ما يطلبه المغتربون: “عشانكم” … عَشَانا!
عوض محمد الحسن
10 December, 2014
10 December, 2014
aelhassan@gmail.com
بعد أن أفطر نظام الإنقاذ بالمغتربين، وتغدى بهم، تشجأ (ولم يحمد الله) وعزم على أن يتعشى بهم، خاصة بعد خواء الخزائن العامة،ونضوب المصادر الأخرى من باطن الأرض وظاهرها التي لم تشفي "زلعتهم" المهولة، خرجوا علينا بحيلة جديدة نابهة علّها تنطلي على المغتربين مثلما انطلت حيلة "مشروع سندس" الذي كان زراعيا سكنيا واصبح الآن حُفرا لتربية الأسماك (2 مليون طن في السنة– قال ليك!)، ومشروع "واحة الخرطوم" التي استغرق بناؤها نفس مدة بناء هرم خوفو، واختاروا لها ميدان الأمم المتحدة الذي كان رئة وسط المدينة الوحيد، ومتنفسها الأوحد، وقلبها النابض. أسموا مشروعهم الجديد، ظُرفا أو تظارفا منهم، "عشانكم"، ونسوا أو لعلهم تناسوا أن يضيفوا - بلغة سماسرة السيارات القديمة والعقارات والخراف: تحت شعار (عشانكم عشَانَا!)
وقد حفلت الصحف قبل فترة بإعلانات تُبشر بمولد مشروع "عشانكم" الإستثماري لأموال المغتربين، فملأت الدنيا وشغلت الناس (شغلتني انا شخصيا على الأقل)، ثم اختفت لسبب مجهول. ولا أدري إن كان المولود قد مات في مهده، أم أنه خُنِق، أم أن هذا الإختفاء ستعقبه فرقعة إعلامية أخرى تشدّ إنتباه المغتربين المُحجمين عن تحويل مدخراتهم عن طريق القنوات المصرفية.
وكان ميدان الأمم المتحدة (الذي بنوا فوق أرضه واحة الخرطوم) هو قلب المدينة؛ منه تنطلق بصات مواصلة العاصمة والتاكسيات المشتركة (الطرّاحات) إلى أجزاء المدينة الأخرى، وتحف جوانبه أكشاك بيع المرطبات (عصير الليمون)، وبيع الصحف والمجلات والكتب، بينما تضج أرض الميدان بالمدّاحين، يتحلق حولهم العشرات ممن قد يتملكهم الطرب فيقفزون داخل الحلبة، يدورون حولها، ويرقصون بعصيّهم على إيقاع الطار ما شاء لهم، ثم يقذفون بما تيسر من نقود فوق ما افترشه المدّاحون لتلقي ما يجود به السامعون، ومعظمهم من القرويين القادمين من الأقاليم حيث كان المدّاحون وسيلة الترفيه الوحيدة "المشروعة".
وقد كان الميدان أيضا مسرحا مُفضلا للعبة "ملوص" و "الثلاث ورقات"، وهي "لعبات" قمار شعبية بسيطة تهدف إلى "حلْب" أموال زوار العاصمة الريفيين (وأموال بعض ساكنيها من السُذّج) باستغلال جشعهم ورغبتهم في كسب يبدو سهلا وسريعا. ويكمن سحر ملوص والثلاث ورقات في أنهما لا يتطلبان إلا أدوات بسيطة يمكن حملها في الجيب: شريط طويل من "التيل"، يُستخدم أيضا فتيلا لمصابيح الكيروسين (الجاز) الشائعة في كل السودان قبل انتشار المصابيح الكهربائية، في حالة ملوص؛ وثلاث ورقات من أوراق اللعب (الكوتشينة)، في حالة "الثلاث ورقات". والمطلوب في حالة ملوص وضع "عود" نحيل في منتصف الشريط الملفوف بإحكام في شكل دائري بعد أن يُثنى مرة واحدة. أما في لعبة الثلاث ورقات فالفوز بالرهان النقدي يأتي من معرفة الورقة المختلفة بين الثلاث ورقات الموضوعة على وجهها. وتاتي عبقرية المحتالين أصحاب هذه اللعبات في جعل المُشاهد يرى سهولة الفوز بالرهان النقدي بعد أن يرى فوز مشاهدين آخرين (وهو لا يدري أنهم ضالعين في الاحتيال مع اللاعب الرئيسي) بمعرفة الورقة المُخالفةبسهولة بالغة ، أو وضع العود النحيل في منتصف الشريط لاالملفوف.
لا عجب إذن إن قامت واحة الخرطوم في نفس ملاعب ملوص، نصبا تذكاريا "للنصب" التاريخي الذي مُورس على المغتربين ببيعهم "ترام" الواحة الذي تأخر أكثر من عقدين من الزمان، أو بساتين "سندس" التي وعدتهم (بالصور المُلوّنة) بمنزل ومزرعة وماشية في أطراف الخرطوم في أرض قفر لا تُنبت (كما اتضح أخيرا) إلا السمك المستزرع والسراب، وغير ذلك من المشاريع التي تُدغدغ وتر الإستثمار والعودة المنصورة للوطن في نفوس المُغتربين، الذين أطالت غربتهم الجبايات والزكوات وصفوف جهاز "الإجهاز" على السودانيين العاملين بالخارج!
والآن، خرج علينا أحد عباقرة الإنقاذ بمشروع "عشانكم" في محاولة ذكية لجذب مدخرات المغتربين، خاصة وان المستثمرين من مشارق الأرض ومغاربها (وعلى رأسهم مستثمري سنغافورة) يتزاحمون بالمناكب على أبواب السودان. يا تُرى هل يقوم المشروع على "شراكة ذكية" – أو لعلها شراكة استراتيجية - بين جهاز المغتربين وجهاز الإستثمار؟
فيا مغتربي السودان، هلمّوا: (عشانكم .. عشَانَا) –
وعشَانَا عليك يا كريم!