ushari@outlook.com
تقديم
(1)
الأستاذ حامد بشرى متأثر بعمر البشير، لو عندكم وثائق عن فساد حكومة الإنقاذ تعالوا وَرُّونا ليها، ولاَّ اسكتوا! هكذا يفكر حامد، وهو كتب في مقاله ينتقد:
"فإذا كان [عشاري] يملك أي أدلة أو بحوزته وثائق تثبت أن التقرير [من هيومنرايتس ووتش] حول تابت مفبركٌ ودبَّجه أحد الدعوجية، كان الأجدر به الاتصالبالمنظمة وتوضيح مقاصده وما يرمي اليه بدلاً من إطلاق الحديث علي عواهنه ومندون علم المنظمة المتهمة".
(أ)
يقع عبء الإثبات بشأن تابت على منظمة هيومن رايتس ووتش، وليس عليَّ. ولا حجة في أن الحكومة لم تعط المنظمة تأشيرة دخول.
(ب)
لا يدرك حامد أن الادعاء بوجود وقائع مُختلقة في تقرير هيومن رايتس لا يتم إثباتهبالوثائق. بل إن تفكيك النص في سياقه كاف في ذاته لنقض التقرير المكتوب ودكه من أساسه، بمجرد القراءة الانتقادية، خاصة حين يأتي التقرير ينوء بحمل تناقضاته،وبالمعالجات غير الصحيحة، وبالاختلاق.
(ج)
عجبٌ قول حامد إنه كان الأجدر بي قبل "إطلاق الحديث على عواهنه" أن أتصل أولا بمنظمة هيومن رايتس ووتش وأن أوضح لها مقاصدي! هنا يذكرني حامد كذلك بالصادق المهدي الذي قال في العام 1987 في مؤتمر صحفي إنه كان الأجدر أن نتصل به هو أولا قبل نشر كتاب "مذبحة الضعين-الرق في السودان"!
(د)
لا أطلق القول على عواهنه، بل أستند على البينة الواضحة المقنعة، تلك المتعلقة بموضوع تابت. وعبارة حامد "من دون علم المنظمة" غريبة، فلست مكلفا باستشارة المنظمة فيما أكتب، وهي منظمة تعرف اللغة العربية، وتقرأ سودانايل المتاحة بالمجان. وهي ذاتها لا تستشير من تكتب عنهم في دارفور بلغة لا يعرفونها، والرواية عن راعي الضأن يعرف المنظمة، بمعنى "العِرْفة"، لا يصدقها أحد.
(2)
ليس صحيحا ما استنتجَه بالخطأ الأستاذ حامد بشرى عن حملة لي ضد منظمةهيومن رايتس ووتش. فقد أتحفتني هذه المنظمة بالجائزة العالمية الوحيدة التي أعتزبها، وهي جائزة مراقب حقوق الإنسان للعام 1990. وربطتني علاقة صداقة قويةبالأستاذة الراحلة جيميرا رون الباحثة في المنظمة والمتخصصة في شؤون السودان،وكنت ساعدتها في بعض أهم تقاريرها التي كتبتْها عن السودان في التسعينات. وكان لي مع المنظمة نقاش مباشر حول استخدام المال لتحرير الأرقاء من جنوب السودان، وأتابع تقارير المنظمة عن المناطق والموضوعات التي أهتم بها.
(3)
لكن ذلك لا يعني أن أصدِّق كل تقرير تصدره هذه المنظمة، كما يفعل الأستاذ حامدبشرى، فهو من المؤمنين. بل أقارب كل تقرير تصدره هيومن رايتس ووتش عن السودانأو عن قضية لي معرفة بها من منطلق تشككي، ابتداء.
(أ)
بسبب أن كل كتابة تأتي تحمل تناقضاتها الداخلية، فيتعين الحذر وإرجاء إصداربراءات المصداقية بالشكل المطلق الذي يريده حامد.
(ب)
لأني أعرف من التجربة، ومما هو متاح في العلم العام، أن عددا قليلا أو كبيرا منالباحثين في مجال حقوق الإنسان وفي المنظمات الإنسانية بصورة عامة يكذبون،ويختلقون الوقائع، وينسجون القصص، ويضخمون الأحداث الصغيرة، ويتعمدونالإهمال والتعمية الذاتية عن بعض الانتهاكات الخطيرة من قبل أطراف يتعاطفونمعها، وفي أسوأ الحالات يستلم بعض هؤلاء الباحثين الرشاوى من الحكوماتالفاسدة موضوع التقارير، أو من الجهات ذات المصلحة في تسويء صورة الطرفالآخر العدو.
فهل يظننَّ أحد أن تلفيق كبار موظفي اليوناميد، وهم ضباط حقوق الإنسان المسؤولون عن الحماية، تلفيقهم التقارير السرية لرئاستهم كانت دون استلامهم رشوة؟ هل كانت تلك أفعالهم مجانا لأجل عيون عمر البشير؟ كلا، المصلحة الشخصية هي السبب الوحيد. فنحن لدى دلفة جديدة، الفساد في منظمات العمل الإنساني التي ظلت طويلا معفية من الانتقاد.
(4)
إن تدلُّه الأستاذ حامد بريمة في عشق منظمة هيومن رايتس ووتش وعبادتها ليس فيمحله، عليه أن يتعامل معها، ومع أية منظمة طوعية أو دولية أخرى، وفق ما تنشره لاوفق ما قرر هو أن يسبغه عليها من مصداقية قطعية في جميع الأحوال. فهيومنرايتس ووتش كذلك منظمة سياسية، ولها مواقف سياسية وأجندة سياسية. مثلها مثلكل منظمات حقوق الإنسان.
بالطبع، لابد في هذه المنظمة بعض أكثر الباحثين أمانة ونزاهة وحرفية. لكن لابد يلتحقبها كذلك، شأنها شأن كل المنظمات، باحثون فاسدون محتالون من بيوتهم، من النوعية التي ذكرتها أعلاه. ولن تتمكن المنظمة بسهولة من ضبط مثل هؤلاء الأشرار الأذكياء. لكنها لا شك تجتهد لضمان مصداقية تقاريرها عبر عمليات التدقيق والتحرير والتكييف القانوني، ففي ذلك مصلحتها، كمنظمة.
(5)
كل ما علينا فعله، في مثل هذه الوضعيات المعقدة، هو أن نتشكك في كل تقرير يصدرمن أية منظمة، بما فيها المنظمة التي يعبدها حامد، وأن نتذكر احتمالية حضورالفساد في كل منعطف من منعطفات الحياة المعاصرة، إلى أن يُثبِت الخطابُالمصنوع في كل تقرير مصداقيتَه بصورة كافية، من حيث المنهج المتبع، ومن حيثتفاصيل الوقائع ومدى دعمها بالبينات عن مَن فَعلَ ماذا متي أين وكيف، أيضا منحيث نزاهة الباحث الكاتب، وخلفيته، ومصالحه التي قد تكون متضاربة مع طبيعةالتقرير واستخدامه، ومن حيث جدية هذا الكاتب، وتاريخه في الشفافية والمسؤوليةالأخلاقية. ولا ننس أن نقيِّم الترجمان أيضا، وهو الباحث الحقيقي سيد الموقف. نعم، يجب أن نكون حذرين، فيوميا تتكشف أمامنا فضائح الفساد في قطاع المنظماتالدولية والمحلية العامة.
(6)
يكفي أن أبين أن تقرير هيومن رايتس لا يثبت الاغتصاب الجماعي المدَّعَى به، مما سأقدم مزيد بيناته في هذا المقال. ولا يعني ذلك أن الاغتصاب الجماعي لم يحدث. قلت إنَّا لا نعرف، حتى يومنا هذا. لكن الذي نعرفه هو أن المصدِّقين الشكاة عجزوا عن تقديم الإثبات، وأن هيومن رايتس مثلهم عاجزة عن إثبات، وأقول الآن إن تقريرها الذي يحتفي بها حامد كان ويظل أسوأ التقارير عن تابت لا يضاهيه في السوء إلا تقرير المدعي العام لجرائم دارفور، لأسباب سأبين منها ما هو كاف لإنهاء مصداقية هذا التقرير من هيومن رايتس ووتش ودفنه. من هذه الأسباب:
(1) مقابلات في التقرير ثابت أنها مختلقة، فكافية على استقلال، ولوحدها، لمسح سيرة هذا التقرير؛ (2) تناقضات بين أعداد الضحايا من جهة والمصادر والوقائع الموضوعية، من جهة أخرى؛ (3) إيراد المنظمة لادعاءات في مجال العلاقات العامة مستخدمة صور السواتيل، تعلم المنظمة أن الاستخدام غير سليم؛ (4) خلفية الباحث كاتب التقرير، جوناثان لويب في "الدعوة" لدارفور في أمريكا؛ (5) العلاقات الخفية بين المنظمة والكاتب والترجمان ومصادر المعلومات؛ (6) منهجية جمع البيانات والجهل بكيفية إجراء تحقيق في وضعية الاغتصاب الجماعي (مقال قادم).
أولا،
اختلاق المقابلات والوقائع
(1)
خدعة المصدر إدريس الذي يعلم بالغيب
(أ)
تحدثت المنظمة، والمقصود الترجمان دائما، مع مصدر في تابت اسمه إدريس. فكتبت المنظمة في التقرير عن "لقاء أجرته هيومن رايتس ووتش مع أحد الضحايا"، ثم حددت أن اسم الضحية التي التقت بها هو إدريس. ثم حكت المنظمة رواية إدريس. بأنه بعد عودته من المعتقل صباح السبت 1 نوفمبر "أُبلِغَ بواسطة جيرانه بأن عددا كبيرا من النساء في الحي قد تعرضن للاغتصاب، بمن في ذلك ثمانية من قريباته" (ص 23). لا بأس.
قصة إدريس، وهي قصته معي، لا تنتهي عند هذا الحد أعلاه من أقواله المنقولة منهبواسطة الترجمان إلى جوناثان ثم إلى المنظمة بفريقها للمراجعة وتقدير الحق في السماح بالنشر. فقد نقلت المنظمة أن إدريس أضاف بالحرف الواحد، أنه "خلال الأسبوعين التاليين للحوادث تحدث مع 15 امرأة من النساء اللائي يسكنَّ في نفس الحي وأخبرنه بأنهن تعرضن للاغتصاب مساء الجمعة"! وهذه معلومة جوهرية تصب في العدد الذي قدمته المنظمة، 221 ضحية.
لكن المقابلة مع إدريس بل كانت تمت في يوم 5 نوفمبر، مما يرد في الهامش رقم 51 في صفحة 23. أي، أن المقابلة الهاتفية بين الترجمان وإدريس في تابت كانت بعد أقل من أسبوع من تفجر الأحداث المزعومة. فما كان ممكنا لإدريس أن يكون تحدث مع النساء المغتصبات "خلال الأسبوعين التاليين للحوادث"، إلا إذا كان إدريس يعلم بالغيب حين كان تحدث مع الترجمان في يوم 5 نوفمبر 2014.
(ب)
ذلك مثال بسيط من عدة أمثلة للكتابة الاحتيالية المتدبرة في تقرير هيومن رايتس ووتش. يسهل اكتشافها لأن عنف الكتابة بالاحتيال يترك دائما في النص كمسرح الجريمة آثار الغش والاختلاق، رغم أنف الكاتب جوناثان لويب ورغم أنف الترجمان إن كان للترجمان دور في التلفيق.
بالطبع، ما كان ممكنا لفريق المتخصصين في المنظمة الذين راجعوا التقرير أن يقتنصوا مثل هذه الحركة المايكروسكوبية الدقيقة المزلقة لاختلاق الوقائع في التقرير، بزيادة عدد الضحايا بـ 15 ضحية، بواسطة الكاتب أو بواسطة الترجمان أو بواسطة هذا الشاهد في تابت، إدريس المنسوب إليه الادعاء الكاذب. ونلاحظ أن هذا الاحتيال ما كان ممكنا كشفه، أو إثباته بالبينة، إلا بمراجعة الأثر في تاريخ المقابلة مع الشاهد في الهامش رقم 51 ومراجعة الهامش رقم 59 أيضا، للتعضيد حيث لا يمكن للمنظمة أن تدعي أنها أخطأت مرتين في كتابة التاريخ نتيجة سهو. بالطبع، لا يلتفت القارئ المخدوع إلى التنقيب في الهوامش في تقرير المنظمة التي يؤمن بها المؤمنون.
(ج)
على أقل تقدير، يمكننا بصورة سائغة أن نعدِّل عدد الضحايا ليكون ناقصا 15 ضحية ليصبح 206 بدلا عن 221. لكن المشكلة الفظيعة التي تقوض مصداقية التقرير، ومصداقية كاتب التقرير جوناثان والترجمان، تظل قائمة. ذلك بسبب وجود نسق مكثف في التقرير يبين الاحتيال بالكتابة بطريقة اختلاق الوقائع. هذا النسق في الاختلاق في نص التقرير نجده أيضا في المثال التالي:
(2)
خدعة منع الحديث مع الصحفيين
(أ)
جاء في التقرير أن "ضحايا وشهود قالوا لهيومن رايتس ووتش إن مسؤولين محليين منعوهم من الحديث مع أي فريق للتحقيق، وأفادوا كذلك بأن أشخاصا من خارج تابت جيء بهم إلى البلدة للحديث مع الصحفيين وأبلغوهم بعدم حدوث شيء" (ص 28).
هذه الواقعة مشار إلى مصدرها في صفحة مختلفة عن سابقتها وفي فصل مختلف. ويرد في الهامش رقم 87 أن المحادثة الهاتفية تمت في يوم 5 نوفمبر: "لقاء أجرته هيومن رايتس ووتش مع أحد الضحايا 5 نوفمبر 2014".
(ب)
والغش واضح هنا، حين نُعمل آلية التناص بين نص التقرير وواقعة خارجية معروفة هي أن الصحفيين المدعى أن الضحايا تحدثوا معهم في يوم 5 نوفمبر لم يحضروا إلى تابت إلا بعد أسبوعين من تاريخ المقابلة المزعومة، في يوم 20 نوفمبر 2014. مما يشير أيضا إلى أن التقرير دون أن يدري يكون ينوء بحمل تناقضاته الداخلية، لأنه كذلك يثبت في أكثر من مكان أن الصحفيين جاءوا إلى القرية يوم 20 نوفمبر.
(ج)
لا يجوز أن نختلق أعذارا لمثل هذه المخالفات. فالكاتب جوناثان لابد كان يعرف الحقيقة، أو هو كان ضحية الترجمان. لكن الواضح من هذه المخالفة المريعة أنه كان ضروريا لجوناثان أو للترجمان أو لكليهما متفقين اختلاق الواقعة المزدوجة، بمنع المواطنين في تابت من الحديث مع أي فريق للتحقيق لم يكن معروفا حينئذ أنه سيأتي أصلا، وبالادعاء أنه تم جلب أشخاص من خارج تابت للتحدث إلى الصحفيين لنفي الاغتصاب الجماعي، بينما لم يكن معروفا أصلا في وقت المقابلة أن الصحفيين سيأتون. والواقعة المختلقة الأخيرة ذاتها غير قابلة للتصديق وتكذبها عدة وقائع منها أن بعض سكان تابت المناصرين للحكومة لابد قادرون بصورة كافية على خدع أي صحفي يأتي للبلدة.
(3)
خدعة منع الحديث مع اليوناميد
(أ)
من النقاط الاستراتيجية التي يعتمدها التقرير أن الحكومة بذلت جهودا جبارة للتغطية على جريمة الاغتصاب الجماعي. ولأن الحكومة منعت اليوناميد من دخول المعسكر ثم سمحت لها بالدخول في يوم 9 نوفمبر 2014، ثم منعتها من الدخول مجددا، كانت جهود الحكومة محل تركيز التقرير. مما بالطبع يستنتج منه أن الحكومة تريد أن تخفي شيئا، هو الاغتصاب الجماعي. فركز التقرير على هذه النقطة، باختلاق وقائع تضاف إلى تلك المختلقة أعلاه بشأن الصحفيين، هذه المرة باختلاق أقوال شهود يقولون إن الحكومة حذرتهم من الحديث إلى أعضاء البعثة المشتركة وهي اليوناميد.
فيرِد في التقرير إشارة إلى شاهد تم حجب اسمه، في الهامش 92 وقُدم على أنه واحد من الضحايا الذين تحدثت إليهم هيومن رايتس ووتش كذلك في يوم 5 نوفمبر. فجاء في صفحة 30 أن الضحايا "تلقوا تحذيرات من مسؤولين حكوميين محليين بألا يتحدثوا إلى أعضاء البعثة المشتركة".
(ب)
هنا، ترك الاختلاق بعنف الكتابة الاحتيالية المتدبرة أثره الواضح أيضا، لأنا نعرف أن زيارة البعثة لم تكن معروفة زيارتها في ذلك التاريخ 5 نوفمبر الذي جرت فيه المقابلة الهاتفية المزعومة. فالبعثة زارت تابت في يوم 9 نوفمبر، ولم تكن زيارتها التي سُمح بها معروفةً في يوم 5 نوفمبر يوم قال الضحايا الشهود للترجمان إنهم تلقوا تلك التحذيرات بعدم الحديث مع اليوناميد! ويرد في ذات الهامش أن شاهدا آخر حُجب اسمه تحدث بذات الموضع في يوم 4 ديسمبر 2014 بعد زيارة اليوناميد، لكن هذا لا يلغي المخالفة المريعة في أقوال الشاهد الأولاني الذي قيل إنه تحدث للترجمان يوم 5 نوفمبر 2014.
ثانيا،
خدعة الأعداد المتضاربة
(1)
حددت هيومن رايتس ووتش في ص 8-9 الإطار الرقمي لروايتها في التقرير. فهي تتحدث بلغة الأرقام لتعطي مصداقية لتقريرها. فقالت إن عدد ضحايا الاغتصاب 221.
لكن هذا الرقم 221 الذي اختلقته المنظمة من بعض وقائع مختلقة اختلاقا، كما بينت أعلاه في حديث إدريس والـ 15 ضحية اغتصاب، عاد الرقم أو هو العدد في بقية أجزاء التقرير لينتقم من المنظمة. حيث تبين أن مكوناته العددية التي ترد في النص لا تتسق فيما بينها ولا مع العدد ذاته.
وسيلاحظ القارئ المحاولات المستميتة من قبل الكاتب جوناثان لويب لفرض النظام على الفوضى الرقمية التي خلقها. فكلما حاولت المنظمة، وهي جوناثان، تفكيك العدد 221 إلى مكوناته الصغرى، أو الحديث بلغة الأرقام، تقع المنظمة وجوناثان في تناقضات وأخطاء في التقرير، بسبب عملية الكتابة الاحتيالية المتدبرة لتثبيت معان في النص لا أساس لها في الواقع.
(2)
فلنبدأ في شرح هذه الوضعية الخطيرة في التقرير. خذ أن المنظمة قسَّمت الـ 221 حالة اغتصاب إلى ثلاثة أنواع، وفق طبيعة المصدر للمعلومات (صفحة 9):
المصدر الأول:
15 حالة لنساء قلن مباشرة عبر الهاتف للمنظمة، وهي الترجمان، إنهن تعرضن للاغتصاب (محاسن، ماريا، أم جمعة، خميسة، جمية، رفيدة، نور الهدي، نادية، طاهرة، ياسمين، أسيل، كونديرو، نجمة، خاطرة، خادم الله).
12 حالة وصفها ضحايا الاغتصاب الـ 15 أعلاه، وشاهدة ليست ضحية ، بالقول إنهن الـ 16 شهدن هذي حالات الاغتصاب الـ 12. لذا تتحدث المنظمة عن توثيق "مباشر" لـ 27 حالة، بمعنى 15 + 22 =27. بينما كان "التوثيق المباشر" من الضحايا للترجمان لـلـ 15 حالة فقط. أما الـ 12 حالة المبلغ عنها في المقابلات المباشرة مع الضحايا الـ 15، فتعتبر حالات "غير مباشرة"، من منطلق الترجمان، لأن الضحية المتحدثة تقول إنها شاهدت أخرى أو أخريات يتم اغتصابهن.
المصدر الثاني:
119 اسم ضحية اغتصاب، وقد تحصل على هذه الأسماء 35 شخصا من سكان تابت (92 اسما من الضحايا أنفسهن، و 27 اسما من أقارب أو أصدقاء أو جيران=119).
المصدر الثالث:
75 اسما تحصلت عليها منظمتان محليتان تمثلان النازحين، ومنظمة من دول المهجر (31 اسما من الضحايا أنفسهن، و 44 اسما من أقارب أو أصدقاء أو جيران).
...
هذه أعلاه هي التركيبة العددية التي رسمتها المنظمة في الفصل عن المنهجية في صفحة 8-9: 27 حالة "بالتوثيق المباشر للشهادات"، و 194 حالة هي أسماء توفرت من "معلومات موثوقة"، مما يعطي العدد الكلي 221 ضحية.
(3)
(أ)
فلنأخذ هيومن رايتس بما قالته هنا ثم نقارنه بما ستقوله فيما بعد، سنجدها تغير البيانات الرقمية والأعداد في مواقع متعددة في التقرير. فبسبب الكتابة الاحتيالية، لم تتمكن المنظمة من المحافظة في بقية التقرير على الأعداد في التركيبة أعلاه التي سجلتها في البداية على أنها الإطار العددي للضحايا.
ومن ثم، ستضطر المنظمة، وهي جوناثان، لاقتراف مخالفات، وستأتي بأرقام مختلفة، وبمعلومات مختلفة، وفق ما تقتضيه حركيات الكتابة الاحتيالية المتدبرة.
سأقدم فيما يلي عينة للتناقضات المتكثرة بين الأعداد المقدمة. وسيصاب القارئ بالرهق إن هو حاول تفكيك طلاسم لغة الأرقام في التقرير. لكن على القارئ أن لا ينزعج، فالمشكلة بسيطة، التلفيق بالأرقام في التقرير.
(ب)
فأقتصر على حالة واحدة من حالات متكثرة في التقرير تبين الفوضى العددية والرقمية. وتتعلق هذه الحالة بأن المنظمة، جوناثان، تركت ما كانت قالته في البداية عن "مصادر" الـ 221 ضحية، وأتت بمصادر جديدة تناقض بصورة مدمرة ما كانت قالته سبقا تحت "المنهجية". فليس المهم هنا المفارقة الشكلية، بل اضطرار المنظمة/جوناثانإلى إحداث الفوضى العددية على الرغم منها، لأن الأعداد المختلقة ستستعصي على المعالجات الغرضية اللاحقة.
الجملة المحورية التي تبين هذه الوضعية الفظيعة نجدها في الفصل عن الهجوم ص 17:
"قامت هيومن رايتس ووتش بإجراء مقابلات مع 15 شخصا من الناجين وامرأة أدلت بتفاصيل ما جرى في 27 حادثة اغتصاب. وأدلى هؤلاء إلى جانب 23 من المصادر الموثوقة بمعلومات حول 194 عملية حادثة اغتصاب أخرى. و[إجمالا] تمكنت هيومن رايتس ووتش من جمع جملة أسماء ومعلومات أخرى حول 221 امرأة وفتاة تعرضن للاغتصاب، حسب ادعائهن" (ص 17).
فـكلمة "هؤلاء" تشير إلى 15 + 23 = 38 من الشهود الذين أدلوا بكامل العدد للضحايا، وهو 221. أي، 194 + 27 = 221
لكن الفصل عن المنهجية الذي يتحدث عن "المصادر" يذكر أن الـ 119 اسما من أسماء الضحايا كانت من 35 شخصا من سكان تابت، وأن 75 اسما كانت من عضوين على الأقل من كل واحدة من ثلاثة منظمات. إذن، المصادر للعدد الكلي وفق الفصل عن المنهجية، وهو الأساس، هي 15+ 35 + 6 = 56 شخصا، وليس 38 شخصا كما يرد في فصل آخر في ص 17.
(ج)
وهذه كذلك مسألة مهمة لأنها نتيجة محاولة تأديب الأرقام لتؤدي الأغراض المتضاربة في سياق عملية الكتابة الاحتيالية. والذي نراه بالطبع الآن هو بروز نسق للمخالفات الكتابية غير المقبولة، غير مقبولة في سياق أصبحت فيه قضية تابت قضية دولية وصلت إلى مجلس الأمن، وحولها خلاف كبير.
فالذي يهمنا هنا هو المؤشرات المتكثرة لوجود بنية تحتية، أو رغبة تسري في جسد تركيبة الوقائع في التقرير، أو هو برنامج سري داخلي، لاستخدام الأرقام والأعداد أداة للخداع بالكتابة.
(4)
تضخيم عدد المقابلات
(أ)
يرد في ملخص التقرير، ص 3: "يوثق هذا التقرير، من خلال بحث [على البعد] خلال شهري نوفمبر وديسمبر إفادات "مباشرة" من 27 من النساء والفتيات تعرضن للاغتصاب ... فضلا عن معلومات موثوقة حول 194 حادثة اغتصاب أخرى".
لكن، ليس صحيحا أن عدد المقابلات "المباشرة" مع الضحايا كان 27، بل هو كان 15فقط. فالـ 12 امرأة الأخريات حكين لصديقاتهن الـ 15 اللائي بدورهن حكين للترجمان الذي بدوره حكى لجوناثان.
(ب)
جاء في التقرير بالإنجليزية أن الـ 27 حالة تم توثيقها من first-hand accountوهو ليس صحيحا، إلا إذا اعتمدت هيومن رايتس أن المغتصبات باحثات أيضا مثل جوناثان عبر ترجمانه، فينقلن للترجمان نتائج بحثهن عن 12 امرأة شاهدنهن يتعرضن للاغتصاب، مما لا غبار عليه في تقديري، أي أن يتم اعتماد الضحايا باحثين ايضا.وكله إذا كانت الوقائع ذاتها صحيحة.
ثالثا،
التناقض بين دبنقا والتقرير حول عدد الضحايا
(1)
يناقض التقرير راديو دبنقا بشأن معلومة جوهرية تتصل بالمصداقية. فالرابط العلائقي بين تقرير هيومن رايتس ووتش وتقرير راديو دبنقا هو اللجنة الخماسية التابعة لما يسمى "منسقية النازحين واللاجئين" التي زعم دبنقا أنها زارت تابت مباشرة بعد الخبر، للتحقيق. وكنت شككت في وجود هذه اللجنة الخماسية أصلا، وقلت إنها لجنة لا وجود لها. بعلة عدم وجود تقرير قال راديو دبنقا أنها كتبته عن زيارتها التحقيقية لتابت، قلت لو كان التقرير موجودا لكان دبنقا أذاعه، إذن اللجنة ذاتها، وهي تقول إنها "سرية" يعرفها دبنقا فقط، ليس لها وجود.
فلنفترض الآن أن اللجنة الخماسية موجودة. ثم فلننظر فيما قالته لهيومن رايتس ووتشفي يوم 17 نوفمبر، تاريخ المقابلة (الهامش 56) ونقارنه بما كانت اللجنة قالته قبل أسبوع لراديو دبنقا.
قالت اللجنة لراديو دبنقا، بالصوت، بتاريخ 11/11/ 2014 إن عدد المغتصبات اللاتيتكلمت معهن اللجنة "خشم لخشم" هو ستين، 60. منهن 45 نساء، 7 قاصرات، و8 عجائز. وقالت اللجنة في ذلك الوقت إنها سجلت نتائج تحقيقها في تقرير رفعته.
(2)
لكن الذي جاء في صفحة 9 من التقرير يناقض قصة الـ 60 ضحية من النساء اللاتي تم الحديث معهن "خشم لخشم" بواسطة اللجنة الخماسية. فالتقرير من هيومن رايتس يقول ما يلي:
"زودت المجموعات الثلاثة [من بينها اللجنة الخماسية لمنسقية النازحين واللاجئين] التي زار كل منها بلدة تابت لمدة يومين أو ثلاثة أيام خلال الأسبوع الذي أعقب الهجمات هيومان رايتس ووتش بالنتائج التي توصلت إليها. أفادت هذه اللجان الثلاثة بأنها جمعت 31 اسما بصورة مباشرة من ضحايا الاغتصاب و44 اسما من أقارب أو أصدقاء أو جيران ضحايا عمليات اغتصاب" (ص 7).
فنلاحظ أن عدد النساء اللاتي كان تم الحديث معهن "خشم لخشم" مما كان جاء في راديو دبنقا تقلص الآن في التقرير إلى 31 اسما فقط، نصف العدد، بل إلى أقل منه بكثير. فنلاحظ أن العدد 31 حالة فقط رغم أن اللقاءات "بصورة مباشرة من ضحايا الاغتصاب"، مما يرد في التقرير (ص 9)، كانت بإسهام جمعيتين إضافيتين للجنة الخماسية التي كانت تحدثت خشم لخشم مع 60 ضحية اغتصاب.
(3)
فإما كانت اللجنة الخماسية بالغت في روايتها لدبنقا بحديث عن ستين ضحية تمت المقابلة معها "خشم لخشم"، أو إن اللجنة الخماسية لم تقدم المعلومات الصحيحة لترجمان جوناثان فقلصت عدد مقابلاتها خشم لخشم إلى أقل من 31 حالة اغتصاب. علما أن اللقاءات مع اللجنة الخماسية كانت جرت مع راديو دبنقا بتاريخ 11/11 ومع الترجمان بتاريخ 17/11/2014. خلال أسبوع واحد تغيرت الأرقام والأعداد!
رابعا،
المنظمة تستخدم تكنولوجيا السواتيل للدفاع عن مصداقية التقرير
(1)
الإقرار بضعف التقرير وسحب الإقرار
حتى حكومة السودان، لم تجد كثير عناء عبر ممثلتها الأستاذة عطيات مصطفى في الوصول إلى مواطن الضعف المريع في تقرير هيومن رايتس ووتش. ذلك في البرنامج التلفزيوني في قناة الحرة:
https://www.youtube.com/watch?v=_Got6mw6_5I
فلما وجدت السيدة ليزلي ليفكو، نائبة مدير القسم الأفريقي في المنظمة، وهي التي "حررت التقرير"، مما يعني أنها راجعته وأصلحت حاله، كتقرير كتبه جوناثان لويب، لما وجدت السيدة ليزلي أن التقرير تعرض للانتقاد بشأن منهجيته التلفونية الضعيفة، لم تدافع عنه في البداية. وأقرت بالقول: "من دون شك تقريرنا وتحقيقنا لا يعتبر سيرة واضحة أو كاملة ودقيقة لما حصل في تابت"، ومضت لتطلب من الحكومة السودانية أن تدعم تحقيقا مستقلا.
لكن الأستاذة ليزلي ليفكو سرعان ما غيرت استراتيجيتها أثناء الجدل في البرنامج التلفزيوني. وقررت أن تستميت في الدفاع عن التقرير، فقالت: "لكن الواقع الذي يقول إن عمليات اغتصاب جماعية حصلت في تابت على يد الجيش السوداني هي معلومات واضحة ولا يمكن نكرانها، نعرف أن هذا جرى".
(2)
صور الأقمار الصناعية
(أ)
سأل المذيع السيدة ليزلي عن الجدوى الإثباتية من الصور بالأقمار الصناعية المرفقة في التقرير، وكانت الصور ذاتها تتحرك في شاشة أثناء حديثها، وواضح أن منظمة هيومان رايتس ووتش كانت تريد، فيما أراه، إقناع المشاهدين بصحة روايتها باستخدام صور الأقمار الصناعية، على النحو الذي سأبينه. والصور مرفقة في التقرير المنشور ذاته.
فكان هذا نص الحوار الذي ابتدره المذيع:
"ما قصة هذه الصور التي نتابعها الآن أثناء حديثك؟ ما دلالة هذه الصور التي نشرت؟
(ب)
هنا، كان رد السيدة ليزلي بأن الصور تعضد أقوال الشهود، مما هو زعم معقول، لنقل. لكنا سنرى السيدة ليزلي تختلق أمرا لا وجود له ولا صحة، مما تمثل حركة بالمغالطة في المحاجة. فهي تقول في نهاية حديثها إن صور الستالايت، وهي مرفقة في الكتاب، تبين تغييرا في وضعية الحامية العسكرية للقوات المسلحة، بسبب وجود قوات إضافية جديدة ، وهو ما ادعاه بعض الشهود أن قوات تم جلبها من الفاشر ومن الخرطوم إلى حامية تابت. وهي معلومة قالها "جنديان انشقا وانضما إلى جيش تحرير السودان عبد الواحد بأن "جنودا آخرين شاركوا في الهجوم جاءوا من قواعد تابعة للجيش في كل من الفاشر ومن الخرطوم أيضا" (ص 3).
لكن الصور بالسواتيل لا تبين ذلك إطلاقا، والتقرير ذاته لا يشرحه. حيث لا توجد صورة قديمة، مثلا، لنقارن معها صورة حديثة فنقول يوجد تغيير بظهور قوات لم تكن موجودة سبقا. وهو ما لم يكن متاحا لدى السيدة ليزلي.
(ج)
لم تتوقف السيدة ليزلي عند ذلك الحد بادعاء بدون أساس، بل أضافت ادعاء آخر لا يمكن دعمه، وهو مجرد قول مرسل، حين قالت إن القوات الجديدة "جُلبت خصيصا لهدف الاغتصاب!" فحتى إن كان ذلك صحيحا، وهو سائغ من قبل الحكومة الإسلامية، لا نجد له في الصور بالسواتيل المقدمة أي إثبات، وما كان أصلا يمكن إثباته بالصور، لأنه أمر متعلق بالنية وبالقصد الجنائي المستبطن.
(د)
هذا هو النص لأقوال الأستاذة ليزلي في المقابلة التلفزيونية:
"هذه الصور تُظهر أن الكثير من المعلومات التي وصلتنا كانت دقيقة، مثلا الكثيرون تكلموا بدقة عن أن الجنود الذين هاجموا المدينة جاءوا من القاعدة الموجودة قريبا من المدينة وتكلموا بالتفاصيل عن معرفتهم بهؤلاء الأشخاص لأن القاعدة قريبة جدا من مدينة أو قرية تابت، تكلموا أيضا عن جلب المزيد من القوات من أماكن أخرى، فكان هنالك وحدات موجودة في هذه القاعدة التي نراها على الصور السواتيل، وهنالك أيضا وحدات أخرى جُلبت خصيصا لهدف الاغتصاب".
والجملة الأخيرة عن الاغتصاب هي التي تبين أن هيومن رايتس ووتش تسعى بشتى الصور، بما فيها الادعاء بدون أساس، لإثبات وقوع الاغتصاب الجماعي. ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك لاستنتاج أن لموقف السيدة ليزلي، ويظهر أمامنا موقفا متشددا مستعدا لاختراع وقائع لدعم حجتها، أثر في قرارها تمرير التقرير الضعيف ذي الاختلاقات والتناقضات العددية عن تابت، بتعمدها الإهمال والتعمية الذاتية إزاء خروقات كاتب التقرير جوناثان لويب.
(هـ)
ارجع للفيديو في نهايته وانظر إلى الصور بالأقمار الصناعية الموجودة في التقرير العربي أو الإنجليزي. وتفكر في النص ومسار حجة ممثلة المنظمة بأكملها لشرح الصور ودورها في الإثبات. ولا تحسبن وجود أي تكنولوجيا معقدة في الخرائط السواتلية لن تقدر على فك طلاسمها. الاختلاق أمامك، وستراه أمامك يتحرك. في خريطة هي نفس الخريطة في المدرسة الأولية، مضافة إليها بضعة حركات وألوان.قارن الخرائط مع أقوال ممثلة المنظمة.
خامسا،
كاتب التقرير الدعوجي جوناثان لويب ومنظمته الدارفورية
(1)
كاتب التقرير، جوناثان لويب، من دعوجية قضية دارفور في أمريكا. يرأس منظمة طوعية اسمها "أصوات دارفور" مقرها في نيويورك وتعمل مع اللاجئين في تشاد، بدعم مالي من وزارة الخارجية الأمريكية ومن ستة أو سبعة منظمات تمويلية. تقول هذه المنظمة الدارفورية برئاسة جوناثان إنها تستفتي اللاجئين الدارفوريين في تشاد عن آرائهم عن السلام والعدالة والمصالحة. انظر موقعها الشبكي دارفورفويسيسوقرر:
http://www.24hoursfordarfur.org/
واقرأ التقرير عن مسح أجرته هذه المنظمة على اللاجئين.
(2)
النقطة هنا متعلقة بأهمية التبيين الصريح الكافي لهوية كاتب تقرير تابت. لأن ذلك التبيين كان سيجعل القارئ على علم، ليتشكك مباشرة وبصورة أعمق في التقريروليأخذ حذره، إلى أن يثبت العكس بعد قراءة نص التقرير ذاته عند إخضاعه للتفكيك.لكن المنظمة اقتصرت في آخر صفحة في التقرير، وهو التصميم المعتمد في تقاريرها، على وصف كاتبه جوناثان لويب بأنه "زميل" في قسم أفريقيا بمنظمة هيومن رايتس ووتش. بينما كان يتعين على المنظمة، لأغراض الشفافية، أن تخرُج من سياستها المعتمدة، وأن تفصِح في النص عن خلفية جوناثان، لأن خلفيته متعلقة ومنتجة في الفصل في مدى مصداقية التقرير الذي كتبه. حيث لا يعتد بشهادته، بسبب تلك علاقته بـ "الدعوة".
سادسا،
المنظمة وكاتب التقرير والترجمان ومصادر المعلومات
(1)
مباشرة، بعد يوم أو يومين أو ثلاثة من نشر راديو دبنقا خبر تابت، بدأت منظمة هيومن رايتس ووتش في التحقيق في قضية تابت. لكنا نعرف أنه خلال فترة نوفمبر وديسمبر 2014 وهي فترة التحقيق بإجراء المكالمات التلفونية وكتابة مسودة التقرير، لم تكن المنظمة باسمها الكبير إلا ذلك الدعوجي الأمريكي جوناثان لويب في معية ترجمانه الفوراوي بدون اسم، يتجولان في تشاد، في مجال عمل المنظمات الطوعية، فيما يبدو لي، لأن التقرير يخفي هذه المعلومات الجوهرية عن ظروف البحث والمكان وهوية الترجمان وموقفه السياسي وموقعه السياسي وما إذا كانت لديه علاقة مباشرة بالحركات المسلحة.
فالترجمان المقدم في التقرير بأنه يعرف اللغات الإنجليزية والعربية والفوراوية، هو، في نهاية الأمر، سيد الموقف، لأنه الباحث الحقيقي في قضية تابت، وهو الذي أجرى هاتفيا جميع المقابلات مع الضحايا والشهود في تابت. أما السيد جوناثان لويب فهو ممثل المنظمة المسؤول عن "الإخراج".
(2)
حين تقول المنظمة في التقرير إن "هيومن رايتس أجرت مقابلة مع الضحية المعينة في تابت"، فإن ذلك يعني أن الترجمان الفوراوي هو الذي أجرى المقابلة، فهو إذن المنظمة. وليس صحيحا ادعاء "المنظمة" أنها "أجرت مقابلة"، إلا من حيث إن هذه هي "اللغة"، لغة قوة المنظمات. وكذا ليس صحيحا قول جوناثان لويب الزميل كاتب تقرير المنظمة قولُه بضمير المتكلم، "تَحدَّثتُ" لراديو دبنقا، في 12 فبراير 2014، حين قال:"تحدثتُ، للأسف، مع امرأتين تم اغتصاب ثلاثة من بنات كل واحدة منهما".
I spoke, unfortunately, to two mothers, both of whom had three of their daughters raped.
فالذي كان تحدَّث حقيقة مع المرأتين لم يكن جوناثان كما يدعي، بل هو الترجمان، بالتلفون، وهو نقل لاحقا إلى جوناثان ما كان قرر أن ينقله إليه من مجمل محتوى المكالمة، بمعالجات لغوية لابد ضرورية ومتوقعة. فهما لابد كانا متفاهمين.
(3)
هذه الوضعية ليست مسألة هامشية، بل تثير أخطر القضايا بشأن التقرير عن تابت، وبشأن فلسلفة تقارير المنظمات الدولية، فيما بتعلق بمن يحق له أن يخلق المعاني وأن يثبتها في الأوراق، وكيف يفعل ذلك، وكيف يوقع اسمه، وكيف هو مندغم في جهاز المنظمة المكون من متخصصين أشداء حرس بوابات الكتابة، وكله في سياق علاقات الهيمنة والاستعمارية الجديدة.
والمسألة متعلقة أيضا بالادعاء لدى المنظمات الدولية أن الباحثين الوطنيين المحليين قبيليين غير قادرين على توخي الموضوعية أو الأمانة العلمية، فلا تتم الاستفادة منهم في التحقيق أو في كتابة التقارير عن بلادهم، عليه لا تجد لهم دورا إلا كتراجمة، أو كمسهلين، أو كموفِّرين لمعلومات مجانية، أو كمصادر معلومات يرتبها ويكتب تقريرَها الأجنبي غير المنفعلة أعصابه مع الأحداث، وهو دائما أمريكي أو أوروبي عقلاني.
فأترك هذا الموضوع عند هذا الحد السياقي، لأعود إليه يوما.
...
ذلك كان ما رأيته بشأن التقرير الذي يظل يدافع عنه حامد بشرى، والشكر لحماد أن جعلني أكتب ما كان تكشف أمامي عن التقرير حين ظهر قبل عام، ورأيته لا يستحق الرد عليه. لكني الآن اكتشفت فيه كيفية الاختلاق التي كنت لاحظتها لكني لم أتمكن من وضع يدي على سرها في الهوامش.
فإلى المقال الثالث عن تابت غدا موضوعه دلالة قضية تابت، وتعقيب على الموضوعات التي أثارها حامد عن إسقاط النظام كالأولوية.
ثم المقال الرابع الأخير عن كيفية التحقيق في الاغتصاب الجماعي.
....
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com