الأصل الأفريقي للحضارة : خرافـة أم حقيقـة ؟ (3) .. ترجمة / محمد السـيد علي
msaidway@gmail.com
الفصل الثالث
التزوير الحديث للتاريخ
إنّ مشكلة التزوير الأكثر ضخامة في تاريخ الإنسانية بواسطة المؤرخين المعاصرين لم تطرح بشكل أفضل مما طرحه (فولني) . لم يكن لأحد أكثر قدرة منه على رد العدل إلى الجنس الأسود وذلك بالإعتراف بدور ذلك الجنس كدليل رائد للجنس البشري على طريق الحضارة . كان على إستنتاجاته أن تستبعد التلفيقات المتتالية لجنس إفتراضي فرعوني أبيض ، زعم أنه نقل الحضارة المصرية من آسيا عند مطلع الحقبة التاريخية . في الواقع فإن هذه الفرضية صعبة الإستمالة مع واقع أبو الهول الذي هو صورة لفرعون له رأس إنسان أسود . إن الشكل متاح للجميع لرؤيته فمن الصعب إهماله كحجة شاذة أو إحالته إلى مستودعات المتاحف لإبعاده عن التأمل المحفوف بالمخاطر لأؤلئك الذين هم عرضة لقبول دليل واقعي .
بعد (فولني) جاء رحالة أخر هو (دوميني دي رينزي) في أوائل القرن التاسع عشر ليصل إلى إستنتاجات مماثلة بعض الشيء تتعلق بالمصريين (( إنه صحيح إلى الوراء في الماضي البعيد فإن الهنود الحمر داكني اللون والسلالة المصرية هيمنوا ثقافيا على السلالات الصفراء والسوداء وحتى عرقنا الأبيض الذي سكن بعد ذلك آسيا الغربية . في ذلك العصر كانت سلالتنا متوحشة نوعا وموسّمة بالوشم كما صّور ذلك على مدفن (سيسوستريس 1) في وادي بيبان الملوك في – طيبه - مدينة الآلهة )) . بقدر ما أنّ الجنس الأحمر الداكن مثيرا للإهتمام ، فسوف نرى ببساطة أنه مجموعة فرعية من الجنس الأسود مثلما ظهر في آثار تلك الفترة . في الواقع فإنه ليس هناك جنس أحمر داكن . إن ما يسمى بالأعراق الوسيطة ربما تكون نتاج للتهجين . يظهر الشكل (28) أنه ليس هناك علاقة للون الأحمر الداكن بالمصريين ، بل لون البشرة الطبيعي للزنوج ، فإذا تحدث (رينزي) عن العرق الأحمر الداكن بدلا من العرق الأسود فذلك لأنه لم يستطيع التخلص من تحيزات عصره . على أي حال فإن ملاحظاته عن حال العرق الأبيض ثم التوحش والوشم ، بينما الجنس (الأحمر الداكن) متحضر سلفا ، يجب أن تمنع أي محاولة لتفسير منشأ الحضارة المصرية بأنها عائدة للبيض . لقد توسع (شامبليون) للحديث بمهانة عن الحالة المتأخرة للبيض في الوقت الذي كان فيه عمرالحضارة المصرية عدة الأف من السنين .
في عام 1799 بدأ (نابوليون) حملته في مصر . بفضل (حجر رشيد) جرى فك شفرة اللغة الهيروغلوفية بواسطة شامبليون الأصغر عام 1822 الذي توفي عام 1832 وترك لشقيقه (شامبليون – فيجاك) مذكرته الوصفية وهي عبارة عن قواعد مصرية وسلسلة من الرسائل ، رسائل كتبت أثناء زيارته لمصر في الفترة ما بين (1828 – 1829) .
نشرت هذه الرسائل في عام 1833 بواسطة (شامبليون – فيجاك) . منذ ذاك أخترق جدار الهيروغليفية ، مما كشف عن ثراء مدهش في تفاصيلها . لقد دهش علماء الآثار بإعجاب لمهابة وإتقان الماضي الذي إكتشفوه . لقد أدركوا تدريجيا أنها الحضارة الأكثر عراقة التي أنجبت كل الحضارات الأخرى ، لكن بفعل الإمبريالية أيّا كانت فقد أصبح قبول النظرية التي تقول بزنجية مصر – الواضح حتى الآن - مرفوض بشكل متزايد . بالتالي فإن مولد علم الآثار المصرية تميز بالحاجة إلى تدمير ذاكرة مصر الزنجية في كل الأذهان وبأي ثمن . لذا فإن الصفة المشتركة لكل أطروحات علماء الآثار المصرية وعلاقتها الوثيقة وتماثلها العميق ، يمكن أن توصف بمحاولة يائسة لدحض ذلك الرأي ، فيما يشدّد كل علماء الآثار تقريبا على زيفه كمادة منهجية . عادة فإن محاولات الدحض هذه تأخذ الشكل التالي :
عدم القدرة على إكتشاف أي تناقض في الروايات الرسمية للقدماء بعد مواجهة موضوعية مع كامل الواقع المصري وبناء على عدم القدرة على نقضها فإنهم إما أن يلزموا الصمت تجاهها أو يرفضونها بشكل قاطع ومهين . إنهم يعبرون عن أسفهم من أن قدماء المصريين إرتكبوا خطأ فادحا مما نتج عنه الكثير من المصاعب والمشاكل الحساسة بالنسبة للمتخصصين المعاصرين ، ثم حاولوا بلا جدوى إيجاد منشأ أبيض للحضارة المصرية وأخيرا سقطوا في تناقضاتهم ، متراوحين في مصاعب المشكلة بعد أن صنعوا حيلا فكرية لا مبرر لها ، ثم ما لبثوا أن كرروا المبدأ القديم الذي يقضي بأنهم أثبتوا لكل الشعوب الموقرة المنشأ الأبيض للحضارة المصرية . إنها كامل مجموعة الأطروحات التي أفترض طرحها واحدا تلو الأخر . لأجل الموضوعية فإنني مجبر على دراسة كل وجهة نظر بشكل كامل ، بحيث يكون من العدل إشراك القاريء وتمكينه من أن يطلع بشكل مباشر على التناقضات أيّا كانت والحقائق التي يمكن أن أشير إليها .
دعونا نبدأ بأقدم واحدة من هذه الإطروحات ، تلك العائدة لشامبليون الأصغر والمبينة لأخية في الرسالة الثالثة عشر التي تتناول النقوش الصخرية البارزة على مدفن (سيسوستريس 1) الذي زاره أيضا (رينزي) . إنّ هذه النقوش الصخرية البارزة تعود إلى القرن السادس عشر (الأسرة الحاكمة الثامنة عشر) وتمثل سلالات الجنس البشري المعروف للمصريين . إنّ هذا الأثر هو أقدم حجة عرقية وافية ومتاحة . هنا ما قاله (شامبليون) : (( على يمين وادي بيبان الملوك شعرنا بالإعجاب بالنضارة المدهشة للرسومات والنقوش الدقيقة على العديد من المدافن مثلنا مثل الزائرين السابقين . لدي نسخة من هذه الرسومات بها أشخاص مصورون على النقوش الصخرية البارزة . في البداية إعتقدت ومن خلال نسخ هذه الرسومات لتلك النقوش الصخرية والتي نشرت في بريطانيا ، أنّ هذه الشعوب ذات الأعراق المختلفة والتي قادها الإله (حورس) وهو ممسك بعصا الراعي ، هي بالتأكيد أمم خضعت لحكم الفراعنة . لقد عرفت من دراسة الأساطير أنّ هذا المشهد له معنى أكثر شمولية فهو يصّور وقت الساعة الثالثة من النهار ، حينما بدأت أشعة الشمس تتحول إلى أشعة حارقة ، ملقية بالدفء على البلاد المأهولة بالسكان في نصف كرتنا الأرضية . وفقا للأسطورة نفسها فإنهم رغبوا في تمثيل سكان مصر وسكان الجزر الأجنبية . لذا فإن أمام أعيننا صورة لسلالات مختلفة لجنس بشري معروف لدى المصريين ، بينما نعلم في ذات الوقت التقسيمات الجغرافية والعرقية الكبيرة التي تأسست خلال تلك الحقبة المبكرة .
إن الرجال الذين قادهم (حورس) راعي الشعوب ينتسبون إلى أربعة عائلات بارزة . الأول الأقرب للإله لونه أحمر داكن ، صاحب جسم متناسق ، وجه حنون ، أنف محدب قليلا ، شعر بجدائل طويلة ويلبس الأبيض . تسمي الأسطورة هذا النوع ( روت – إن – ني – روم ) ، سلالة الرجال التي تكافيء التفوق أي المصريين . ليس هناك شك في الهوية العرقية للرجل الذي يليه فهو ينتمي إلى العرق الأسود وقد أشير إليه بالمصطلح العام (نحاسي) ، أما الثالث فيظهر شكلا مختلفا تماما فلون بشرته يلامس اللون الأصفر أو الأسمر وله أنف محدودب بشدة وله لحية سوداء ذات مقدمة ويرتدي جلبابا قصيرا ذو ألوان متباينة وهرلاء يطلق عليهم (نامو) . أخير هناك الأخير والذي نطلق عليه أصحاب اللون الممتليء ببشرة بيضاء ، أنف مستقيمة أو مقوسة قليلا ، عيون زرقاء ، لحية شقراء أو محمّرة ، قوام طويل ونحيف تماما ، يرتدي جلود الثيران ذات الشعر ، له أوشام متعددة على جسده ويسمى (تامهو) . لقد سعيت بحثا عن مشهد مماثل في المدافن الملكية الأخرى وكمادة واقعية وجدتها في العديد من المدافن الأخرى . لقد أقنعتني الإختلافات التي لاحظتها بشكل تام أنهم حاولوا تمثيل سكان الأركان الأربعة للأرض وفقا للمنظومة المصرية : (1) سكان مصر والتي بذاتها تشكل جزء من العالم (2) سكان أفريقيا الأصليين أي السود (3) الأسيويون (4) أخيرا الأوربيين (وأنا أخجل أن أقول ذلك لأن عرقنا في السلسلة هو الأخير والأكثر وحشية ) الذين كانوا في تلك الحقب البعيدة لا يستطيعون قطع تمثال رقيق في العالم آنذاك . في هذه الفئة يجب أن نضّمن كل الشعوب الشقراء وذوي البشرة البيضاء ، ليس في أوروبا فحسب بل في آسيا كذلك التي إنطلقوا منها.
إن هذه الطريقة من رؤية المشهد هي الأكثر دقة لأن ذات الأسماء العامة تعاود الظهور في المدافن الأخرى وعادة بنفس الترتيب . لقد وجدنا أن المصريين والأفارقة جرى تمثيلهم بنفس الطريقة ، غير أن النامو (الأسيويين) والتامهو (الأوربيين) ظهروا في أشكال مختلفة بشكل كبير . بدلا من العرب واليهود الذين أرتدوا زيا بسيطا وظهروا على مدفن واحد فإن الأسيويين الذين جرى تمثيلهم في المدافن الأخرى (مثل مدافن رمسيس الثاني ، الخ .. ) هم ثلاثة أفراد ظهروا ببشرة سمراء ، أنف محدودبة ، عيون سود ، لحية كثة ويرتدون لبسا فخما نادرا . من جانب فهم آشوريون بشكل جلي فأزياؤهم حتى التفاصيل الدقيقة تطابق تلك التي ترتديها الشخصيات البارزة التي نقشت على الأسطوانات الآشورية ومن جانب أخر فهم (ميديون) أو السكان الأوائل لجزء ما من فارس . إن ملامحهم وقسماتهم ولباسهم يماثل تلك التي وجدت في الآثار التي يطلق عليها (بيرسيبوليتان) . بهذا فإن آسيا جرى تمثيلها بشكل غير متميز عبر أي فرد كان من ساكنيها والشيء ذاته صحيح بالنسبة لأسلافنا الأوائل الخيرين (التامهو) فلباسهم المزين يختلف أحيانا فرؤوسهم قليلة أو غزيرة الشعر وموشحة بأدوات زينة مختلفة ، كما أن لباسهم الوحشي يتفاوت نوعا في الشكل ، غير أن بشرتهم البيضاء وعيونهم ولحيهم تحتفظ منفردة بميزة العرق . إن لديّ هذه السلسة الجغرافية العرقية الغريبة منسوخة ومصّورة ولم أكن أتوقع بالتأكيد عند وصولي (بيبان الملوك) أن أعثر على منحوتات تخدم كنقوش صغيرة بالنسبة للأوربيين البدائيين إذا كان لأحد الشجاعة لمحاولة ذلك . بالرغم من ذلك فإن هناك إطراء ومواساة نوعا في معرفة ذلك لأنه يجعلنا نقدر التقدم الذي تحقق لاحقا )) .
لسبب وجيه فقد أعدت تقديم هذا الملخص مثلما نشره (شامبليون – فيجاك) ، بالأحرى أخذته من (الطبعة الحديثة) للرسائل التي نشرت بواسطة إبن شامبليون الأصغر (شيرونيه – شامبليون) . الرسائل الأصلية موجهة لـ (شامبليون – فيجاك) وبالتالي فإن هذه الطبعة أكثر صحة . ما هي أهمية هذا المستند بالنسبة للمعلومات المتعلقة بالسلالة المصرية ؟ فهي بقدمها تشكل جزء هاما من الدليل الذي يفترض أن يجعل كل ما هو بالحدس غير ضروري . منذ تلك الحقبة القديمة جدا أي منذ الأسرة الحاكمة الثامنة عشر (بين إبراهيم وموسى) جرى تمثيل المصريين بشكل معتاد بطريقة لا يمكن أن تشوش عليها السلالات البيضاء والصفراء الأوربية والأسيوية والمجموعتان اللتان تنتميان إلى ذات عرقهم وهما سود الوادي المتحضرين والسود الآتين من مناطق معينة في الداخل . إن ترتيب السلالات الأربعة الذي أعد بشكل منتظم على ضوء العلاقة بالإله (حورس) تكشف عن طبيعة التسلسل الهرمي الإجتماعي . بما أن (شامبليون) أقر بذلك في النهاية ، إلا أن ذلك ألقى جانبا أي فكرة عن تصوير تقليدي يمكن أن يضع الغشاوة على مستويين بارزين ويضع (حورس) في نفس المستوى مثل الشخصيات البارزة ، بينما يجب أن يكون حقيقة في مقدمتهم جميعا .
إنه لأمر نمطي أن يجري تصوير المصريين بلون يعرف رسميا بـ (الأحمر الداكن). لقد جرى الحديث علميا على أنه لا توجد حقيقة سلالة بلون أحمر داكن . لقد إطلق المصطلح لخلق إرباك ، إذ ليس هناك رجل أسود بالمعنى الدقيق للكلمة . إن لون الزنجي يلامس في الواقع اللون الأسمر ، لكن من غير الممكن أن يطبق مصطلح وصفي دقيق عليه ، لأنه يتفاوت من إقليم إلى إقليم . لذا فقد لوحظ أنّ السود في المناطق التي بها حجر جيري أفتح لونا من أؤلئك الذين في أي مكان أخر . لذا فإنه من الصعب جدا حصر لون الزنجي في الرسم ، مما يجعل المرء يستقر على المقاربات . إنّ لون الرجلين القريبين للإله (حورس) هو تعبير عن تدرج في اللون لزنجيين . إذا أراد أحد من الــ (ولوف) أن يصّور أفرادا من الـ (بامبارا) ، (موسي) ، (يوروبا) ، (توكولور) ، (فانق) ، (مانقبيتو) ، فإنه سيحتاج إلى ألوان أكثر من تلك التي على الزنجيين اللذين في النقوش الصخرية البارزة . هل سيكون هؤلاء غير زنوجا الآن ؟ إن ذلك يوضح أن كيفية إختلاف الألوان بين الرجلين الأوليين على النقوش الصخرية البارزة يجب أن تفسر . على النقوش المصرية البارزة من غير الممكن العثور على رسم واحد يصّور المصريين في لون مختلف عن تلك الشعوب الزنجية مثل البامبارا ، أقني ، يوروبا ، موسي ، فانق ، باتوستي ، توكولور ، ..
إذا كان المصريون بيضا فإن كل الشعوب الزنجية السالف ذكرها والكثيرون الأخرون في أفريقيا هم بيض كذلك وبالتالي قد وصلنا إلى الإستنتاج المناف للعقل وهو أن السود بيض في الأساس . على هذه النقوش الصخرية البارزة المتعددة نرى أن كل أنواع السلالة البيضاء في ظل الأسرة الحاكمة الثامنة عشر ، قد وضعوا خلف السود ، على وجه التحديد (الحيوان الأشقر) لـ (غوبينيو) والنازي المتوحش ذو الوشم والذي يرتدي جلد حيوان وبدلا من أن يكون في مقدمة كل الحضارات ، فإنه ظل محجوبا عنها بشكل جوهري وشغل المرتبة الأخيرة للإنسانية . لقد كان إستنتاج (شامبليون) نموذجيا فبعد أن ذكر أن مثل هذه المنحوتات يمكن أن تخدم كنقوش صغيرة بالنسبة لتاريخ السكان الأوائل لأوروبا ، أضاف (إن كان لدى أي شخص الشجاعة لمحاولة ذلك) . أخيرا وبعد هذه التعليقات قدم رأيه عن السلالة المصرية :
(( لقد جاءت القبائل الأولى الي سكنت مصر أي وادي النيل بين شلال (أسوان) والبحر من (الحبشه) إلى (سينار) . ينتسب قدماء المصريون إلى سلالة تشبه تماما سلالة الكنوز والبرابرة والذين هم الآن سكان (بلاد النوبة) . في أقباط مصر لم نعثر على أي ملامح مميزة لسكان مصر القدماء . إن الأقباط هم نتاج للتهجين مع الأمم الأخرى التي هيمنت بنجاح على مصر . إنه من الخطأ البحث عن ملامح للسلالة القديمة )) . لقد رأينا هنا المحاولات الأولى لربط المصريين بسلالة مختلفة عن سلالة الأقباط ، مثلما أكدت ذلك ملاحظات (فولني) . إن المنشأ الجديد الذي إعتقد (شامبليون الأصغر) أنه إكتشفه ، ليس خيارا مبهجا فقد ظلت المعضلة على الوجهين هي ذاتها . إن الهرب من منشأ زنجي سيؤدي إلى منشأ أخر وبشكل متساوي وهو الزنوج (نوبيين واثيوبيين) . كحقيقة فإن المميزات الزنجية للسلالة الأثيوبية أو الحبشية قد جرى تأكيدها بشكل كاف بواسطة (هيرودتس) وليست هناك حاجة لإعادة فتح الموضوع . إن النوبيين هم الأسلاف المقبولين لمعظم الأفارقة السود ، للدرجة التي تكون فيها كلمتي (نوبي) و (زنجي) مترادفتان . أما الأثيوبيون والأقباط فهما مجموعتان زنجيتان إمتزجتا لاحقا مع عناصر بيضاء مختلفة في أقاليم متعددة . أما زنوج الدلتا فقد تهاجنوا تدريجيا مع بيض البحر الأبيض المتوسط الذين كانوا يتسللون بشكل دائم إلى مصر . لقد شكلوا ذلك الفرع القبطي المؤلف في غالبه من الأفراد الأقوياء الذين سكنوا إقليما مستنقعيا إلى حد ما . أما عن الأساس الإثيوبي الزنجي فقد جرى تطعيمه بعنصر أبيض يتألف من مهاجرين من غربي آسيا والذين سوف ندرسهم قريبا . لقد أنتج هذا المزيج في منطقة سهلية نموذجا أكثر رياضية من حيث البنية . بالرغم من هذا الهجين المستمر والقديم جدا فإن الملامح الزنجية للسلالة المصرية الأولى لم تختف بعد ، فلون بشرتهم لا يزال أسودا بشكل جلي ومختلف تماما عن تلك السلالة الممزوجة بـ (50%) من الدم الأبيض . في معظم الحالات فإن اللون لا يختلف عن ذلك العائد للأفارقة السود الأخرين . عليه يمكننا أن نفهم لماذا يحمل الأقباط وخاصة الإثيوبيين ملامح تختلف قليلا عن تلك التي للسود الخالين من أي أمتزاج مع سلالات بيضاء . إنه يحدث أحيانا أن تكون شعورهم أقل تجعدا . مع أنهم ظلوا بارزين بشكل أساسي ، إلا أنه بذل جهدا على تقديمهم على أنهم بيضا مزيفين ، إستنادا على ملامحهم الدقيقة نوعا . إنهم بيض مزيفون حينما يكونوا معاصرينا وحينما يمنعنا واقعهم العرقي من إعتبارهم بيضا حقيقيين ، غير أن هياكل أسلافهم التي وجدت في المدافن تظهرهم بيضا بالكامل وفقا لمقاييس الأنثربولوجيا . بفضل ما سمي بمقاييس الأنثربولوجيا فإننا سوف نرى أنه لم يعد بالإمكان تمييز هيكل الإثيوبي الذي هو زنجي عن هيكل الألماني .على ضوء الفجوة التي تفصل هاتين السلالتين فإننا ندرك كم هذه المقاييس مربكة وغير ضرورية . إن رأي (شامبليون) عن السلالة المصرية قد سجله في سيرة أعدها لباشا مصر سلّمها له في عام 1829 .
الآن دعونا نرى عما إذا كان بحث أخ (شامبليون الأصغر) أب علم الآثار المصرية قد سلط أي ضوء على الموضوع أم لا . هنا كيفية تقديمه للموضوع :
(( إن الرأي القائل بأن السكان القدماء لمصر ينتسبون إلى العرق الأفريقي الزنجي هو خطأ تم قبوله طويلا على أنه الحقيقة . منذ عصر النهضة فإن الرحالة في الشرق الذين كانوا قادرين بالكاد على التقييم الكامل للأفكار المقدمة من الآثار المصرية في هذه المسألة الهامة ، ساعدوا على نشر هذه الفكرة الزائفة فيما نجح الجغرافيون في إعادة إنتاجها حتى في أيامنا . إن هناك جهة أعلنت أنها منحازة لهذه الرؤية وروّجت للخطأ . لقد كان ذلك تأثير ما أحتفى به (فولني) في مؤلفاته المنشورة عن ملاحظاته عن السلالات المختلفة للبشر في مصر . في كتابه (رحلة) الموجود في كل المكتبات ، أورد أن الأقباط ينحدرون من سلالة المصريين القدماء ، ذلك أن الأقباط لهم وجه وأعين منتفخة ، أنف فطساء ، شفاه غليظة مثل الخلاسي وأنهم يشبهون أبو الهول الذي في الإهرامات ذو الرأس الزنجي بشكل مميز وتوصل إلى أنّ المصريين هم زنوج حقيقيون من نفس النوع الذي ينتمي إليه كل الأفارقة المحليون . لدعم هذا الرأي فإنه إستدعي رأي (هيرودتس) المتعلق بـ (الكوليخسيين) ، ذاكرا أن المصريين لهم بشرة سوداء وشعر أصوف ، غير أن هاتين الصفتين الجسدتين لا تكفي لتمييز العرق الزنجي ، كما أن إستنتاج (فولني) بالنسبة للمنشأ الزنجي للحضارة المصرية ، مقحم بشكل واضح وغير مقبول )) .
بعد التعبير عن آسفه بشكل غير مباشر عن وجود كتاب (فولني) في كل المكتبات ، يتقدم شامبليون- فيجاك بما يراه حجة حاسمة لدحض فرضية ذلك الباحث وكل أسلافه من أنّ البشرة السوداء والشعر الأصوف (لا يكفيان لتمييز الجنس العرقي) . إنه يمكن على حساب هذه التغييرات في التعريفات الأساسية أن تكون السلالة المصرية بيضاء . عجبا ! إنه لم يعد هناك ما يكفي لأن تكون أسودا من الرأس إلى القدم وأن يكون لديك شعرا أصوفا لكي تكون زنجيا ! يمكن للمرء أن يتخيل نفسه في عالم حيث القوانين الطبيعية إنقلبت رأسا على عقب . على أي حال فإن المرء يجد نفسه متنحيا بعيدا عن العقل الديكارتي التحليلي . مهما يكن فإن هذه هي تعريفات وتبديلات المعلومات الأولية التي أصبحت أركان الأساس التي إرتكز عليها علم الآثار المصرية .
إن ظهور علم الآثار المصرية من خلال تفسير المعرفة العلمية قد تميز بالتزويرات المتعمدة وغير المتقنة التي أشرنا إليها أخيرا . إن ذلك هو السبب الذي جعل علماء الآثار المصرية يتجنبون بشكل حذر مناقشة أصل السلالة المصرية . للتعامل مع هذه المسألة اليوم فإننا نجد أنفسنا مجبرين على الكشف عن نصوص قديمة لمؤلفين كانوا مشهورين ذات مرة ثم أصبحوا مجهولين لاحقا . إن تغييرات (شامبليون) تظهر كيف يكون من الصعب إثبات نقيض الواقع فيما لا يزال غامضا . حيثما نتوقع دحضا موضوعيا ومنطقيا ، فإننا نواجه الكلمة النموذجية (مرفوض) والتي هي بالكاد كلمة مترادفة مع إثبات . يواصل (شامبليون – فيجاك) في موضوعه قائلا :
((لقد أدرك اليوم أن سكان أفريقيا ينتمون إلى ثلاثة سلالات مختلفة عن بعضها بشكل تام
(1) زنوج حقيقيون ويسكنون وسط وغرب أفريقيا (2) كافرز ويعيشون على الساحل الشرقي ، لهم زاوية أقل إنفراجا في الوجه من السود ، أنفهم مرتفعة ، غير أن شفاههم غليظة وشعرهم أصوف . (3) المور الذين يشابهون في القوام والملامح والشعر أمم أوروبا وغربي آسيا وتختلف فقط في لون البشرة الذي أكتسب السمرة بفعل المناخ . إن قدماء المصريين ينتمون إلى هذه السلالة الأخيرة أي السلالة البيضاء . لكي نقتنع بذلك فإننا في حاجة فقط لكي نفحص الأشكال البشرية التي تمثل المصريين على الآثار وفوق كذلك عدد كبير من المومياءت التي فتحت . بإستثناء لون البشرة التي إسوّدت بفعل المناخ الحار فإنهم نفس الرجال الذين في أوروبا وغربي آسيا . إن الشعر المجعد الأصوف هو الصفة الحقيقية للسلالة الزنجية ، بينما للمصريين شعر طويل يماثل ذلك الذي للسلالة البيضاء في الغرب )) .
دعنا نحلل إفادات (شامبليون – فيجاك) نقطة تلو نقطة . إن كلمة (كافر) لا تشكل سلالة – بعكس رأيه – فالكلمة أصلها عربي وتعني (وثني) وهي المقابل لمسلم . حينما دخل العرب أفريقيا عبر زنزبار فإن هذه الكلمة أطلقت على أؤلئك السكان الذين وجدوهم يمارسون ديانة غير ديانتهم . أما بالنسبة للمور فإنهم ينحدرون من الغزاة الإسلاميين السابقين الذين بدأوا حملتهم من اليمن ، قهروا مصر ، شمال أفريقيا وأسبانيا فيما بين القرنين السابع عشر والخامس عشر ومن إسبانيا عادوا مرة أخرى إلى أفريقيا . بالتالي فإن المور هم بالأساس عرب مسلمون حيث أن وجودهم في أفريقيا حديث تماما .
إن هناك العديد من المخطوطات التي تحتفظ بها عائلات المور الرئيسية في موريتانيا اليوم ، مخطوطات تظهر بدقة تسلسل أنسابهم منذ أن غادروا اليمن كإثبات على أصلهم . عليه فإن المور هم فرع من أؤلئك الذين يطلق عليهم (ساميون) وما سيقال عن الساميين لاحقا في هذا الكتاب سوف يبدد أي إحتمال لإمكانية أن يكونوا صنّاع الحضارة المصرية ، كما أن المور مثل البرابرة لهم عداء مع النحت ، بينما ألحقت الثقافة المصرية أهمية عظيمة بهذا المظهر الفني . في نفس الفصل سوف يتم التشديد على التمازج العرقي أكثر من التشديد على المناخ واللون الذي يفترض أن ينسبوا له . علاوة على ذلك وعلى ضوء المومياءات أو الأحياء فإنه لا توجد إمكانية للمقارنة بين لون بشرة المور - حتى وإن تلونت باللون الأسمر بفعل الشمس – والبشرة الزنجية السوداء للمصريين .
لإقناعنا بفكرته دعانا (شامبليون) إلى فحص الأشكال البشرية التي تمثل المصريين على الآثار . إن حقيقة الفن المصري بكامله يناقض ما ذهب إليه (شامبليون) . لقد أولى القليل من الإهتمام للملاحظات النموذجية لـ (فولني) عن أبو الهول ، مع أنه أشار إليها فقط . بناء على نفس هذه التوضيحات التي أشار إليها ، يمكننا القول وأنه عكس ما تحدث به (فيجاك) فإنه ومنذ مينا وحتى نهاية الأمبراطورية المصرية ومن عامة الشعب حتى فرعون ، مرورا بوجهاء البلاط وكبار المسئولين ، فإنه من غير الممكن أن تعثر سوى على زنوج من نفس نوع سكان أفريقيا المحليين . إن الصور التي في هذا الكتاب تقدم سلسلة من الآثار التي تمثل الطبقات الإجتماعية المختلفة للسكان المصريين بما في ذلك الفراعنة وتقودنا تلك الصور بشكل إضطراري إلى ملاحظة أن الفن المصري كان في الغالب أكثر زنجية من فن زنجي أصيل . عند فحص هذه الصور ومقارنتها واحدة بأخرى فإننا نتعجب كيف إستطاعت هذه الصور أن تستلهم فكرة السلالة المصرية البيضاء .
أخيرا وبعد أن ذكر أن البشرة السوداء والشعر الأصوف لا يكفيان لتمييز السلالة الزنجية ، عاد (شامبليون – فيجاك) ليناقض نفسه لاحقا في السطر (36) بأن كتب
(أنّ الشعر المجعد الأصوف هو الصفة الحقيقية للسلالة الزنجية) بل مضى إلى الأبعد حينما قال أن المصريين لهم شعور طويلة وبناء على ذلك فهم ينتسبون إلى العرق الأبيض . إنه يبدو من النص أن المصريين كانوا بيضا ببشرة سوداء وشعر طويل .
مع أننا قد لا نكون مدركين لوجود هؤلاء البيض ، فإننا نحاول أن نفهم كيف توصل المؤلف إلى هذا الإستنتاج . إن ما قيل عن أن الأثيوبيين والأقباط يظهر أنّ شعورهم ربما كانت أقل تجعيدا من تلك التي للزنوج . علاوة على ذلك فإن السلالة السوداء ، السوداء بالكامل ذات الشعر الطويل موجودة فهناك (الدارفيدي) وهم يعتبرون زنوجا في الهند وبيضا في أفريقيا . على الآثار جرى تصوير المصريين بتمشيطات شعر صناعية تماثل تلك التي تظهر في أي مكان في أفريقيا السوداء . إن علينا أن نرجع إلى هذه في تحليل (نارمير) . لقد إختتم المؤلف حديثه بوصف الشعر المصري بأنه مشابه لشعر البيض الغربيين . إننا لا نقبل هذه الملاحظة حتى إذا كان شعر المصريين أقل مشابهة للصوف من ذلك الذي للسود الأخرين ، فإن ذلك يستبعد أي مقارنة محتملة بين شعر السود الكثيف والأسود مع شعر الغربيين الرقيق والفاتح . إنه من المثير للفضول أن نقرأ عن مصريين طويلي الشعر ، حينما نعلم أن (هيرودتس) قد وصف شعرهم بأنه مشابه للصوف . علاوة على ذلك فإنه في فترة الأسرة الحاكمة الحادية عشر كان السود ، البيض وذوي البشرة الصفراء يعيشون في (طيبه) ، مثلما يعيش الأجانب اليوم في باريس .
حينما كان إنسان (طيبه) يرغب في الحصول على نعش مترف لموميائه ، كان يجّوف جذع الشجرة ويقطعها على شكل إنسان مع غطاء يمثل مقدمة الجثة . كان الوجه يخفى بلون أصفر ، أبيض أو أسود . بالنسبة لإختيار التلوين يظهر أنه في ظل الأسرة الحاكمة الحادية عشر في (طيبه) كان الرجال الصفر ، البيض والسود مقبولين كمواطنين ومعترف بهم في مدينة الموتى المصرية . إننا نتعجب إذا عن سبب بقاء المومياءات الطويلة الشعر فقط ، فيما لم تظهر أو تذكر المومياءات الزنجية التي إستشهد بها (فونتين) . ماذا جرى لها ؟ إنّ إفادات (هيرودتس) لا تدع مجالا للشك عن وجودها . هل أعتبرت أنواعا أجنبية لا صلة لها بتاريخ مصر ؟ هل دمرت أو خبئت في تعريشات المتاحف ؟ إن ذلك أمر محزن تماما . يواصل (شامبليون – فيجاك) حديثه قائلا : (( لقد بحث دكتور (لاري) هذه المسألة في مصر وفحص عدد كبير من المومياءات ودرس هياكلها وتعرف على الصفات الرئيسية وحاول تحديد هوياتها في السلالات المختلفة التي كانت تعيش في مصر ونجح في ذلك . لقد بدأ له أن الجميع قد إندمج في الإثيوبيين عدا الجنس الأسود . إنّ للأثيوبيين عيون واسعة ، نظرة عذبة ، .... ، عظام خد بارزة وتشكل الخدود مثلثا منتظما مع الزوايا البارزة لعظام الفك والفم ، الشفاه غليظة لكن من دون إرتداد كما عند السود ، الأسنان دقيقة لكنها ناتئة قليلا ، أخيرا البشرة بلون مشابه للون النحاس . إن مثل هؤلاء الإثيوبيين قد جرى رصدهم من قبل دكتور (لاري) وعرفوا عموما كبربر أو برابرة وهم اليوم سكان بلاد النوبة )) .
أضاف (شامبليون) بأن (فريدريك كيلايود) الذي شاهد البربر وصفهم بأنهم ( كادحين ، متعقلين ، ذو دعابة جافة .. شعورهم نصف مجعدة ، قصيرة ومجعدة ، أو مجدولة مثل قدماء المصريين ومدهونة قليلا ). مرة أخرى فإن هذا الوصف يدوي بما هو متعارف عليه ، فالشفاه الغليظة ، الأسنان الناتئة قليلا – بمصطلح أوضح بروز الفكين – الشعر شبه المجعد ، البشرة النحاسية ، هي صفات أساسية للعرق الزنجي . إنه لأمر مثير للإهتمام أن يتحدث (شامبليون – فيجاك ) عن بشرة الأثيوبيين كونها (نحاسية اللون فقط) ، مع أنه يشير في صفحتين لاحقتين في نفس الفصل إلى الكثير من الفوارق الدقيقة في لون الزنوج :
(( لقد أدخلت الحروب الطويلة مصر في إحتكاك مع الداخل الأفريقي وبالتالي يستطيع المرء التمييز بين الأنواع العديدة للسود على الآثار المصرية ، المختلفين فيما بينهم من حيث الملامح الرئيسية والتي أوردها الرحالة المعاصرون كإختلافات سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالبشرة التي تجعل الزنوج سودا أو نحاسيي اللون أو الملامح التي ليست أقل نموذجية)) . إن هذا التناقض الجديد من نفس القلم تؤكد ما ذهبنا إليه بشأن الرجلين الجالسين بالقرب من الإله حورس ، بالتحديد المصري والزنجي . هذين الرجلين ينتميان إلى نفس السلالة فالإختلاف الذي بينهما في اللون ليس أكبر من ذلك الذي بين (البامبارا) و (الولوف) اللذين كليهما زنجي . إن ما يسمى بـ (اللون الأحمر الداكن) للأول (اللون النحاسي المجرد) للأثيوبي و (اللون النحاسي) للزنجي هما لون واحد وذات الشيء . نلاحظ أن وصف المؤلف توانى عن التفاصيل الصغيرة مثل (نظرة عذبة) وهكذا دواليك. إن الإرتباك حول مصطلح (بربر) يجب الإشارة إليه فهي كلمة أستخدمت بشكل غير سليم لسكان وادي النيل الذين لا يجمعهم شيئ مع البربر والطوارق ، حيث لا بربر في مصر . في المقابل فإننا نعرف بأن شمال أفريقيا يطلق عليه دول البرابرة وهذه المنطقة هي الموطن الأصلي الوحيد للبرابرة . بناء على ذلك فإن المصطلح غير صحيح التطبيق على السكان الأخرين . إنّ جذور هذه الكلمة التي أستخدمت خلال العصر القديم ، ربما تكون زنجية المنشأ أكثر من كونها هندية - أوربية . في الواقع فإنه تكرار صوتي للجذر (بر) . إن هذا النوع من التكثيف في الجذر هو أمر شائع في اللغات الأفريقية خاصة المصرية .
علاوة على ذلك فإن كلمة (بر) تعني لدى (الولوف) التحدث بسرعة و(بربر) يراد بها الإشارة إلى شعب يتحدث بلغة غير مفهومة وبالتالي فإنهم شعب أجنبي . لدى (الولوف) فإن الصفة التي تشير إلى الجنسية ، تتشكل بمضاعفة الجذر مثلا (جولوف جولوف) سكان (جولوف) . وفقا لرسم (شامبليون الأصغر) وبإعادة طرح النقوش الصخرية البارزة لبيبان الملوك فإن (شامبليون – فيجاك) لم يحترم ألوان الأصل . لقد ألقى بتدرج اللون بالكامل على جسم الزنجي لتذكيرنا بلونه ، إلا أنه تجنب أن يفعل ذات الشيء مع المصري الذي تركه بلا لون . ربما كانت تلك طريقة لتبييض الأخير غير أن ذلك لا ينسجم مع المستند . لقد إستخدم (شيروبيني) رفيق شامبليون في الرحلة نفس المستند المتعلق ببيبان الملوك في تمييز السلالة المصرية . لقد شدد قبل ذلك على أقدمية إثيوبيا على مصر وأستشهد برأي مجمع عليه من القدماء وهو أن مصر مجرد مستعمرة إثيوبية أي مروي السودانية. على إمتداد التاريخ كان يعتقد بشكل متساو أن السودان المروي هو مولد الإنسانية :
(( إن السلالة البشرية يجب أن تحتسب وجودها هناك كأمر تلقائي ، كونها ولدت في المناطق العليا من أثيوبيا حيث يتواجد مصدرين من مصادر الحياة هما الحرارة والرطوبة . في هذه المنطقة كذلك تكشفت الومضات الأولى للتاريخ عن منشأ المجتمعات والموطن الأولي للحضارات . في العصر القديم الأول وقبل الحسابات المألوفة للتاريخ ظهر تنظيم إجتماعي كامل التركيب بديانته وقوانينه ومؤسساته . يفاخر الأثيوبيون بأنهم أول من أسس للعبودية الربوبية وأول من إستخدم القرابين وربما كانوا أول من إضاء العالم بمشعل العلم والفنون . إلى هذا الشعب يجب أن ننسب منشأ المنحوتات ، إستخدام الرموز المكتوبة ، بإختصار بداية كل التطورات التي صنعت حضارة متقدمة . إنهم يتباهون بالسبق على الشعوب الأخرى في الأرض وبالتفوق الفعلي أو النسبي لحضارتهم ، بينما كانت معظم المجتمعات لا تزال في طفولتها ويبدو أن لديهم مايبرر إدعاءتهم . لا يوجد أي دليل يمكن أن ينسب إلى مصدر أخر يتحدث عن بدايات العائلة الأثيوبية . في المقابل فإن مجمل الحقائق الهامة مالت إلى تسميتها إنها ذات منشأ محلي بمعني الكلمة في تاريخ مبكر . لقد أعتبرت أثيوبيا بلد لوحده . من هذا المنشأ الكثير أو القليل الشبه بالجنة يبدو أنّ بدايات الحياة قد إنبثقت من هناك حيث تواجد البشر . بإستثناء بعض التفاصيل التي أمدنا بها أب التاريخ عن هؤلاء الأثيوبيين الذين يعرفون بالنباتيين ، فإن هناك فكرة غامضة ما من أن أثيوبيا أنجبت رجالا تفوقوا على بقية البشر في الطول ، الحسن وطول العمر . برغم الإدراك بوجود أمتين محليتيين عظيمتين في أفريقيا وهما الليبية والأثيوبية ، فإن الأمة الأخيرة تضم شعوبا جنوبية في معظمها من العرق الأسود وهم بالتالي مميزون عن الليبيين الذين يسكنون شمال أفريقيا الذين هم أقل سمرة بفعل الشمس . أنّ هذه المعلومات هي التي أوردها القدماء . إنه لمن المعقول الإفتراض بأنه لا يمكننا أن نعثر في أي مكان أخر في الأرض على حضارة لها من التقدم ما يبدو أكثر يقينا من تلك ولها دلائل قاطعة من الأسبقية . إنسجاما مع الآثار الحقيقية فإن الكتابات القديمة الفلسفية البحثية تشهد بشكل محقق بهذه الأسبقية . في تاريخ المجتمعات البدائية ربما لا توجد حقيقة تجد دعما بشكل كلي أو بإجماع قاطع )) .
مرة أخرى فإن أحد المعاصرين يذكرنا بأن القدماء ، العلماء والفلاسفة الذين نقلوا حضارة اليوم إلينا ، من هيرودتس إلى تيودوروس ، من اليونان إلى روما قد أقروا بالإجماع بأنهم إقتبسوا تلك الحضارة من السود القاطنين على ضفاف النيل : الأثيوبيين أو المصريين . إن هذا النص يشير بوضوح إلى أن القدماء لم يشّكوا أبدا في دور السود كمبتدئين للحضارة . مع أن (شيروبيني) يفسر الحقائق كما يرغب ، فإنه وإستنادا على النقوش الصخرية البارزة لبيبان الملوك لا يقدم بعد شامبليون الأصغر وشامبليون – فيجاك ، أي عنصر جديد يتعلق بالسلالة المصرية عدا تفسير خاطيء لبشرتهم ، فهو يورد بأنه إذا كان (الرجل مكافيء التفوق) قد صّور بلون أسمر محمّر (!) فمن الأحرى أن يكون مميزا عن باقي البشر وبالتالي فهو خيار تقليدي بمعنى الكلمة :
(( في هذا التصنيف من الرجال القدماء الذين هم أنفسهم تركوه لنا أن السكان الأفارقة القاطنين وادي النيل ، يشكلون لوحدهم واحدا من المجموعات الأربعة للبشرية والتي تحتل المرتبة الأولى بجانب الرب . لقد لوحظ هذا الترتيب في مواضع أخرى عديدة ولم يظهر بمحض الصدفة . لجعل المسافة التي تفصلهم عن باقي الرجال غير ممكن إدراكها فإنهم نسبوا إلى أنفسهم مثلما نسبوا إلى الرب التجسيد في شكل بشر وربما كان اللون الأسمر المحمّر فيه شيء من المبالغة أو ربما كان تقليديا نوعا ما ، مما لا يدع مجالا للشك عن أصالة سلالتهم . علاوة على ذلك فقد ظهروا على آثار حضارتهم القديمة بملامح خاصة تكشف عن الأصل الأفريقي بشكل قاطع)) .
إن اللون الأسمر المحمّر الذي يسميه شامبليون (أحمرا داكنا) والذي هو ببساطة (لون زنجي) لا يمكن أن يكون لونا تقليديا كما رأى (شيروبيني) ، فإن كان كذلك فإنه سيكون اللون التقليدي الوحيد في تلك النقوش الصخرية البارزة ، بينما تكون كل الألوان الأخرى طبيعية . ليس هناك شك في حقيقة الثياب البيضاء التي يرتديها الرجل الأول ، أو البشرة التي تلامس اللون الأصفر أو المسمّرة للرجل الثالث ، أو البشرة البيضاء ذات الدرجة اللونية الرقيقة ، اللحية الشقراء وعيون الرجل الرابع . من بين الكثير من الألوان الطبيعية لماذا يجب أن يكون هناك لون تقليدي واحد ؟ وفقا لـ (شيروبيني) :
(( حمل المصريون تصنيفهم أو بشكل أكثر دقة فخرهم العرقي للدرجة التي أرسوا فيه تمييزا محددا بين أنفسهم وبين جيرانهم الأفارقة المحليين مثل السكان الزنوج الذين كانوا ينفرون أن يختلطوا معهم ووضعهم في فئة منفصلة )) . لقد مضى المصريون إلى الأبعد وصّوروا إلههم بلون زنجي ، أي بلون هيئتهم الأسود الفاحم . بالتالي فإن فكرة أي شيء هو تقليدي سترفض ببساطة وبشكل تام . هكذا بعد شامبليون – فيجاك أتى (شيروبيني) وأطلع على نفس وثيقة بيبان الملوك عبر ضوء وامض . في هذا السياق يمكننا أن نكرر ما قلناه سابقا من أنه وبالإبتعاد عن الدليل الذي يفيد بزنجية المنشأ ، فإن المتخصصين يقعون في إحتمالات بعيدة الحدوث وتناقضات تفضي إلى نهايات مسدودة . إن هذا العمى وحده يمكن أن يفسر كيف أن (شيروبيني) وجد من الأنسب أن يلجأ إلى التمثيل التقليدي الذي يتناقض مع رأيه الخاص عن المصريين الذين وجدوه مرفوضا . يستدعي المؤلف من جهته النقوش الصخرية البارزة لمعبد أبي سمبل (النوبة السفلى) حيث صّور السجناء المعتقلين بواسطة (سيسوستريس) بعد حملة نحو الجنوب . لقد أعاد (شيروبيني) طرح هذه المعلومات لإثبات أنّ المصريين والسود ينتمون إلى سلالاتين مختلفتين :
(( شاهدنا الملك سيسوستريس عائدا من حملة ضد هؤلاء الجنوبيين ، هناك العديد من الأسرى يتقدمون مركبته . منح الملك الآلهة المحلية مجموعتين من السجناء الذين ينتمون بشكل جلي إلى هذه القبائل المتوحشة وهو عطاء مخصص لحماة الحضارة الأقوياء الذين تبسموا أمام عقوبة أعدائه . كان هؤلاء الرجال مقيدين مع بعضهم ومجردين من ملابسهم تقريبا عدا جلد نمر يغطي عوراتهم ، مميزين بلونهم ، بعضهم أسود بالكامل وأخرين بلون أسمر داكن . هناك نوع يتميز بوجه ذو زاوية طويلة ، قمة الرأس مسطحة ، فيه مزيج من الملامح الخشنة وجسم ضئيل عموما ، هو من سلالة تقبع في أدنى درجات السلم البشري (الشكل 29) . إن التكشيرات الدميمة والتعرجات التي تقبض على وجوه وأطراف هؤلاء الرجال تكشف عن شيم متوحشة ، كما أنّ غرابة تلك السلالة التي يبدو فيها الحس الأخلاقي غائبا ، يميل إلى وضعها في مستوى أكثر أو أقل توسطا بين الإنسان والبهيمة . إن كل هذه الحقائق تبدو أكثر دهشة عند مقارنتها بالموقف النبيل والجاد للمصريين الذين سبوهم . إنّ هذا التباين المؤثر يثبت بشكل كاف أن القدماء الذين سكنوا على ضفاف النيل قد إبتعدوا بعيدا عن أنواع سكان جنوب أفريقيا مثلما عن الشعوب الآسيوية . إن ذلك يدحض النظريات التي حاولت حتى اليوم تثبيت منشأ زنجي لها )) .
متجاهلين نعوته الإزدرائية ، دعونا نرى كيف وصف (شيروبيني) إختلاف السجناء عرقيا عن المصريين . إن روايته لا تحتوي على مصطلح علمي واحد يعمل على جذب إنتباهنا . في المقابل فإن الطبيعة المتطرفة للإهانات التي شكلت الجزء الأكبر من وصفه
- الذي كتب بواسطة ممثل الشعب الذي أعتبر إحساسه بالتجانس مزية وطنية – يشير إلى غيظ شخص غير قادر على تحديد ما يرغب في إثباته . لقد مضى بعيدا حتى ينسى الترتيب الموضوعي الذي أتبع في النقوش الصخرية البارزة لبيبان الملوك التي مكث فيها طويلا . في الواقع إذا كانت السلالة السوداء ( في أدنى درجات السلم البشري) حتى وإن وقفت أمام عبارة غوبينيو (حيوان أشقر) على تلك النقوش الصخرية في ترتيب يلاحظ بشكل ثابت في كل الآثار ، عندها عند أي درجة يوضع الأخير ؟ إننا نعيد هنا طرح التخطيط الذي ناقشه (شيروبيني) . كيف يمكن للمرء أن يتعرف من الوجوه على أي دليل للإنحطاط الأخلاقي ؟ كيف تختلف تلك الملامح عن ملامح المصريين ؟ إن (شيروبيني) نفسه يخبرنا عن أن البشرة تكون أحيانا (سمراء داكنة) ، بكلمات أخرى أنه نفس اللون الأسمر المحمّر العائد للمصريين على الآثار . بشكل واضح فإن السمة الوحيدة الصحيحة التي إستشهد بها ، هي سمة مشتركة للسلالتين . إن لون سجناء أبو سمبل هؤلاء يدحض الزعم بأن المصريين لم يواجهوا الزنوج حتى الأسرة الحاكمة الثامنة عشر وقد صّوروا بلون مختلف عن لونهم . إن هذا الزعم مستمد من الخيال وليس من دليل وثائقي . أليست هذه الأجساد رياضية أكثر من كونها ضئيلة ؟ إن (التعرجات) و (الإنقباضات) التي على وجه الأشخاص الذين في المقدمة ، الإستكانة المترفعة لاؤلئك الذين في الخلف ، توحي بمفهوم عال للكرامة أكثر مما تشي بإنحطاط أخلاقي للمشاهد الذي يفسرها بشكل موضوعي .
إنه لم يحدث أن أشير إلى أن (سيسوستريس) والفراعنة عموما قاتلوا سكان جنوبي أثيوبيا السود لكونهم لا ينتمون لنفس العرق . إنه لأمر متعادل القول بما أنّ القيصر شن حملاته في بلاد الغال فإن الغاليين والرومان لم يكونوا منتسبين إلى ذات العرق الأبيض ، أو القول بأنه إذا كان الرومان بيضا فيجب أن يكون الغاليون صفرا أو سودا . إن الزنوج الذين عاشوا في الأجزاء الداخلية من أفريقيا في ذلك الوقت كانوا مولعين بالحرب وكانوا غالبا ما يغيرون على الإقليم المصري ( مقارنة مع قسمنا عن ستيلا و فيلاي) . إن الإحتفاء بـ (سيسوستريس) الذي ظهر على النقوش الصخرية بأبي سمبل ، يتناسب مع سياق القمع . علاوة على ذلك فإن هذه الحملة حدثت أثناء عصر الإمبراطورية الرومانية (الأسرة الحاكمة الثامنة عشر) . بالتالي فإنهم أبناء سام إخوانهم الجنوبيين ( أبناء كوش الوقحين) . غير أن أكثر من مقتهم المصريون هم الرعاة الآسيويين من كل الأجناس من الساميين إلى الهنود الأوربيين. وفقا لـ (مانيثو) فقد كانوا يسمونهم (الأسيويين الحقيرين) وقد جاء إسم (الهيكسوس) من المقطعين : (هيك) ومعناها ملك في اللغة المقدسة و (سوس) ومعناها راعي في اللغة العامة ويشار إليهم بالغزاة . كذلك يسميهم المصريون : (الملعونين) ، (النهّابين) ، (اللصوص) .... ، كما يسمون السيكيثيون (طاعون سكيتو) – مقارنة مع (شيروبيني) صفحة 34 . إن التجسيمات الصخرية التي تركها المصريون والتي جرى الإحتفاء فيها بالحملات الفرعونية ضد تلك الآفات المتحركة من آسيا ، تصّور شخصيات بارزة يظهر فيها تباين عرقيتها مع المصريين عند النظر إليها من أول وهلة وبدون أي شك محتمل . لجعل الشخصية السامية والآرية الأجنبية أكثر ظهورا فقد أعدنا تقديم الأسرى الآسيويين والأوربيين المنقوشين على الصخور في سيناء وفي معبد مدينة حبو . إن التباين مع تشابه الملامح أمر جدير بالملاحظة بين المصريين وسجناء أبي سمبل .
بالرغم من مجهوداته فإن (شيروبيني) فشل بوضوح في تدمير الفرضية القائلة بزنجية نشأة المصريين . من خلال عدم تماسك وضعف الحجج التي إعتبرها ساحقة فإنه أكد على زنجية المنشأ بأفضل من أي شخص أخر . في (ليس إيجيبتس) وهو كتاب نشر حوالي عام 1880 هاجم (ماريوس فونتين) نفس الإشكالية :
(( بما أن المصريين يدهنون أنفسهم دائما باللون الأحمر على آثارهم ، فإن الموالين للإقليم الجنوبي كان عليهم أن يشيروا إلى خصوصياتهم المدهشة ، ربما لحل المشكلة الجغرافية العرقية . اليوم وبالقرب من أعالي النيل ومن بين (الفولبي) من هم بشرتهم صفراء تماما ويعتبرهم المعاصرون ينتمون إلى سلالة نقية ، يحملون لونا أحمر نوعا . البشاريون لهم بالضبط ذات الدرجة من اللون الأحمر (بلون الآجر) المستخدم في الآثار المصرية. بالنسبة لعلماء الجغرافيا العرقية فإن هؤلاء (الرجال الحمر) ربما كانوا أثيوبيون تحّوروا بفعل الزمن والمناخ ، أو ربما كانوا زنوجا قطعوا نصف الطريق في التطور من اللون الأسود إلى الأبيض . لقد لوحظ في المناطق ذات الحجر الجيري أنّ الزنوج أقل سوادا من الزنوج الذين في المناطق الجرانيتية أو ذات الصخر الجوفي . لقد جرى الإعتقاد بأن اللون يتغير مع الفصول . بالتالي فإن النوبيين كانوا سودا سابقا ولكن فقط في لون البشرة ، بينما ظلت بنيتهم العظمية زنجية تماما . إنّ الزنوج الذين جسّدوا على الرسوم الفرعونية التي كان يخطها نقاشون يسمون (نهاسو أو نهاسيو) في اللغة الهيروغلوفية ، لم يكونوا على صلة بالإثيوبيين ، الشعب الأول الذي هبط مصر . هل أضعف الأخيرون إذا الزنوج النوبيين ؟ يقول سفر (ليسبس) عن تناسبات الجسد المصري المثالي أن له أذرع قصيرة وهو شبيه الزنجي أو زنجي . من وجهة نظر أنثربولوجية فإن المصريين يأتون بعد البولينين ، السامويدز ، الأوربيين ويليهم مباشرة الزنوج الأفارقة والتسمانيين . بجانب ذلك فهناك ميل علمي من أنه بعد إستبعاد التأثيرات الأجنبية من البحر الأبيض المتوسط إلى الكاب ومن الأطلنطي إلى المحيط الهندي ، فإنه لا شييء في أفريقيا غير الزنوج وأشباه الزنوج ذوي الألوان المختلفة . لقد كان قدماء المصريون زنوجا لأقصى درجة )) .