خواطر حبشية (3): هجّت بيك أم قجّة
عوض محمد الحسن
3 April, 2015
3 April, 2015
aelhassan@gmail.com
لم أكن أستمع للراديو فى صباى إذ لم يكن لدينا آنذاك هذا الجهاز العجيب فى بيتنا ، لذلك دهشتُ حين اكتشفتُ لاحقا أننى أعرف مُعظم الأغانى السودانية بلحنها ولكننى لا أعرف من كلماتها إلا أول بيت أو بيتين. وأحياناً تطفو هذه الأغنيات القديمة (الغميسة أحياناً)، ناقصة الكلمات، كاملة اللحن، فجأة، "فأصدح" بالقليل الذى أحفظه فى حماس، ثم يقف حمار الشيخ فى أول العقبة يُدنْدنْ (أو ينهق) دون كلمات! (تسألنى زوجتى دائماً : إنت الكلام دا قاعد تجيبو من وين؟). وغالب ظنّى أن هذه الأغانى تسرّبت إلى عقلى الباطن وإلى قاع ذاكرتى أيام طفولتي من أجهزة الراديو القليلة فى بعض دكاكين ومقاهى سوق ود عكيفة بالأبيض، ومن أماكن أخرى لا أذكرها، وترسبت هناك حتى يبعثها من مرقدها ذاك خاطر أو منظر أو كلمة أو إحساس.
أتتنى، وأنا أجوس كدأبى فى أديس، اتفرّس فى وجوه المارّة الذين يملأون شوارعها وأزقتها وحواريها، أغنية قديمة أظنها من أغانى "دار الريح" فى شمال كردفان، لا أدري أين ومتى سمعتها، لا أذكر منها إلا هذين البيتين:
هجّت بيك أُم قُجّة وطالت بيك المُدّة
الزول أبْ سِنّاُ فضّة مالو السلام ما بْرُدّا
وأُم قُجّة هى الناقة، كِناية عن الرحيل، او هكذا قيل لى. ولا أدرى إن كانت الكلمات صحيحة، ولكن هذا ما التصق بذاكرتى لأكثر من نصف قرن. و"القجّة" أو "التِّفّة" -الشعر المنفوش- هى إحدى تصفيفات الشعر التقليدية لدى نساء الحبش التى ما زالت شائعة، وقد اشترك الرجال والنساء قديماً فى "المُشاط". وتُظهر الصور والرسومات القديمة أن معظم أباطرة الحبش كانوا "يُمشطون" شعرهم كما تفعل النساء (إلاّ هيلاسلاسى الذى إعتمر القُجة معظم حياته ربما لزيادة طول قامته). غير أن "المُشاط" لا يزال هو طريقة تصفيف الشعر السائدة لدى النساء فى إثيوبيا، وخاصة فى الريف الذى يُشكّل أكثر من 85% من سكان البلاد البالغ 80 مليون نسمة. وللمُشاط فى الريف مدلولات إجتماعية مُحددة عن "الحالة الإجتماعية" للفتاة وللمرأة، تُنبئك طريقة التصفيف عما إذا كانت المرأة مخطوبة أو متزوجة او مُطلّقة أو أرملة أو حامل أو أم. وقد فقد المُشاط هذه الدلالات الاجتماعية فى أديس أبابا العاصمة، وإن لم يفقد الشيوع، وأضحى مجرد موضة خالية من المعنى- إلا الناحية التجميلية الصرفة، وأصبح له تصاميم مبتكرة، وإن استندت على الأشكال التقليدية، بينما استمر في الريف بدلالاته القديمة.
التغيير فى المجتمع الإثيوبى يسير بسرعتين مختلفتين فى آن معاً، فالريف الإثيوبى شديد المحافظة على العادات والتقاليد والممارسات ( والمهارات) القديمة نسبة لكبر حجم سكانه وعزلته النسبية الطويلة وقرون من الإهمال المريع والظلم الإجتناعى والإقتصادى البيّن. المحراث الخشبى التقليدى ماركة " إنّا وجدنا آباءنا" الذى تجرّه الثيران ما زال هو السائد منذ قرون وقرون على الرغم من محدودية كفاءته فى تقليب التربة، وبالتالى أثره فى تدنى الإنتاجية، ولم تفلح التحسينات الطفيفة (والهامة) التى أدخلها بعض البحّاثة الأحباش فى تصميم المحراث والتى لا تُغير شكله ولكن ترفع كفاءته أضعافاً، فى إقناع اهل الريف بقبول المحراث الجديد ممّا يُعمِّق من أزمة الأمن الغذائى فى إثوبيا والتى هى هاجسهم الأول فى ضوء الزيادة المتسارعة فى حجم السكّان وتقلبات الطقس وقانون الأراضى الذى يُفقدك أرضك الزراعية (على صغر مساحتها) إن غبت عنها. ويعانى الريف الإثيوبى ايضاً من عادة قديمة لها خطورة بالغة ، ليس فقط على صحة المرأة ومكانتها الإجتماعية، بل على عافية إثيوبيا ونمائها، وأقصد عادة "خطف" الزوجات المتفشيّة فى الريف، الممنوعة قانوناً والمقبولة إجتماعياً. فأكثر من نصف الزيجات فى الريف ما زالت تتم عن طريق خطف الفتيات. يتربص الرجل، بمساعدة أصدقائه واقربائه، للفتيات الصغيرات فى طريقهن للمدرسة أو السوق أو الحقول، ويقوم باختطاف واغتصاب من تعجبه مما يجبر عائلتها على قبول الزواج. ولهذه العادة آثار صحية وإجتماعية وإقتصادية خطيرة على إثيوبيا. أولاً، يحدث الحمل لبعض الفتيات ولمّا يكتمل نموّهن الجسدى بعد ممّا يقود إلى تمزّق الرحم وإصابتهن بالناسور البولى، وعلاجه فى الريف هو عزل الفتاة ( نسبة لرائحتها التى لا تطاق)؛ ثانيا، أصبح الآباء فى الريف يُحجمون عن إرسال البنات إلى المدارس مما يديم الأمية السائدة بينهن، ويُقعد المرأة فى إثيوبيا عن لعب دورها فى المجتمع؛ ثالثاً، هذه الزيجات المبكِّرة جداً تزيد من معدل الولادات مما يجعل نسبة النمو السكانى تفوق بكثير نسبة النمو الإقتصادى والنمو فى إنتاج الغذاء مما يجعل حدوث المجاعات - أو "الفجوات الغذائية" كما تسميها حكومة "نَجْرْ" الكلام عندنا – أكثر تواتراً.
وفي ظنّي أن الريف الإثيوبي أكثر فقراً وأكثر محافظة من الريف السوداني، وأشد مقاومة للجديد؛ وسكان المدن والصفوة الإثيوبية (الفديمة والمحدثة) أكثر تحررا من أمثالهم في السودان وأكثر انفتاحا واستعدادا لتقبل الجديد. ورغم نظرتنا الدونية لجيراننا الأحباش إلا أنني أعتقد أن الصفوة الحبشية القديمة (بانفتاحها على العالم الخارجي وخاصة أمريكا السوداء) كان لها أثر عميق على المجتمع السوداني الحضري في اربعينات وخمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، خاصة فيما يتصل بموضات تصفيفات الشعر والازياء النسوية ونواح أخرى لا تروها، وقد استمر هذا التأثير حتى أتانا وباء الفضائيات العربية الذي "لحس" عقول النساء وجعلهن جميعا، إلا من رحم ربك، يردن بياض البشرة ونعومة الشعر والحديث بالجيم المعطّشة!!!
وكانت جلّ نساء السودان القديم "يُمشطن" شعرهن مثل نساء الأحباش، ولكن على الطريقة السودانية لزاهدة (أو الممحوقة إن أردت) التى تكتفى بالحد الأدنى دون لجوء إلى "تفانين" وإضافات وزركشة وتصاميم متنوعة مبتكرة. وكان المشاط السودانى يترك مقدمة الرأس ويجعل الباقى مُضفوراً فى سيور رقيقة، بينما تُفرق مقدمة الشعر فى المنتصف ويُسدل الشعر (أو يُمشّط) فى "مسيرتين" تُدهنان وتُموجان، وتُلَفان حول الأذنين مثلما غنى المُغنى قديماً :
"المُدلل كيف نسايرو تضوى تحت التوب مسايرو"
ولعلها كانت بداية هبوط الأغنية السودانية من قمة "الشجر أقلام والنيل مداد، وأصلو طبع الريل ديمة نافر، وهل أنت معي، والفراش الحائر"، إلى قاع "القنبلة، وراجل المره حلو حلا، وحرامي القلوب تلّب، وسجّل ليْ دهب أمّك إنشالله البلا يخمّك"، وغير ذلك مما ينقز الناس عليه فى هوس، ويدفع أهل العرس مقابله مالا يكفى لشراء كل قنابل الدنيا! كانت حفلات الزفاف فى السودان القديم تُقام داخل الحيشان وخارجها، تُضاء بالرتاين، ويغنى المغنى على مايكرفون يعمل ببطارية اللوارى السائلة. النساء على السباتة والرجال وقوفا يبحلقون ويبدلون وقفتهم لساعات وساعات. وأصبحت الحفلات الآن داخل النوادى والصالات الفاخرة والخيم الخليجية المزدانة بالأنوار الخليجية، والمليئة بالبدع الخليجية، يُغنى المغنى على "ساون سستم" يُسمع الصمّ، ويصُم السامعين! وتُلطّخ فيه النساء وجوههن بأصباغ عجيبة متنافرة تجعلك تشك في كمال العقول. يا بُشرانا، تقدمت التكنولوجيا وتأخر الذوق، والحمد لله من قبل ومن بعد.
أو لا ترى كيف يتسلل التغيير إلى حياتنا دون أن نلحظه، يزحف كالظل فى صمت وبطء، ولكن دون هواده. ننتبه ذات يوم فإذا الحال غير الحال. رحم الله الخالة نفيسة، كانت فى بداية السبعينات آخر امرأة "مُبلّمة" أذكرها، ثمّ دار الزمان وتغيرت أزياء النساء حتى داهمنا الهوس القادم عبر البحر الأحمر منذ نهاية السبعينات، والهوس المحلى المُعبأ فى نظريات الهندسة الإجتماعية منذ نهاية الثمانينات، والذى حاول (ولعلّه أفلح) فى نزع العِفة والحياء من القلوب والأعمال وجعلها فى الأزياء ومظاهر التديُّن!