شيخ ادريس بركات نموذجا: رجال يمشون في الظلام

 


 

 

 

د. عبدالله جلاب

جامعة ولاية اريزونا

Abdullahi.gallab@asu.edu

عاش شيخ ادريس بركات حياته العامرة في هدوء تام. مارس مهنته التي أحب ووهب لها حياته في هدوء عجيب. وخرج منها في هدوء نبيل. وانتقل الى جوار بارئه يوم السبت الموافق الخامس من سبتمبر ٢٠١٥ في هدوء جميل. لذلك فقد كان شيخ ادريس لكل الذين يعرفونه و الذين عاشوا معه او زاملوه شخصا سمحا في كل ما قضى وما اقتضى. فقد كان نموذجا للبعض الذي كان حتى في "العصور المظلمة" كما يقول بريتولد برشت يمشي بأشكال وخطى مختلفة ليهب حياة الآخرين بعض شيئ من قبس من ضياء وسط ذلك الظلام. 

لقد التقينا وشيخ ادريس في مجال الصحافة في وقت هو من اصعب الأوقات للصحافة والصحفيين. تجربة أخذت أقبح ما أتت به الشموليات القائمة وقتها جوارا وشرقا. جمعتنا ما سميت وقتها دار الرأي العام في بداية عهدها بعد التأميم والمصادرة للصحف. جئنا الي تلك الدار والى تلك التجربة من مناطق صحفية مختلفة ومشارب وتجارب حياتية ومهنية بعضها متباين وبعضها متفق. شريف طمبل وحسن مختار ومحمد علي محمد صالح وفؤاد عباس وطلحة الشفيع وشيخ ادريس بركات وإبراهيم محمد ابراهيم واحمد محمد الحسن وعلي حمد ابراهيم من جريدة الصحافة وتوفيق صالح جاويش ومحمد سعيد محمد الحسن وحسن نجيلة ومحمد المشرف خليفة وزين العابدين ابو حاج وعثمان علي نور من جريدة الرأي العام. وعبدالرحمن احمد من وكالة نوفوستي واخرين من وكالات اخر منهم عثمان عقيلي كما جاء بعد حين عمر مصطفى المكي لفترة قصيرة ومحمود بابكر جعفر وسعيد احمد خير ومحمد الخليفة طه الريفي من دور اخرى وتجارب صحافية مختلفة. هذا و قد كلف جمال محمد احمد بان يكون مديرا عاما للدار. لقد كان الرجل بارعا في فنون الكتابة ولكنه بلا خبرة او تجربة في مجال الصحافة.

لقد دخلنا جميعا تلك التجربة بدرجات متفاوتة من التوجس والخوف من المجهول. خاصة وقد كان هناك فينا من ظل  على عدم اتفاق مع مبدأ الانقلاب وتوجه ومسلك النظام الذي فرض نفسه من واقع الانقلاب. كان لطلائع ابادماك على سبيل المثال وهي الجهة التي كنت انتمي اليها المبادرة في استنكار امر تأميم الصحف. لا يعني ذلك انها الجهة الوحيدة في ذلك الاتجاه وإنما كانت هي المبادر في مجال تنظيمات الآداب والفنون في اعلان رايها.  اذ جاء بيان ابادماك  واضحا في استنكاره لتأميم الصحف وان كان غائما بعض الشي في امر ربط ذلك الاستنكار ربطا محكما بالحريات الصحفية وعلاقتها بالحريات السياسية والفكرية. وذلك امر ناتج عن عدم تعمق معارفنا وقتها في فقه الحريات. وان كنّا صغارا في السن والتجربة الا ان روح البيان ذلك كانت متسقة مع ما صدر عنا من قبل بشأن مبدأ الحريات والخطاب المواجه للعنف من أين أتى سواء ذلك الذي واجه حفل الفنون الشعبية في جامعة الخرطوم  او محاكمة محمود محمد طه الاولى التي يسميها الجمهوريون محكمة الردة الاولى او نفي السياسيين المعارضين للنظام.

فمهما يكن من امر فان تجربة التأميم والمصادرة للصحف كانت في معناها وفحواها مصادرة للراي وتعطيلا للحوار الوطني. وعلى الرغم  من ما كان من امر صحافة ما قبل التأميم واوجه ضعفها المهني وقصورها التكنولوجي الا انها كانت منابر مفتوحة للكتاب والمثقفين والسياسيين ومكانا رحبا بالافكار التي كان يجود بها مجتمع الفكر والسياسية. نعم وقد كان ذلك بمقدار. هذا من جهة ومن جهة اخرى فقد كانت الذاكرة الجمعية للصحافيين والكتاب والمثقفين الذين كانوا عماد المساهمات المكتوبة في معظم ما يرد في الصحف، حاضرة وذاكرة لكل ما حاق بالصحافة والصحافيين والراي من جراء الرقابة والرقيب إبان عهد عبود. غير ان تأميم الصحف وما تم بعد ذلك من تقييد الصحافيين كان بمثابة ما هو اكبر خطرا مما حدث إبان تلك الحقبة العسكرية الاولى التي سبقت. لقد انتقل بموجب التأميم والمصادرة  امر إدارة العمل الصحفي بمجمله من إدارة وملكية حرة تقوم على المهنية ورواج او حجب يقوم على تقدير القارئ لما تأتي به تلك المهنية كل صباح، باعتبار ان التوجه العام للصحيفة يقوم على احترام حق القاري او المواطن في ان يعرف ما يدور من حوله. لقد تبدل الحال  الى إدارة تقوم على رقابة قابضة قامعة اساسها ان يعرف ذلك القارئ او المواطن ما يريده له النظام ان يعرف. من ذلك لابد ان يكون كل صحفي متهما بجريرة التواطؤ مع قارئه حتى يثبت ولاءه للنظام وذلك بشكل يومي.

لم يطل الوقت لتجد جماعة الصحفيين وقتها ان لذلك التوجس والخوف الذي كان قد شعر به البعض مما يمكن ان يحدث من  التأميم والمصادرة له ما يبرره . فقد عزل بصورة تعسفية عبدالرحمن احمد من رئاسة تحرير الرأي العام الأسبوعية مباشرة بعد صدور عددها الاول. وابتدر د. محي الدين صابر اتهام جريدة الصحافة بالعداء للثورة لانها قدمت نقدا للسلم التعليمي الجديد. ولحقت لعنة بيارة السوكي المنهارة كاتب القصة الإخبارية احمد بقائد لتطارده وتطرده من وظيفته في احد وكالات الامم المتحدة في الخرطوم. ومن ثم توالت تيارات الاتهام والاستدعاءات للصحفيين وموجات الفصل والحبس والعزل. ومن نتيجة ذالك بدا ذلك الشعور بالخوف والخطر يلاقي اي من العاملين في مجال الصحافة فردا اذ ان هناك عيونا خارج الدار الصحفية لها "يد فراسة وفم". وقتها احيى شيخ ادريس فينا تقليدا عهدناه في دار الأيام قبل التأميم والمصادرة فقد كانت تجمعنا بيوت بشير ومحجوب ومحجوب في حميمية وفرح. غير ان ما بدر من شيخ ادريس وتبعه من بعد زملاء اخرين أمثال توفيق صالح ومحمد الحسن احمد من بعد كان فيه بعض  التاكيد لروح الجماعة تجاه تيار القلق والخوف الذي بدا يدب ويتمدد.  وسواء قامت تلك المبادرات عن وعي او بصورة تلقائية فقد كان في ذلك بادرة هامة تجاه ما اخذ يتغلغل من الخوف في روح الصحفي كفرد ليصبح هو الرقيب الداخلي الذي عليه ان يتحكم هو بذاته في دواخله ويقود أداءه الكامل من ذلك المنطلق بحثا عن الأمان. وأصبح الوزراء والمسؤلين اكثر خوفا على مواقعهم من ما يمكن ان تأتي به الصحف عن أدائهم. ومن ثم اصبح السبق الصحفي ما لم يأتي الخبر من او عن الرئيس القائد مسالة يحفها الخطر. وأصبح رئيس الجمهورية هو القارئ الأوحد للصحيفة الذي ترجى شفاعته و رضاءه. لذلك فقد ظلت والحال كذلك تذهب الصحيفة اليه في مقره قبل الفجر اي قبل صدورها وتوزيعها. ومن هنا أخذت شائعات كثيرة عن تصرفات نميري وعنفه تجاه وزرائه. وقد ازداد الوضع تعقيدا بتطور وكالة السودان للأنباء (سونا) لتصبح هي المصدر الاول للخبر. ودار التوزيع المركزي لتصبح هي الجهة الوحيدة التي تتحكم في توزيع الصحيفة.  ومن ثم أخذ الوزراء يدفعون بأخبارهم للوكالة وتنتظر الصحف صدور نشرة الوكالة وينتظر الرئيس الإعداد الاولى التي تطبع من الصحيفة لترسل له في مكان إقامته.

في ظل ذلك الوضع المعقد بدأت الصفحة الاولى للصحيفة هي الأكثر بؤسا وتكرارا في شكلها ومحتواها تتصدرها كل يوم صورة الرئيس القائد وما تجود به الوكالة من اخبار اخرى. ولعل من اهم ابتكارات ذلك العصر ان حول الريفي الصفحة الاخيرة الى البديل للصحافة الاولى من حيث "المقروئية". اصبح القارئ يبدأ يومه بها ولا يهتم بما عداها الا في إطار اخبار الرياضة والفنون والأخبار العالمية. ومن بعد جاء محمد سعيد محمد الحسن بما اسماه بالاستراحة وراج باب الدكتور محمد عبدالله الريح حساس محمد حساس رواجا كبيرا. ليكون في ذلك بديلا موضوعيا للذي كان يمكن ان ينتج من الخبر من تحليل سياسي او رأي. وبتطور ذلك الوضع اصبح هناك للتحليل السياسي والراي  مصدرا اخرا وهو شخصية غامضة أسمت نفسها بالمحلل السياسي يكتب تحليلا سياسيا ظل تسلل ببطء  من جريدة القوات المسلحة لينشر في الصفحة الاولى لواحدة من الصحيفتين--الأيام والصحافة--وتتم قراءته من بعد كاملا  في الإذاعة.

 وقتها وبذات الهدوء الذي ميز حياة شيخ ادريس وجد بل عثر شيخ ادريس المخبر لنفسه مكانا أثيرا ظل على علاقة به منذ وقت طويل وهو ما يتعلق بالمجال الدبلوماسي وما يمكن ان يأتي من وزارة الخارجية. استطاع بحنكة ومعرفة بمصادره القديمة والمتجددة ان يتبوأ لقب المخبر الدبلوماسي. غير ان الذين استطاعوا ان ينفلتوا من ضيق قفص ذلك الزمان الحديدي الذي ضرب على العمل الاخباري للصحف والصحفيين قد ظلوا أقلية وقد دفع البعض ثمنا غاليا لذلك. فعلى سبيل المثال فقد استطاع وبحنكة مماثلة ادريس حسن وهو من خيرة مخبري زمانه بان يخرج بالخبر من دائرة الجمود تلك الى شي من الحيوية القائمة على سبر خلفيات ابعاد وموضوع الخبر. غير الامر لم يدم له فقد بطش بالرجل بطشا لا هوادة فيه وعندما تقدم زملاؤه من أعضاء النقابة باحتجاج غاية في التهذيب تمت إذاعة بعض اجزاء ذلك اللقاء غير ان الرد الرسمي على ذلك كان في كون ذلك الإجراء العبرة للآخرين ولمن يعتبر من مغبة الاجتهاد في البحث عن ابعاد وخلفية الخبر. لقد كان بدرالدين سليمان مساعد الأمين العام للاتحاد الاشتراكي وقتها أمينا معنا حين قال بانه لا يستطيع ان يعد الصحفيين ضمانا ضد العزل اذ انه كمساعد للامين العام للاتحاد الاشتراكي لا يضمن لنفسه استمرارا في كرسيه ذلك ليوم غد. من كل ذلك وفي ظل ذلك تمددت ظلال جمهورية الخوف. 

كان شيخ ادريس بركات من أعمدة جريدة الصحافة قبل التأميم. فهو من الذين عملوا بجهد مع عبدالرحمن مختار صاحب الجريدة ومؤسسها منذ الأيام الاولى للجريدة ووكالة افريقيا. وقد كانت جريدة الصحافة قد أخذت تخرج ببطء من ثوب جريدة الاخبار المصرية الذي اختاره لها مؤسسها لتضم رعيلا جديدا من الصحفيين على رأسهم محمد علي محمد صالح ومحمود محمد مدني وسيداحمد خليفة ومحمود ادريس ومبارك الرفيع وطلحة الشفيع. وتستقطب كتابا غير مداومين من أمثال صلاح احمد ابراهيم وعمر مصطفى المكي وامال عباس وإبراهيم دقش. وتتجاوز صحافة الإثارة التي بنى عليها عبدالرحمن مختار بداية انتشار صحيفته من أمثال قتيله الشنطة وشارع الأربعين تمثلا بكتابات مصطفى وعلي أمين الى انواع جديدة من انواع التحقيق الصحفي مثل موضوع الاراضي الذي سميت فيما بعد بحي الصحافة تقديرا للدور الذي لعبته الصحيفة واحد شباب محرريها سيداحمد خليفة  في ذلك الامر. كان من الممكن ان يتبوأ شيخ ادريس منصبا يتناسب وتجربته الصحفية ومقدراته المهنية لولا تقديره بان ينأى بنفسه من الجو الذي ساد من واقع تجربة التأميم وما لحق بالمهنة وجوها العام من أشكال جديدة جدا من التكتلات والصراعات حول بعض المواقع والدخول والخروج من مجالاتها. قليلا قليلا اصبح احد مستجدات الأمور كيف يقدم البعض أنفسهم للنظام قبولا ويتحول ذلك القبول الى صعود في سلم الوظيفة.

ما كان ذلك ليكفي.

لقد كانت مايو تشبه كثيرا مثيلاتها من نظم شمولية في الوسط العربي الأفريقي وما بعدها من نظام شمولي لاحق في السودان في أشكال وتنوع الصراعات بين الجماعات والافراد المتطلعة للاحتلال مواقع او الحفاظ على اخرى في ظل النظام. لم يكتف بعض أولئك المتصارعين والطامعين باحتلال بعضهم رئاسة او عضوية مجالس إدارة الصحف بل ذهب البعض الى احتلال رئاسة التحرير وكتابة افتتاحية الصحيفة المطولة في الرد على أمثال "القصير بلاع الطوال" لقد طفح الكيل وانكشف بعض ما كانت تحاول الشمولية وضع غطاء عليه.

غير ان هنالك من مشى ايضا في ظلام الشمولية بخطى اخرى وفي اتجاه اخر. لقد استطاع بونا ملوال والن داربي والسر سيداحمد تقديم نموذج اخر لعمل صحفي اخر مميز في مجلة سوداناو. لقد انتصر بونا ملوال الصحفي على بونا ملول وزير إعلام النظام ببسط جناحه المهني ليستظل به جيل جديد من الصحافيين والصحافيات من السودانيين ليجدوا في أنفسهم ما اهلهم مهنيا لتقديم عمل صحفي يمكن ان يعتد به. ان الذين يفسرون نجاح سوداناو لمجرد انها كانت صحيفة انجليزية لا اعتقد انهم قد فهموا بعد علاقة العمل الصحفي بالحريات. فقد وجدت سوداناو وصحافييها في بونا ملوال الوزير ما طلبناه ذات يوم من بدرالدين سليمان مساعد الأمين العام  ولم نجده منه. لقد ترك السر سيداحمد في قمة مجده الصحفي الصحيفة وهي في قمة مجدها ايضا عندما لمس تدخلا غير مقبول من قبل النظام بعد ان ترك بونا الوزارة. في لحظة تاريخية اخرى استطاع فتح الرحمن محجوب المثقف ذو الخلفية القانونية ان يمشي بسوداناو في الظلام بخطى ثابتة حافظت فيها على بريقها.

نعم ان الشموليات ستظل تبني على ما تصنع هي ومن قبلها من ظلام وعنف ولكن يظل هناك من الرجال والنساء الذين يمشون في مثل ذلك الظلام عسى ان يهبّوا حياتنا قبسا ولو ضئيلا.

لك التحية حيّا والرحمة ميتا شيخ ادريس بركات صديقا وزميلا واخا فقد كنت واحدا من أولئك الذين كانوا يمشون في الظلام.

abdullahi.gallab@asu.edu

 

آراء