aelhassan@gmail.com يُقال، والعهدة على الراوى، ان أحد مطربى الدرجة الثانية فى الستينيات، ممَن تُذاع أغانيهم فى ساعات الضّحى العاطلة، عاد من جولة فنية فى بعض البلدان الأوروبية، واستضافه تلفزيون السودان الذى كانت استوديوهاته آنذاك قطعة من جهنم بفعل كشافاته الحارقة (ذلك قبل أن يستحيل السودان كلّه الى قطعة "ناصية" من جهنّ بفعل شمسه اللاهبة وأعمال الجماعة). وحين سأله المذيع المتحذلق عن إنطباعاته عن الموسيقى الأوروبية مقارنةً بالموسيقى السودانية، أجاب بكلمة واحدة : "فَرِقْ!". ثمّ أجاب بنفس الكلمة عندما سئل عن الطقس هناك، وعن شكل المدن، وعن الناس، وعن المعايش، وعن وسائل الترفيه، وعن وسائل المواصلات، وعن الطبيعة : "فَرِقْ!"، لا يحيد عنها ولا يزيدها. تذكرتُ هذه النادرة وأنا أتلفتُ حولى فى أديس ابابا، وأقلب فى ذهنى أوجه الشبه والإختلاف بيننا وبين جيراننا الأحباش، تأتينى كلمة "فَرِقْ!" البليغة كلما أجريت المقارنات بيننا وبينهم فى شأن من الشئون. أقول مرّة أخرى: يشبهوننا أكثر مما نظُن، ويختلفون عنّا أكثر مما نتخيّل. يشبهوننا فى السُحنات والقسمات والتقاطيع والألوان، ولا أتحدّث هنا فقط عن سُكان الهضبة الإثوبية وسُكان سودان "مُثلّث حمدى"، بل عن كامل التراب الإثيوبى وعن السودان المُمتد، المُتمدِّد (زمان) من نمولى إلى حلفا، ومن الجنينة إلى بورتسودان. لكل سودانى من الأربعين مليون الذين أحصاهم التعداد "العلمى/الفنى" للسكان إثنان من الإثيوبيين (على الأقل) يشبهانه فى كل شئ، رغم أننى أكاد أجزم أن عشرات الآلاف من الإثيوبيين (وخاصة الأُرومو) يشبهون الفنان المرحوم أحمد المصطفى (ويحبّونه لا زالوا) الخالق الناطق، بعضهم بنفس الشنب "نصِّ رُباط". وهنالك من يشبهك أنت، ومن يشبه زوجك، وأبناءك وبناتك، وأباك وأُمّك، واخوانك وأخواتك، وأقرباءك وأصدقاءك وجيرانك، وزملاء الدراسة والعمل، ومن يملأون شوارع الخرطوم راكبين وراجلين وزاحفين، ومن يسعون خلف إبلهم وأبقارهم وغنمهم فى فلوات السودان وسهوله وأحراشه. رياضتى المفضّلة هى السير فى شوارع أديس، أتفرّس فى وجوه المارّة لأحصى كم ممن أراهم يشبهون أشخاصاً بعينهم فى السودان، وأرى بين المارّة (وأديس قد أوت معظم أعراق إثيوبيا) من يشبهون أولاد شرق كردفان- الرهد وأُم روابة والسميح؛ وأولاد الصعيد- الروصيرص والدمازين وسنجة؛ وأولاد الجزيرة – أربجى والمحيريبة والمدينة عرب؛ وأولاد السكوت والمحس ودنقلة؛ وحوش بانّقا وجبيل أُم على وكبوشية؛ وأولاد مقاشى وحِزيمة وموره؛ وأولاد زالنجى ونيالا؛ وأولاد بحر أبيض – شبشة والكوّة والشوال؛ والفاشر وكبكابية؛ وغبيش وأبوزبد؛ وأولاد دار الريح، والجبال الشرقية، وبالطبع، أولاد كسلا وهيا وهمشكوريب وتهمْيَمْ ! تراهم فى شوارع أديس وتحسبهم كذلك حتى يفتحوا أفواههم فتدرك أنك غريب اللسان وإن كان وجهك لا يختلف عن سائر الوجوه من حولك! وأكاد أُقسم أنّك إن نقلتَ بليلٍ نصف سّكان أديس إلى الخرطوم، وألبستَهم مما يلبس أهل السودان، لما فطن أحد لوجودهم، إلا من وهبه الله الفراسة ليرى الجبهة الناتئة أكثر مما يجب عند مُعظم الأحباش، والبشرة النضرة عند معظم نسائهم، والتى ليس لكريم دايانا ومستحضرات العِطارة يد فى نُضرتها، والشعر الأجعد عند معظمهم. يشبهوننا أيضاً فيما تتشابه فيه (بدرجات متفاوتة) شعوب أفريقيا ومعظم بلدان العالم الثالث: الخلل المتعمِّق فى إقتسام السلطة والثروة؛ وإتساع الفجوة المتزايد بين القِلّة الغنيّة المُرَفهَة والأغلبية التى يطحنها الفقر؛ وفى الولع العجيب بالتطاول فى البُنيان، وامتلاك فاخر السيارات والسرايات؛ وفى الولغ (ولكنه لا ينافس ما بلغنا من شأو في هذا المضمار!) فى المال العام دون وجل أو وازع؛ وفى النّظر إلى ما فى خارج الحُدود وإغفال ما تحت أرجلهم- مما يقود جميعه إلى سيرٍ حثيثٍ نحو إحتراب أهلى فى مُقبل الأيام. ويختلفون عنّا فيما هو أعمق: هم نِتاج حضارة متأصِّلة مُتصلة، ونحن نِتاج بداوة وافدة نسخت ما قبلها من حضارات، إلا قليلا. ولا يصرفنّك ما تراه من الحروب الأهلية والخارجية وتقلّبات السياسة التى عصفت باثيوبيا، وعوادى الطبيعة المُتكررة، والفقر المُزمن وأثره العميق على الإنسان والبيئة من أن تتبيّن مظاهر الحضارة عند الأحباش البادية فى سلوكهم، وأصواتهم الخفيضة، وتوقيرهم المُؤطَّر، لغةً وفعلاً، للكبير، ومهارتهم الفائقة فيما يصنعون بأيديهم ويستخدمون فى حياتهم اليومية من نسيج، وفُخار، ومبانى، وأثاثات، وادوات العبادة والزينة والطهى، والكتابة والرسم. يصنعون الصُلبان على مر القرون من الذهب والفضة والحديد والخشب والجلد فى مئات من التصاميم البديعة المختلفة؛ ويجعلون من جلود الماعز رقائق أسمك بقليل من الورق يكتبون عليها أناجيلهم ومخطوطاتهم وكتبهم، عاشت قروناً طويلة ولا تزال فى حالة جيّدة؛ ويصنعون من الصلصال فخّاراً وخزفاً للإستخدام اليومى (لحمل الماء وحفظه، ولطهى الطعام وتقديمه، ولتخزين شتى المواد) ولكنه قطعاً يصلح للعرض فى المتاحف والصالات وبيوت الموسرين؛ وينسجون على أنوالهم التقليدية أقمشة من القطن والحرير، زاهية الألوان، بديعة التصميم، مُحكمة الصنعة، غاية فى الدِّقة والرقّة والأناقة والتجويد؛ ويصنعون من خشبهم المحلِّى وجلود أبقارهم المُبرقعة أثاثات منزليّة آية فى المتانة والجودة والذوق. وغالب ظنّى أن عُزلة إثوبيا النسبية فى هضبتها، وسطوة الكنيسة الأورذودوكسية ودورها الطاغي فى حياة الناس وحفظها للتراث، مكّن من هذا التواصل الحضارى الثقافى وحفظ هذا التراث الغنى. أما نحن، وخاصة سُكّان "مثلث حمدى"، فلعلّنا من زمرة من "الفاقد الحضارى" الذى أحالنا أمّة تقنع بالحدّ الأدنى من مُنتجات الحضارة ومظاهرها وسلوكياتها، وتزهد فى الجماليات والتجويد، وتكتفى بما يفى بالغرض. وقبل أن تركبك الحِمية والعزّة بالإثم، انظر حولك فى رويّة وقُل لى ما ترى: فُخارنا وخزفنا التقليدى ما زال كما ورثناه من أزمان سحيقة، "أزيار" و"كناتيش" و"قُلل"، لم نُطوِّرها ولم نُجوّد صنعتها إن لم نكن قد زدناها "كعْبَرة" ودمامة إلى أن أغرقنا العصر البلاستيكى بمنتجاته؛ ونسيجنا التقليدى فى بلاد "طويل التيلة" مات وقُبر ولمّا يشبّ عن الطوق بعد، (ولحقه أخوه الحديث بمكائنه وأنواله المُستوردة)؛ وصناعة الأثاث التقليدية لم تتجاوز صناعة العناقريب والبنابر البدائية، والكراسى والأرائك خشنة الملمس والمنظر(رحم الله عمّنا عبد الحميد ود الماحى الذى عمّر بيوت نورى ب"القدُّومِ" فقط)، حتى دهمتها ورش النجارة "الحديثة"، ثمّ هجوم الأثاثات الصينية التى "ملأت" الدنيا بهول حجمها، وشغلت الناس بإعلاناتها السمجة التى تُنافسها فى فساد الذوق؛ ومساكننا التقليدية لا تزال "من التراب وإلى التراب"، ظلّت على حالها منذ بزوغ العصر الجالوصى، لم تمَسّها يد التطوير والتعديل والتجويد والتجميل حتى هلّ علينا العصر الخراسانى/السيراميكى وحُداته أثرياء الحرب والسلام، وتجّار الدين، وفرسان المال العام. ومرَدُّ هذا العامل الذى أسميتُه "الفاقد الحضارى" قد يعود فى ظنّى إلى الإنقطاع البيّن بين حضارات السودان القديمة، بتُراثها المادى الغنى وفنونها وصناعاتها ومُنتجاتها الحضارية، وبين الحضارة العربية الإسلامية الوافدة التى تجذرت بقيام دولة الفونج وأفلحت فى محو ما قبلها محواً تاماً، إلا من بقايا دُفنت فى اللاشعور الجمعى، تطفو إلى السطح فى بعض طقوسنا وعاداتنا، لا نربُطها مباشرة بتلك الحضارات القديمة، ومهارات لم يبق منها إلا صناعة السواقى (رحمها الله) وصناعة البروش و"الزبالة" والحِلومُر والدلكة. (أعترف أننى لم أزُر إهرامات نورى -رغم مولدى بها- إلا بعد أن شارفت الثلاثين، ولا أحسُ برباط عاطفى خاص يشدّنى إليها حين أراها، وشعور بالفخر بأن اجدادى هم بُناة هذه الصروح!) خمسمائة عام ونيف مضت منذ قيام سلطنة الفونج لم تترك لنا من مظاهر الحضارة إلا تراثاُ شفاهياً ضخماُ، وبضعة كتب بدائية الصنعة، ونذراُ يسيراُ من التراث المادى يتمثل فى قباب الشيوخ والأولياء المنتثرة فى وسط وشمال السودان، وبوابة عبد القيوم، وباقى طابية أُمدرمان – وكلّها من الجالوص! خمسمائة عام لم تترك لنا صروحاُ تُغالب الزمن مثل أثار البجراوية، ولا أثراً لتقدم تكنولوجى، ولا أدوات ومنتجات من خزف وادوات زينة. لم تترك لنا حتى "الكَكَرْ والطاقية أُم قرينات" التى كانت رموز السلطة فى سنار. لم تترك لنا إلا هذا التراث الشفاهى الذى شكّل - فى رأيى – الشخصية السودانية الحالية ومزاجها الذى يقنع بالحد الأدنى، ويتسم بالزهد (أو "المَحَقة") عن الإنتاج الحضارى المادى الذى يُثرى حياة الإنسان، والميل إلى إحْلال القول محل الفعل، والشغف بشكل اللغة دون مُحتواها؛ ميلٌ ركنت إليه فى عصرنا الحديث الإنظمة المتعاقبة (وخاصة الشمولية منها، وهى كُثر)، وأحَالهُ النظام الحالى فنّاُ رفيعاً نُفاخر به الأمم. واستمِع إلى خُطبنا وبياناتنا واستراتيجياتنا، ترى ما أرمى إليه؛ واستمع ايضاُ إلى وسائل إعلامنا المرئية والمسموعة، وما أكثرها، ترى المذيعين المتحذلقين بشعورهم التى تكاد تقطر دهناُ، والمُذيعات المتزوقات فى كامل زينتهن، يتحدثون عن "الإطلالة" و"الإضاءة"، و"الألق"، و"الوطن الباسق" ونحو ذلك مما يُحَلّق فوق رءوس العباد دون أن يمسّ دواخلهم أو همومهم. وخطورة مثل هذا الشغف "بالحَكى" أنه يقود – كما نرى- إلى تفاخر مُقعِدٍ للهِمَم، مُثبّط للعزائم، وعمى عن العيوب والنواقص، نسمعه كل يوم وليلة : "ٍٍنحن ونحن، ونحن ونحن"، ما اختزله "عيال فريق وَرَا" بالأبيّض فى شعارهم "أنحن الشوكة المدفونة، أولاد أُم ظَقْ ما بعرفونا!"، وما زلنا نُصِرُّعلى أننا خير أُمةِ أُخرجت للناس، دون أمرِ بمعروف حقيقى، أو نهىٍ عن مُنكر حقيقى!