و ننفق من الوقت الكثير لنصل لمقال اماني و القليلون امثالها. اماني لا تخرج في مظاهرة ... بل تدخل الي معملها لتشرح المشكلة و تدرسها حتي تصل الي العلة الرئيسية ، فتشير اليه في مقالها و تشاورنا في الحل ، و في نهاية المقال تقترح الحل الذي لا يستطيع احد ان يعترض عليه ، و ان استصعبوا الطريق الشاق الذي تقترحه.
في مقالها الذي انا بصددها ، تصور المشكلة في صورة واقعية يشاهدها الناس في زماننا هذا كما كانوا يشاهدون حفلات الاعراس (اللعبة) في ميادين الاحياء قبل صالات "البوبار" في زمن نصر انه كان الزمن الجميل و ان كره اهل المؤتمرات. انظر قارئي العزيز كيف تصور المشكلة في هذا المقال:
(المكان تحتفل فيه الدولة بافتتاح مشروع تنموي كبير تتوقع ان يساهم في الدخل القومي و توفير فرص العمل. مربع كبير يتوسطه مسرح و منصة لزوم ما يلزم من حديث الكبار و طبعا مع مكبرات الصوت . و الزمان من قبل منتصف النهار الي ما بعده بكثير. الضلع الجنوبي للمربع مظلل و محاط بصيوان كبير بالاضافة الي مكيفات الهواء التي تحجز الحر و الهواء الساخن خارجا ريثما تبردهما و تتأكد من مناسبة برودتهما للحضور المهم الذي كان يجلس علي كراسي كبيرة و مريحة. الضلع الشرقي كان ايضا مظللا و مكيفا و الفارق الوحيد كان في نوع الكراسي و كان مخصصا للموظفين. اما الضلعين الغربي و الشمالي فحدث و الحرج يملؤك. لا صيوان يحيط و لا يظلل ، هكذا في حر قائظ يطلق زئيره علي جموع عددهم اضعاف ما علي الضلعين الاخرين. جمهور من شعب اهل المنطقة. حين قدمت المياه المعباة النقية و المشروبات الباردة و اشياء اخري للضيافة علي حضور الضلعين الجنوبي و الشرقي لم ار شيئا علي ضلعي الشمال و الغرب.)
صورة نشاهدها اكثر من مرة في الاسبوع الواحد، و الصورة واضحة مربع ضلعين منه تسطف فيها المقاعد الوثيرة و مظللة باجود انواع الخيام الصينية، و خدمات الضيافة فيها خمسة نجوم ، و ضلعين آخرين تتكدس فيه الجماهير التي اتت لتزين الجزء الآخر من المشهد و تقوم بواجب الهتاف و تفي باغراض اجهزة الاعلام. لكن الاستاذة الاديبة لا تكتفي بهذه الصورة بل "تعمل زووم " بكاميرتها و تنقل لنا الصورة الآتية:
(بدأت المكبرات تنقل احاديث كبار المسؤلين, و هم يقفون علي تلك المنصة علي ذلك المسرح الذي يتوسط المربع المحاطة اضلاعه بثلاث انواع من الحضور. الغريب و الذي لم يعد غريبا بعد فهم الاختزال. ان المتحدثين الواحد تلو الاَخر كان يعطي ظهره للجمهور من الشعب و يوجه حديثه للحضور علي الكراسي الوثيرة, لان المنصة و المسرح صمما مع سبق الاصرار و الترصد علي ذلك الوضع: الظهر للجماهير, التي كنت اظن ظن الخير ان الحديث و أصل العمل موجه لها. ظهرهم للجماهير و هم يتحدثون عن التنمية لصالح الشعب، و كيف ان المشروع الكبير سيؤثر في كل البلاد و اهالي المنطقة بالذات و هم اصل الهدف من مثل هذه المشاريع ، و ان هذا المشروع يعد انجازا كبيرا و تحقيقا للهدف الذي قطعته الحكومة مع شعبها في تحقيق التنمية الاقتصادية !!كل هذا الحديث و ظهورهم للجماهير التي ظلت واقفة و صامدة تحت الشمس يشير لها بعض المنظمين من حين لاَخر لتهتف. )
و بهذه الصور و باخري تجسد مشكلة شعبنا مع حكامها ، تصل الي اصل الحكاية ، هم و نحن ، هدفهم و ليس هدفنا ، مصلحتهم و ليست مصلحتنا، و بصيغة واضحة كالشمس في كبد السماء:
(كان المشهد في مجمله يختزل الحال، كيف تري الحكومة شعبها و اين موقعه من الاهتمام، في الظهر ام امام العين. و تختزل البون الشاسع بين الكلمات الرسمية و الافعال الحقيقية، لمن الفائدة و لمن التعب، و كل ذلك بلا حرج امام الكاميرات و اهل البلد و الغرباء.)
اذن هم لا يثير فيهم هذا المشهد اي احساس بالتقصير ، او ظلم الناس. في رأيهم هذا رزق ساقه الله اليهم. فماذا انتم فاعلون؟ هنالك خيارات كثيرة يبشر بها امثالي في صحيفة الراكوبة ، فتلخص لنا تلك الخيارات:
(ماذا نحن فاعلون ، نواصل معهم علي هذه الطريقة ؟ لا يمكن. نرفع صوتنا لاثارة انتباههم ؟ سندفع الثمن اضعافا في رحلة علاج حلوقنا. نرميهم بحجارة ؟ سيردون بالرصاص و نخسر ارواحنا. سيقول البعض لا نصر كبير من غير خسائر كبيرة و لكن ماذا لو كانت الخسائر كبيرة و لا نصر. كل هذه الاحتمالات هي نوع من الاحتجاج ، يصبح مختصر السؤال هل ينفع الاحتجاج فقط ام لا بد من امر اَخر يضاف لهذا الاحتجاج.)
و هكذا تقودنا الي ما نعتقد انه الحل: اسقاط النظام ، و كأن اسقاط النظام هو العلاج السحري الذي سيعيد البلاد الي سيرتها في الزمن الجميل، و تؤكد لنا ان ذلك بداية التماثل للشفاء ، و لكن هنالك واجبات اخري يجب ان نعيها و نجعلها من اولويات الافراد و الجماعات و المؤسسات يوم يسقط النظام ، اليكم كلماتها:
(لا بد من امر اَخر. انه التغيير الذي سيضمن ثمار الاحتجاج، الذي سيضمن حلاوة النصر وان في معيته خسائر، الذي سيضمن ان يوجه الحديث الينا و قبله المنصة و المسرح. و لكن ما الذي يجب ان يتغير في المشهد السابق؟ الحكومة ؟ لا اظن. ان نجحنا و غيرناها ما الذي يضمن اتجاه المنصات و الاحاديث للحكومة الجديدة. او لن نحتاج للصراخ او الرشق بالحجارة لاثارة الانتباه. او لن نقف تحت الشمس بلا ظل و لا ماء. لا اعتقد ان احدا يفكرفي تغيير الضيوف علي الكراسي الوثيرة.
نحن من يجب ان يتغير، من نقف علي الضلعين الشمالي و الغربي من المشهد، لا ندري فيما دعونا و ما دورنا، جئنا لنتفرج علي حدث قل ان يحدث في المنطقة، لا فرق عندنا ان كان افتتاح مشروع او مسرحية او سيرك او حتي شاشة سينمائية، المهم ان نتفرج و نتسلي قليلا فنملأ بعضا من ايامنا المتشابهة ببعض الحكايات المسلية. ان تغيرنا تغيرت معاملة حكوماتنا معنا، هذه او القادمات، ان تغيرنا التفتت الينا، لن نقف تحت الشمس نسمع حديثها الباهت، لن توجه حديثها فقط الينا بل افعالها، لن نأتي اليها، هي ستأتي الينا. )
لكن يا استاذة اماني ، ما الذي نفعله لتخاطبنا الحكومة و لا تخاطب نفسها، تخدمنا و لا نخدمها – الا يكفي ان نغير النظام و نأتي بحكومة ديمقراطية؟!
(مشوار التغيير طويل و يختلف من فرد لاَخر و من مجموعة لأخري، و من شعب لاَخر. و لكنها نفس البداية، ان تعرف نفسك، ان تحبها علي ما هي عليه ان تقدرها. كيف ننتظر ان نُقدر و نحن لا نقدر انفسنا كيف للاَخر ان يعرفنا و نحن لا نعرف انفسنا.)
او في هذا الحل، ان نعرف انفسنا ؟؟ لم نفهم فزدنا علما:
(راقب حديثك عن نفسك كسوداني ، كيف تتجدث عن نفسك و عن السودان. كم مرة في اليوم تقول ... دي بلد دي ؟ ... و الله عمرنا ما نتقدم ... شوف الدول البدت بعدنا هسا وصلت وين ... عليك الله دا شعب دا ... دي امة دي ... السودانيين ديل اصلهم كدا عمرهم ما يمشوا لقدام ... السوداني معرووف ... اصلو كسلان بحب الركلسة ، ناس ما منتجة ... اديهم بيوت المناسبات يسكوها سك لكن كدي ادي شغل ... كسل شديد. هل تعرف انك في الاصل تتحدث عن نفسك و الذي وصفته بالكسل و التأخر هو انت نفسك. فانت فرد في هذه المجموعة لن تميَز مهما اعتبرت نفسك مميزا. فان كنت اوفر حظا في التعليم او فرصة العمل او المال ، فقد ساهمت في هذا التخلف و هذا الكسل و كل هذه المسالب التي تنسبها للاَخرين. لان دورك كان الاهم . هل سألت نفسك ماذا فعلت لتنشيط و تفعيل الوسط الذي تعيش فيه؟
كم نكتة تسمعها او تحكيها في اليوم عن سوداني مقارنة مع جنسيات اخري؟ من الادني في النكتة؟ من الموسوم بالشئ السلبي؟ اسأل نفسك لما توسم نفسك و ابناء بلدك بالسلبية و الدونية. اسأل نفسك كيف ستقدم لها و لبلدك شئ نافع و انت غير مقتنع بجدارتهما لحبك و تقديرك؟ البناء يبدأ بالحب ان لم تحب نفسك لن تدفعها للخير ، ان لم تحب بلدك لن تدفع به الي الامام. ستظل (راكدا) حين تجري انهر الدول الاخري متعافية و موفورة النشاط و تظل انت و بلدك تجمع المسالب حولك و تتحدث عنها لتزيدك ركودا و كلما اشفقت علي حالك ، اما بحثت عن طريق للهروب او رشقت حكومتك اللاهية عنك بثروتك، بالحجارة. الحجارة التي لن تعيد اللاهي الي الوعي ، ليس لأنها لا تصيبه و لكن لأن الحجر الذي يعيد اللاهي الي الوعي هو الحجر المقذوف بيد واعية، يد تعرف ما تريد و كيف تحققه، يد تعي نفسها و قدرها و قدر بلادها و ما تريده لبلادها، حتي انها لا تحتاج ان ترمي بها حجرا.)
تتفقون معي ان الاستاذة اماني لا تريدنا ان نغير النظام فقط ، بل نغير انفسنا ، نغير الطريقة السلبية التي ننظر بها لمشاكلنا ، تدعونا جميعا للتغير مع اسقاط النظام ، تطلب منا ان نزيد من جرعات الثقة بالنفس ، و تطلب منا ان نفيق من حالة التوهان و نبدأ في التغير. لذلك تقول لنا في نهاية هذا المقال:
(ماذا لو كففنا عن الحديث السلبي عن انفسنا و سودانيتنا و سوداننا و نوقف كل من يضعف منا و يتحدث عنا بدونية. فلننظر الي انفسنا في اقرب مراَة، ما الذي ينقصنا ، يدين، رجلين، قلب و رأس و في الخارج ارض و سماء و شمس. ما الذي ينقصنا لنتفاعل مع الخارج لنجري انهرنا و نغادر اماكن ركودها، اعتقد بعض تفاؤل و بعض ثقة بالنفس. و بالمناسبة "لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بانفسهم")
هل هذا كل ما تريد ان تقولها لنا ؟؟ في بادئ الامر ظننت انها تطلب منا الثقة بالنفس و التفكير بجدية في تغيير كل ما اعوج. لكن عند قراءتي للمقال الثاني عرفت انها استخدمت طرق تدريس بخت الرضا : اذا كانت المعلومة او المهارة لا يمكن تدريسها في حصة واحدة ، لا بد من ختام يشوق للحصة القادمة. و الي اللقاء في الحصة القادمة التي الفتها و كتبت مادتها الاستاذة اماني ابوسليم ، و ساقوم بالتدريس نيابة عنها. و لذا تمنيت لو كنت مؤلف و كاتب المنهج.
اسأل العلي القدير ان يمتع الاستاذة اماني بموفور الصحة و العافية، و ينفعنا بعلمها.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي اشرف الخلق و المرسلين.
hussain772003@yahoo.com