ما هي أسباب الحملات العسكرية المصرية على السودان في الألف 3 ق م
رأينا كيف كانت الصلات والقواسم المشتركة بين سكان السودان في البدايات المبكرة من تاريخنا القديم، وتوصلنا إلى أن تلك الثقافات والحضارات المبكرة أدت إلى قيام مملكة تاستي في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. ورغم شح المعلومات نواصل البحث عن تاريخ السودان في المرحلة التي تلت الثقافات المبكرة. والباحث في تلك الفترة - وبخاصة في المناطق غير المجاورة للنيل - يعاني من شح المعلومات لأن التنقيب عن الآثار لم يغط إلا القليل جداً من تلك المناطق. وما توفر من معلومات أتى من المصادر المصرية القديمة.
تبدأ هذه المرحلة بقيام أول مملكة سودانية في تاريخ السودان القديم. وقد تعرفنا في الحلقة السابقة على الثقافة التي أطلق عليها الباحثون الغربيون اسم "المجموعة أ A-Group"، قامت في منطقة ما بين حلفا وأسوان وورثت الثقافات والحضارات السودانية القدية. وذكرنا أن هذه هي المنطقة والثقافة قامت عليها مملكة تاستي في آخر الألف الرابع قبل الميلاد كأول مملكة عرفت في تاريخ السودان القديم، والتي يرى الباحثون أنها انتهت نحو 3100 أو 3000 ق م.( Jane Roy,The politics of Trade: Egypt andNubia in the 4th Millennium BC. p 19, 46) وقد تعرفنا على هذه المملكة في موضوع سابق في موقع سودانايل
وليس غرضنا من هذا العرض السريع البحث في التاريخ السياسي أو الحضاري لهذه المرحلة، بل الغرض منها السعي- بما تيسرمن معلومات - لرسم صورة شاملة ومترابطة لتراث أجدادنا القديم وربطه بما قبله وبما أتى بعده للتعرف عليه وتعزيز ارتباطنا به عبر امتداده الزماني والمكاني. وسنحاول فيما يلي التعرف على بعض أوضاع أسلافنا سكان السودان القدماء ومواقفهم المبكرة أما الأطماع المصرية في السودان.
لم يذكرر الباحثون مملكة سودانية أخرى بعد مملكة تاستي حتى قيام مملكة كوش الأولى. فإذا اعتبرنا أن مملكة تاستي قامت في المرحلة المتأخرة (الكلاسيكية) من مراحل المجموعة أ نحو القرن 33 ق م فإن الفترة الزمنية بين مملكتي تاستي وكوش يبلغ نحو 800 سنة. فهل لم ينجح السودانيون من تأسيس مملكة أو ممالك طيلة هذه الفترة مع غزارة ماراينا من تراث تقافي وحضاري مبكر في أنحاء السودان المختلفة؟
في واقع الأمر لا تساعد الآثار المكتشفة في السودان على الاجابة على هذا السؤال، وكما نعلم فأن التنقيب عن الآثار يكاد ينعدم في أغلب مناطق السودان . ولكن توجد بعض المعلومات في المصادر المصرية القديمة،عن الحملات العسكرية المبكرة المتتالية على مناطق السودان الواقعة على حدود مصر الجنوبية تمكن من إلقاء بعض الضوءعلى الأوضاع في تلك الفترة.
يرى أغلب المؤرخين أن نهاية المجموعة أ (مملكة تاستي) أتت في عصر الأسرة المصرية الأولى ربما بسبب حملة الملك مينا أول ملوك الأسرة.( J. H. Breasted, History of Ancient Egypt. P 36) وتواصلت الحملات العسكرية المصرية على السودان في عصر الأسرة الثانية كما ظهر فيما تبقى من لوحة النصرللملك خع سخم من ملوك الأسرة الثانية تظهر فبها بوضوح "صورة العدو المقهور على أمره وعلى رأسه العلامة الدالة على لفظة "ستي"، كما ذكر سليم حسن أنه ربما شيد ملوك الأسرة الثالثة حصون في منطقة الفنتين، لتعبئة الجنود وحراسة الحدود.( سليم حسن، تاريخ السودن المقارن ص 15)
ثم تأتي الحملة الكبرى التي قام بها سنفرو - والد خوفو مؤسس الهرم الأكبر - في عصر الأسرة ال رابعة في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد والتي ذكر فيها أنه "دمر بلاد السود وأتى بـ 7000 أسير من الرجال والنساء و 200000 ألف رأس من الماشية الصغيرة والكبيرة. وتشير هذه الأرقام - رغم ما قد تتضمنه من مبالغة - على الكثافة السكانية والثروة الحيوانية الكبيرة للمناطق التي وصلها الجيش المحارب. كما يبدو معقولاً أن يكون الجيش قد خاض أكثر من موقعة ومع أكثر من منطقة للحصول على تلك الغنائم.
ويرى المؤرخون أن السبب الرئيس وراء تلك الغزوات هو الوصول إلى مصادر ثروات السودان المتنوعة مثل الذهب والثروة الحيوانية والغابية غيرها، وكان لا بد من إنشاء الكثير من القلاع على النيل لحماية تلك الطرق.وعلل أحمد فخري أساب غزوة مينا قائلاً: "يدل ذلك على اهتمام ملوك الأسرة الأولى بتأمين حدود مصر الجنوبية وفتحهم المنطقة الواقعة جنوب الشلال الأول من أجل التجارة" (أحمد فخري، مصر الفرعونية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية 1960 ص 79) وأكد سليم حسن (تاريخ السودان المقارن ص 120) ذلك قائلاً: "كان هم المصري في بلاد النوبة منحصراً في استغلال مواردها الغُفل وبخاصة مناجم الذهب ... وكان على المصري للحصول على ذلك إما أن يستغل النوبي بطريقة منظمة فيستولي على ما في يديه من مواد غفل باعتبارها ضريبة يدفعها له، أو كان يعمل بالتعاون معه لاخراجها، أو على الأقل كان لا يُمنع من الحصول على هذه المنتجات "
ومن ناحية أخرى فإنه لم يكن لمصر مجال للتوسع بعيداً عن النيل، فكان النيل هو المجال الحيوي لمصر القديمة. وكان اتصالها بالصحارى المحيطة بالنيل محدوداً إن لم يكن معدوماً وبخاصة داخل الصحراء الشرقية للنيل. فكان النيل جنوباً - ولا يزال - هو حلم مصر في التوسع. ولكن تمكن السودانيون من التصدي لذلك الخطر المتواصل لمدة اثنتي عشرة قرناً من الزمان، من عصر الأسرة الأولى وحتى الفترة الأخيرة من عصرالأسرة السادسة. ولم يتحقق حلم مصر فس التوسع جنوب أسوان في تلك الأوقات إلا لوقت قصير وفي منطقة شمال حلفا فقط في القرن العشرين قبل الميلاد.
وقلّتْ حدة العداء بين الطرفين في عصر الأسرة السادسة، وبدأ المصريون في تغييرسياستهم الحربية واتجهوا نحو العلاقات السلمية لتحقيق مصالحهم بإقامة العلاقات الودية مع السودان. وقد ورد أخبار تلك العلاقات في الآثار التي خلفها القادة العسكريين والمبعوثين الرسميين من الدولة في أواخر عصر الأسرة السادسة.
والسؤال هنا هو إذا كانت مملكة تاستي قد انتهى وجودها في عصر الأسرة الأولى، فمع من كانت حروب المصريين التي دامت في عصر الأسر من الثانية وحتى السادسة خاض خلالها المصريون عدداً كبيراً من المعارك الحربية ؟ من البديهي التسليم بأنه كانت هنالك قوى منظمة سياسياً وعسكرياً - قبل قيام مملكة كوش - مكنها من الدفاع عن أرضها لعدد كبير من القرون. وأخيراً أجبرت المصريين إلي تغيير سياستهم الحربية بعلاقات ودية مع تلك القوى التي أطلقت عليها الآثار المصرية اسم الممالك والامارات، التي ستكون موضوع مقالنا التالي.
ahmed.elyas@gmail.com