تناولنا في مقالنا السابق تطور الأنظمة السياسية في السودان بعد نهاية الاحتلال المصري للسودان وقيام الأسرة النبتية بإعادة الحياة لمملكة كوش وتوحيد السودان تحت قيادة مملكة كوش الثانية. ونتابع هنا العلاقات بين السودان ومصر في هذه المرحلة.
احتلال مملكة كوش الثانية لمصر
امتدت حدود مملكة كوش الثانية في عصر أول ملوكها الملك كاشتا (760 - 751 ق م) شمالاً داخل الحدود المصرية حتى طيبة في منطقة الأقصر الحالية، وأكمل بعانخي الذي خلف والده كاشتا على عرش كوش السيطرة على مصر، فامتدت حدود السودان شمالاً على وادي النيل حتى البحر المتوسط.
ولم يكن الاحتلال السوداني لمصر مثل احتلالها للسودان في عصر الأسرة الثانية عشرة في القرن العشرين قبل الميلاد وفي عصر الدولة الحديثة بين القرنين الخامس عشر والحادي عشر قبل الميلاد حيث قام المصريون باستغلال ثروات البلاد الزراعية والمعدنية والحيوانية والسلع التجارية بشتى الوسائل، وأرهقوا المواطنين بالضرائب طيلة فترتي الاحتلال. وساد عدم الاستقرار وتحركات السكان بسبب الحروب الدائمة. فقد دام الصراع بين البلدين نحو 1700 سنة من جملة عمر مصر الفرعونية البالغ نحو 2100 عام (بين القرنين 32 - 11 ق م).
أدت نتائج ذلك الصراع والحروب لقرون كثيرة إلي تعطيل وتحجيم التطور السياسي والاقتصادي في السودان، فعاش السودانيون في امارات وممالك صغيرة لم تتمكن من تحقيق وحدتها إلا بعد نهاية العصر الفرعوني بإعادة الأسرة النبتية الحياة لمملكة كوش، فوحدت دولة كوش الثانية بعض مناطق السودان في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد.
وإذا نظرنا بصورة عامة إلى العلاقات بين السودان ومصر في عصرها الفرعوني (21 قرنا) نجد أن نسبة الصراع والحروب قد بلغت 81% من جملة العلاقات بين البلدين. ولننظر فيما يلى إلى بعض نماذج الضريبة التي كان ملوك مصر يتحصلون عليها من السودان.
الضريبة في إحدى سنوات حكم امنحتب الثاني في أواخر القرن 15 ق م، وجد النقش في معبد قصر ابريم. كميات الصريبة مقدرة بحسب حامليها. جاءت كالآتي: (سليم حسن، مصر القديمة ج 10 ص 405) 1. 200 من الرجال محملين بـ ... الكلمة التي تبين نوع الضريبة أصابها التلف في النص. 2. 150 من الرجال محملين بالذهب 3. 200 من الرجال محملين بجماجت (مادة حمراء وجدت في مقابرالملوك) 4. 250 من الرجال محملين بسن الفيل 5. 1000 من الرجال محملين من الأبنوس 6. 200 من الرجال محملين بكل رائحة حلوة من أرض الجنوب 7. 50 من الرجال محملين بخشب ...؟؟ 8. 10 من الرجال حاملين فهود حية 9. 20 من الرجال محملين بكلاب صيد 10. 400 من الرجال محملين بثيران من نوع " أوا " ونوع " أنجو"
يلغ عدد الرجال الحاملين للضريبة لسنة واحدة 2480، ولنا أن نقدر حجم المواد الضريبة المفروضة. وهنالك مثال آخر لضريبة الذهب التي وصلت من أقليم واوات (بين حلفا واسوان والذهب من منطقة وادي العلاقي) في عهد الملك تحتمس الثالث نحو منتصف القرن 15 ق م، وهذه بخلاف ضريبة ذهب أقليم كوش الذي يقع جنوب حلفا, (سليم حسن،ج 10 ص 407) 1. السنة 34 من حكم الملك وصل2554 دبناً = 232.4 كيلو جرام 2. السنة 38 من حكم الملك وصل2844 دبنا = 258.8 3. السنة 41 من حكم الملك وصل 3144.4 = 286.1 4. السنة 42 من حكم الملك وصل 2374.1 دبنا = 216 كج
وبالعكس تماما من احتلال السودان لمصر، فقد أدى اختلال السودان لمصر إلى إعادة الاستقرار بعد التردي الذي وصلت إليه الأوضاع الأمنية والاقتصادية بعد نهاية حكم الدولة الحديثة، فتحسنت أوضاع البلاد. وقد تناول سليم حسن في مقدمة الجزء الحادي عشر من كتابه مصر القديمة وفي أماكن أخرى داخل الكتاب إنجازات الحكام السودانيين في مصر. فذكر أنهم قاموا بنهضة قومية شاملة في مصر وكانت بداية طيبة "لآخرمحاولة في العصور القديمة لاسترداد عزة مصر وكرامتها" كما عبر بذلك في مقدته.
فالنهضة التي تنسب عادة للأسرة المصرية السادسة والعشرين كانت قد بدأت فعلاً في عهد الأسرة السودانية الخامسة والعشرين. فقد أدخل ملوك كوش كما عبر سليم حسن (ج 11 ص 78) "على البلاد قوة جديدة من حيث الفنون الحربية والفنية والأدبية والدينية، بل والفلسفة الحقيقية التي لم نرها ممثلة في مصر القديمة حتى هذا العهد" يقصد عهد الحكم السوداني.
ويواصل سليم حسن قائلاً: "فقد وضع بعانخي خططاً جديدة في فنون القيادة الحربية لم نسمع بمثلها من قبل ... وأظهر في نقوشه من التقى والصلاح والإيمان ما جعله يوكل كل أعماله على خالقه ... ونلحظ في كل أعمال هذا الملك الميل إلى القيام بنهضة جديدة في كل مرافق الحياة المصرية. على أن ما جعل لهذه النهضة قيمتها العظيمة هو أن الملوك [السودانيين] الذين خلفوه ساروا بها سيراً حثيثاً ... ولا نزاع في أن أخاه الأصغر الملك شبكا قد شجع هذه النهضة تشجيعاً محسوساً"
فقد قام الملك شبكا بعمل جليل يتعلق بحفظ نصوص تمثيلية بدأ الخلق التي - كما عبر سليم حسن ج 11 ص 79 "تعتبر أقدم مسرحية ظهرت في تاريخ الانسان حتى الآن" ويوضح ذلك قائلاً: "وصل إلينا في عهد الملك شبكا المتن الحقيقي لوثيقة يقال إنها دونت في عهد بداية الاتحاد الثاني لمصر أي في عهد الملك مينا ... وعلى السطر المنقوش على قمتها يوجد اسم الملك شبكا الكوشي" ويوضح أن جلالة الملك شبكا جاء في النص: "أمر جلالته نقل تلك الكتابات من جديد ... فقد وجدها جلالته قد أكلها الدود حتى لا يمكن قراءتها من البداية حتى النهاية. ولذاك قام جلالته بكتابتها من جديد حتى أصبحت أكثر جمالاً مما كانت عليه من قبل ... فالملك كان مهتماً بالمحافظة على الكتابات القديمة وإحيائها من جديد."
وقد أدى الصراع بين السودانيين والأشوريين على مصر إلى نهاية الحكم السوداني المباشر لمصر في عصرالملك الكوشي تانوتاماني (664-653 ق م) لكن ظل النفوذ الكوشي حياً في منطقة طيبة. وبعد أن تمكن الملك المصري بسمتيك الأول في الأسرة السادسة والعشرين من القضاء على الأشوريين دخل في مفاوضات مع منتومحات حاكم إقليم طيبة وسيدته المتعبدة الآلهية شبنوبت الثانية [أخت تهارقا] التي كانت تحكم طيبة باسم ملك كوش.
وتم الاتفاق بين الطرفين بأن يحتفظ كل من منتومحات والمتعبدة الإلهية بألقابهما. ولكن أجبرت شبنوبت بتبني نيتوكريس ابنة بسمتيك الأول لتتولى المنصب بعدها. وبذلك استولى بسمتيك على إقليم طيبة دون أن يلقى مقاومة من الكوشيين، وكوفيء منتومحات على خدمته هذه بأن ثبت في وظيفته واحتفظت شبنوبت بمركزها المالي.
وهكذا اكتملت لبسمتيك الأول السيطرة على مصر عام 655 ق م، ورجعت الحدود السودانية إلى مكانها الطبيعي في منطقة أسودان. ورغم ماتردد عن حملة قام بها بسمتيك الأول على السودان، إلا أن الحدود ظلت مستقرة في منطقة أسوان، وظلت علاقات الود قائمة بين السودان واقليم طيبة. فقد كان سكان منطقة طيبة يرون في الكوشيين كما يقول سليم حسن (ج 13 ص 32) "الممثلون الأمناء للأله آمون. وأنهم كانوا في قرارة أنفسهم لا يزالون على ولائهم لهم"
وبعد عصر الأسرة السادسة والعشرين في القرن السادس قبل الميلاد خرج أمر مصر وسياستها وحكمها من يد المصريين وخضعت مصر للحكام الأجانب، ولم تنجح المحاولاتالتي قاموا بها في القرن الرابع قبل الميلاد لاسترداد السلطة. وظل أمر مصر وحكمها في يد الحكام الأجانب منذ ذلك الوقت وحتي ثورة الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب في يوم 23 يوليو 1952 ميلادية.
ولذلك فالعلاقات بين السودان ومصر في الفترة التي امتدت إلى 2600 سنة بعد حكم السودان لمصر إلى منتصف القرن الماضي كانت في يد الحكام الأجانب، ثم عاد أمرمصرلأبنائها في ثورة يوليو بإنهاء حكم الأسرة الألبانية التي كانت تحكم مصر باسم الدولة العثمانية. وعادت العلاقات بين السودان ومصر إلي أيدي المصريين، واستهلوا تلك العلاقات باتفاقية مياه النيل وإنشاء السد العالي.