كثيرةٌ هى المصائب التي أبتليت بها بلادنا منذ مجىء حكومة الإنقاذ, ومن بين أكثرها إيلاماً و ثقلاً على نفوس الناس ظهور جماعة من الوُعَّاظ المُتعالمين, الذين سوَّلت لهم نفوسهم الأمَّارة الحديث في كل شىء, من آداب الإستنجاء وحتى الفلك والعلاقات الدولية, ويقفُ على رأس هذه الفئة : عبد الجليل النذير الكاروري.
هذا "السوبرمان" فاق الشيخ الرئيس "إبن سيناء" في قدراته وتعدُّد مواهبه إذ أنه يستطيع الإفتاء في كل شىء بدءاً من ختان الإناث و الزلازل وحتى المسائل الطبية الدقيقة, ولا عجب فالرجل الذي لم يدرُس الطب يحتلُّ منصب " رئيس دائرة العلوم الطبية بالمركز العالمي لأبحاث الايمان", وهو كذلك يتربع على عرش "الجمعية السودانية للمخترعين" دون أن نرى أو نسمع عن إختراع واحدٍ له سوى ما تناقلتهُ المجالس عن "عجلته الخشبية" التي سخر منها الدكتور الترابي.
نقلت صحيفة "الصيحة" مطلع هذا الأسبوع تصريحات للكاروري حول علاقة السودان مع أمريكا, قال فيها أن ( السبب الرئيسي للحصار والمقاطعة الأمريكية المفروضة على السودان هو الاتجاه شرقاً للصين وماليزيا لاستخراج البترول وليس الإرهاب كما تدعي الولايات المتحدة ). إنتهى
يظنُّ الكاروري – وبعض الظن إثم – أنَّ على رؤوسنا "قنابير" حتى نصدِّق حديثهُ المتهافت هذا, فالمقاطعة التجارية والإقتصادية الأمريكية التي فرضت في العام 1997, جاءت بعد سنوات عديدة من فتح النظام السوداني أبوابه لجميع الحركات المتطرفة في العالم, فالكل يعلمُ الآن أنَّ أسامة بن لادن وأيمن الظواهري , وتنظيمات الجهاد والجماعة الإسلامية المصرية كانت تسرح وتمرح في الخرطوم بعلم الكاروري وحكومته.
وكذلك وقعت مقاطعة واشنطون للخرطوم بعد تبني الأخيرة, التي كان يقودها فعلياً حينها الدكتور الترابي, لنهج التدخل في دول الجوار بهدف تغيير الأنظمة الحاكمة فيها, ومن ذلك دعم تنظيم الجهاد الأريتري, ومحاولة إغتيال الرئيس المصري حُسني مبارك في أديس أبابا, وغير ذلك من الأدلة والشواهد الكثيرة على ضلوعها في دعم الحركات المتطرفة.
الحصار الأمريكي إذن كانت له مبرراته الموضوعية, والتي ليس من بينها إتجاه السودان للصين وماليزيا لإستخراج البترول, فالخطوة الأخيرة جاءت بعد ان إستنفذت حكومة الإنقاذ جميع جهودها وحيلها لتحسين العلاقات مع أمريكا "التي قد دنا عذابها" دون جدوى.
ثم يواصل الكاروري في حديث الخرافة فيقول أنَّ : ( الإنقاذ إتجهت شرقاً وأنتجت البترول في ظل الحرب، عندها خاف الأمريكان أن يصبح السودان دولة قوية ومهددة مثل ايران، لأنَّ أمريكا تعلم أن السودان دولة عربية وإسلامية وإذا أنتج البترول سيصبح دولة عظمى ). إنتهى
في البدء نقول أنَّ المُقارنة بين السودان وإيران معدومة في كل شىء, في الوزن الإقليمي والعمق الحضاري والموقع الجغرافي والتطور الإجتماعي, وعلى الرغم من كل هذا فحقائق الأمور تقول أنَّ إيران لم تشكل في يومٍ من الأيام تهديداًجدياً لمصالح واشنطون في المنطقة, وفوق كل هذا فإنها في خاتمة المطاف لم تجد بُداً من التصالح مع "العم سام" بعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف من القطيعة بعد أن انهكها الحصار الأمريكي.
هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإنَّ القول بأنَّ السودان دولة "عربية إسلامية", هكذا بهذه الصورة الحاسمة قد كان هو أس البلاء و المشاكل التي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم, فعندما فُرض الحصار الأمريكي كان ثلث سكان السودان ليسوا عرباً ولا مسلمين, والآن هناك نسبة كبيرة من السكان ليست لها صلة بالعروبة بالطريقة التي يتحدث عنها الكاروري كما أنَّ غير المسلمين لهم وجود معتبر في السودان.
ومن جانب ثالث, فإننا نسألُ هذا الرجل الهُراء ( كَثِيرُ الْكَلاَمِ بلاَ مَعْنى) أن يدلنا على بلدٍ مسلمٍ واحدٍ ظهر فيه البترول فصيَّرهُ دولة عظمى ؟ بالطبع لا يوجد, فجميع البلاد الإسلامية الغنية بالبترول ما تزال ضمن دول العالم المتأخر, ولا توجد على ظهر البسيطة دولة إسلامية عُظمى واحدة ذلك لأنَّ الثروات وحدها لا تصنعُ الدول الكبرى.
أمَّا الحقيقة الفعلية المؤلمة التي تحاشاها الكاروري فهى أنَ السودان بالفعل أنتج البترول دون مساعدة أمريكية فهل صار دولة عظمى ؟ و كيف تصرَّفت الجماعة الحاكمة في العائدات الضخمة التي جلبتها هذه الثروة ؟
هذا هو مربط الفرس, هل تمَّ صرف أموال البترول على البحث العلمي والتعليم والبنية الأساسية والصحة حتى نستطيع التباهي بأنَّ بلدنا سار على الأقل في طريق التنمية الإقتصادية والبشرية دعك من "الجعجعة" الفارغة ( جعجع الرَّجل إذ علا صوته بوعيد لا يستطيع إنجازَه) والحديث عن أننا سنصبح دولة عُظمى ؟
معلومٌ أنَّ هذا لم يحدث, بل أهدرت مليارات الدولارات في الصرف البذخي على "غابات الأسمنت" التي شُيِّدت دون خدمات حقيقية من صرف صحي وكهرباء ومياه وطرق مسفلتة, ثم هى تسربت إلى "جيوب" القطط السمان من أصحاب "الكروش" المُترعة والأيادي الناعمة والشالات الناصعة البياض, كما ذهب بعضها لتمويل الحروب العبثية التي لا تنتهي.
هذه هى حقائق الأمور دون تضخيم أو مزايدة, وعلى الكاروري وجماعته أن يتركوا مثل هذه "النفخات" الكاذبة والعبارات الطنانة عن "الدول العظمى" فنحن بلدٌ يموت فيه الناس من سوء التغذية, وينسرب التلاميذ من المدارس ليدخلوا مجبرين لسوق العمل لأنهم فقراء, نحن بلدٌ يفرحُ الناس في أغلب مناطقه عندما يجدون الماء الصالح للشرب أو الكساء النظيف الذي يستر عوراتهم, فعلينا ان نتواضع ونواجه الأمور بواقعية.
إنَّ الإصرار على ترديد الشعارات الجوفاء, وتحميل الآخرين السبب في حصارنا و تخلفنا وتراجعنا كما يزعم الكاروري لن يُجدي نفعاً, فالسودان ليس حامي حمى الدين, وهو ليس أكثر إسلاماً من مصر أو سوريا, ولسنا أكثر عروبة من السعودية أو العراق, نحنُ بلدٌ ممزَّق وشعبٌ فقير, ينبغي على من أراد حكمه أن يُركز على إطعام أهله من الجوع وتأمينهم من الخوف والحروب والنزوح وتحريرهم من القيود.
النهضة الحقيقية تبدأ بتحرير العقول, وتطوير العلوم والمعارف, وتمكين النظام السياسي الذي يضمن تداول السلطة سلمياً, وبخلق المناخ الذي يشجع الإبتكار والإختراع - بالطبع ليس المقصود هنا الكاروري و عجلته الخشبية - ولكننا نتمنى أن نرى في بلادنا أشخاصاً مثل "بيل غيتس" و "ستيف جوبس" يغيرون مجرى التاريخ بعبقريتهم.
كذلك يتوجب على الكاروري وأمثاله مَّمن نصَّبوا أنفسهم قادة "للرأي العام" عنوة و برغم أنف الناس في زمن الغفلة الذي نعيشه أن يتوقفوا عن أحاديثهم وخطبهم المُضللة التي لا تفعل شيئاً سوى "إغلاق العقول" و تكريس الخمول وبيع الأوهام.