قضايا تثيرها قضية تابت (3-4)

 


 

 


ushari@outlook.com

(أ)
الكتابة الاحتيالية المتدبرة
(1)
أرجو أن تكون كتابتي عن تابت استفزت بصورة كافية الذين يعتقدون أن الاغتصاب الجماعي حقيقة. فهذا ما أطمح إليه، لأنه سيتعين على المستفَزين ردُّ الاستفزاز بمثله. وهو في هذا المجال استفزاز للفكر وللحمية البحثية، لا للأشخاص في ذاتهم، لا يبق لهم إلا التوجه نحو ما اعتمدوه مسرح الجريمة في بلدة تابت ليبحثوا عن أدلة الإثبات التي لن يكون بعدها من كلام، أو الإقرار الصريح بأن رواية تابت كانت "مبالغة".
(2)
من جانبي،  نظرت في مسرحين للجريمة الكتابية، النصوص المكتوبة والمذاعة من راديو دبنقا، وتقرير هيومان رايتس ووتش. حيث وجدت أدلة الانحراف عن المعايير المعتمدة في الادعاء بوقوع الجريمة العالمية، ووجدت أدلة الخداع والتدليس.
وجدت ما أسميه "الكتابة الاحتيالية المتَدبَّرَة". لا أقصد توجيه إساءة لأحد بتعبير "الاحتيال"، كما لا أريد استبدال الكلمة بعبارة لطيفة، ذلك لأغراض تتعلق بنظريتي عن هذه "الكتابة الاحتيالية المتدبرة"، تلك المنسوجة بالانحراف عن المعايير، وبالخداع (الكذب، التزوير، إغفال الوقائع، اختلاق الوقائع)، وبالتدليس لأغراض الإخفاء (نشر الهراء، المغالطات، التحجج بالآيات القرآنية على طريقة القاضية فادية عبد القادر، وهكذا).
هي النظرية التي طورتها في سياق التحقيق في الفساد القضائي في القضائية السودانية، في الآراء التي يكتبها قضاة الإسلام. ومن ثم، كان سائغا أن أحيل ذات المفاهيم لاستنطاق وضعيات في مجالات أخرى تُستخدم فيها أدواتُ إفساد الرأي القضائي. مع الفارق بالطبع بين الرأي القضائي الفاسد، وهو ما يبيعه القاضي الهمباتي، من جهة، والرأي السياسي، الفاسد أيضا، لكنه للدفاع بدون حجة عن قضية، فاللجوء إلى الحِيَل لنقل، من جهة أخرى، مما قد يدخل صاحبه في مناطق ذات خطورة.
(ب)
مبدئية المقاومة ضد الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة
(1)
كله يثير موضوع "مبدئية المقاومة"، والحوار الصعب مع المجموعات المنفعلة مع قضية دارفور، فأنا مثلهم منفعل بقضية دارفور، ربما بطريقتي، كما هم منفعلون بطريقتهم. أتفق معهم أن العدو المشترك هو ما يسمونه نظام الإنقاذ، بينما التكييف الدقيق هو "المثقفون الإسلاميون المتحالفون مع العسكر"، وهم أصحاب الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.  بمعنى "العدو" الحقيقي الذي إن وجدك في وضعية استضعاف سيقتلك مباشرة، وهو أصلا إن كنت نسيت أذكِّرُك أنه كان قتل أمَّك وأباك وإخوتك وأصدقائك في دارفور، وفي جنوب السودان، وفي المنطقتين، وعذب في مؤسسة بيوت الأشباح وفي جميع أرجاء السودان أشخاصا قد تعرفهم، وشرد أسرا تعرفها أيضا بالمواطنة، يعيشون اليوم في بؤس معسكرات اعتقال للنازحين في السودان واللاجئين في تشاد. هذا المثقف الإسلامي المتحالف مع العسكر، أفقرَك أنت ذاتك وشردك في بلاد الصقيع، ويريد في دواخله أن تنمسح من على وجه الأرض، لأنك تذكره بماضيه وبحاضره في الإجرام، ذاته هو، هذا المثقف الإسلامي الذي يبدو شخصا عاديا يشبه السودانيين، وأحيانا يبتسم، ولا حقيقة لقول إنه جاء من كوكب آخر، فنحن بالإهمال وبالسذاجة وبالطيبة الغبية أفسحنا له المجال فطغى وتجبر وتصير هذا الغريب لا يتمثل طبيعة الإنسان.  
(2)
هذا المثقف الإسلامي العدواني مدمر السودان، المتصنع البراءة والتقوى والثقافة، وهو جد خطير، لا يمكن مقاومته بوسائله غير الأخلاقية. بل لابد من مبدئية المقاومة ضده بأساليب هي نقيض ما ظل يعتمده، وقد تتمدد هذه الأفكار تستنطقنا تلح علينا بإعادة النظر حتى في النضال "المسلح"، بصرف النظر عن أن التجربة بينت أن هذا المثقف الإسلامي، وهو يحب الحياة للاستمتاع بما نهبه من موارد الدولة وبما تحصل عليه بالفساد والتمكين والتقوى الحزبية، بينت التجربة أن هذا المثقف لا يفهم بصورة جيدة إلا لغة العنف بالسلاح. ألا ترى كيف يتعامل مع حاملي السلاح ضده يتودد إليهم أحيانا ويحاورهم ويدعوهم تعالوا نتكلم، ومع القادرين على حمل السلاح ضده يلاطفهم أحيانا ممكن نوظف أولادكم، بالمقارنة مع تعامله بفظاظة الإجرام مع الشباب المتظاهرين ضده، أو مع المثقفين الذين يعرفون حقيقته فيعرونها؟  
...
فأما وقد بينتُ في المقالين السابقين فساد الكتابة عن تابت، ألتفت إلى بعض القضايا التي تثيرها عندي قضية تابت، محورها هذا المثقف الإسلامي الإجرامي الفاسد وكيفية مقاومته:  
(ج)
أهمية التحقيق والتوثيق في تابت
(1)
يظل المثقفون الإسلاميون وحلفاؤهم من العسكر بمشاركة بعض القبائل العربية المحلية والأجنبية المنضوية تحت ميليشيا القوات المسلحة يعتمدون برنامجهم الإبادي في دارفور، بتصميمهم على اقتراف المزيد من المفظِعات الجماعية ضد المدنيين، إلى يومنا هذا. لقمع المقاومة وللانتقام من معارضيه. عليه، يصبح ضروريا إجراء التوثيق الدقيق الكامل لأحداث تابت، التوثيق المعتمِد على نظرية، والقاصد إلى الوصول إلى الحقيقة الكاملة في سياقها. هنا لا توجد عدة حقائق مركبة مختلف حولها، على نهج التركيبيين غلاة ما بعد الحداثة، بل توجد حقيقة واحدة في الإجابة عن هذا السؤال:
هل اقترف جنود الحامية المرابِطة بجوار تابت عمليات اغتصاب جماعي، أيا كان عدد النساء المغتصبات، في سياق "هجوم منتظم واسع النطاق" على بلدة تابت، في التاريخ الذي حدده راديو دبنقا أو في تاريخ حوله لنقل، متعلق باختفاء الجندي سبب تفتيش القرية؟
(2)
الإجابة بنعم أو لا. إذن، الحقيقة واحدة، وليست معقدة ولا مركبة تركيبا. وهي ما لا نعرفه، لكن يجب أن نعرفه، لأن تابت مدينة قريبة من العاصمة الفاشر ويتم فيها ضخ ما يقال إنه أكثر من أربعين مليون دولارا من دولة قطر لمشروعات استعراضية وغبية، وهي ليست بلدة صغيرة نائية بحيث تتمكن الحكومة الإسلامية، مهما فعلت، من فرض عزلة كاملة عليها، أو منع جميع سكانها من الحديث التفصيلي ذي المصداقية عن حقيقة ما جرى فيها.  
(3)
أضفت للسؤال مكوِّن "الهجوم المنتظم واسع النطاق" لأن هذا  المكون شرطُ التكييف بوقوع "الجريمة ضد الإنسانية"، مما سيميزها، إن كانت اقتُرِفت، عن حوادث الاغتصاب والعلاقات الجنسية الاستغلالية الفردية من قبل عساكر الحامية، وقد كان جاءت الإشارة السائغة في مقال علاء الدين الدفينة في الراكوبة إلى وقوع 17 حالة حمل خارج الزواج في القرية، منها حالة الحمل التي تسبب فيها الجندي المفقود المتَّفَق على وضعيته وتسببها في تفتيش القرية بواسطة جنود الحامية، والذي قيل إن أسرة البنت قتلته ودفنته وأخفت سلاحه.
(4)
صحيح أن القوات المسلحة السودانية، وهي تجمُّع مليشيات إجرامية حديثة، لها تاريخ ثابت في اقتراف المفظِعات الجماعية في دارفور. وكذا في جنوب السودان وفي منطقة جبال النوبة وفي النيل الأزرق. لكن هذا التاريخ الإجرامي لا يثبِت، على استقلال، وبدون بينات مصاحبة لها قوة الإثبات، أن قوات الجيش المرابطة في الفضاء المجاور لقرية تابت اقترفت جريمة اغتصاب جماعي.
هذه هي النقطة الأساس التي ظللت أركز عليها، وهي نقطة جوهرية. فلا يجوز الاستهانة بمقتضيات الإثبات بشأنها. هذا إذا كانت الأحداث ذاتها صحيحة كما زعم راديو دبنقا بدون دليل، وكما زعمت منظمة هيومن رايتس ووتش بتقرير ضعيف منسوجة بعض رواياته بالاختلاق.
...
إن الذي ينطبق على تابت، من حيث أهمية التوثيق الدقيق الشامل، ينطبق أيضا على جميع المُفظِعات الجماعية الأخرى التي اقترفها المثقفون الإسلاميون أعضاء الجهاز في السودان. حتى لا يتم تزييف التاريخ، ولرد الاعتبار للضحايا، ولتثقيف أهل السودان ضد العنف من كل نوع، مع الأمل السرابي في ردع الجناة الذين لا أمل يرجى في صلاحهم.  
(د)
المقابلات حول الاغتصاب الجماعي
(1)
لا قيمة لأية مقابلات حول تابت من نوع المقابلات التي انطوى عليها تقرير هيومان رايتس ووتش. اِقرأ التقرير بالعربية ستجد أن موضوع الاغتصاب مقدم في سبع صفحات فقط. ترد فيها روايات خمس عشرة امرأة قلن إنهن تعرضن للاغتصاب. فيقدم التقرير فقرة وحيدة من خمسة أسطر تقريبا فيها رواية الاغتصاب المزعوم أن الضحية المحددة  قالتها بكلماتها للترجمان، فترجمها الترجمان إلى الدعوجي كاتب التقرير جوناثان لويب، بالإنجليزية، ثم وضعت المنظمة اسمها في نص التقرير وقالت إن النساء المغتصبات قلن كذا وكذا لهويومن رايتس ووتش!
(2)
تتلخص بنية هذه الروايات عن الاغتصاب الجماعي في المكونات التالية:
"اسمي فلانة، العساكر جو دقونا، سألوني من العسكري المفقود، قلت ليهم ما عارفة، اغتصبوني، كمان اغتصبوا صاحباتي، خلوني ومشوا. وأنا بكيت".
كلام فارغ. فالنساء ضحايا الاغتصاب لا يتحدثن بهذه الطريقة السخيفة. ودونك المرأة من رواندا التي تعرضت للاغتصاب العصابي من قبل مجموعة من الرجال الهوتو، بالتناوب. فقدمتْ الإثبات بتوصيفها الدقيق لرائحة الصنان واللخن والعرق المخلطة بلواييق دفق أوغاد الهوتو، الرائحة الشابكة في الدماغ قالت إنها  تظل تشمها يوميا أينما كانت في بيتها أو في السوق أو في الحقل. هكذا أنت تعرف طبيعة ما حدث لهذه المرأة، وتدرك أيضا القوة التدميرية لاغتصاب النساء كاستراتيجية متفكر فيها ومخططة. وهي تكنولوجيا برع فيها المثقفون الإسلاميون في حروبهم الجهادية ضد نساء السودان.   
(3)
وللتمثيل لما ينبغي أن تكون عليه القصص لإثبات الاغتصاب، ولفهم دلالاته الحقيقية كجريمة ضد الإنسانية، وكجريمة إبادية مسرحها جسد المرأة، سأقدم في المقال الرابع والأخير عن تابت نصا لشابة من جنوب السودان اغتصبها عسكري في الضعين، في حضور زوجته وبموافقتها، ثم اغتصبها ثلاثة من أفراد الشرطة في منطقة سوق ليبيا بالخرطوم، والقصة لا تترك أي مجال لتشكك في مصداقية قصتها ذات التفاصيل الدقيقة، دون الحاجة لأية بينات إضافية خارج نص المقابلة معها.
(4)
فالتفاصيل الدقيقة في عدة صفحات هي التي تدعم مصداقية رواية الاغتصاب الجماعي، لأنه يستحيل اختلاقها دون الوقوع في تناقضات الاختلاق الذي يفضح الفبركة. أما نوعية الروايات في تقرير هيومان رايتس ووتش، العساكر هجموا علينا اغتصبوني وبكيت، فلا تقنع أحدا، ليس لأنها لم تحدث، فهي قد تكون حدثت، بل لأنه من السهل اختلاقها، أربعة سطور كتابة بسيطة للاحتيال بالكتابة. فالروايات المقتضبة في أربعة سطور من بعض الشهود تميل إلى أن تكون مختلقة. أما ثلاث أو أربع صفحات ويزيد، وفيها مَن ومتى وأين وكيف ولماذا، بالتفصيل، فلا تترك مجالا للنسج الخداعي أو لإخفائه، وهي تكون كافية للإثبات.
(هـ)
التغيير في أخلاقية العمل الإنساني
 (1)
فدعونا من هذه المنظمات الدولية، وقد يكون من بينها راديو دبنقا، بممارساته، كمصدر للمعلومات عما يحدث في السودان. ولنتذكر أن المنظمات الدولية أصبح يسيطر عليها قانونيون من ذوي التفكير البراغماتي الضيق، وشركات العلاقات العامة لأغراض النسج والغزل والتزيين، والشركات التي تضطلع باستدرار التمويل من جهات ذات أغراض سياسية، والممولون أيضا بأجندتهم، وهي منظمات تريد أن تثبت وجودها يوميا بأية طريقة وإلا طواها النسيان، وليس صحيحا أن منظمات حقوق الإنسان مستقلة عن مصادر المال ومن الأجندة  السياسية كما تدعي، ولا من الهم بالمنافسة وبالرؤيوية. أي، هي تريد أن تكون في الصورة، دائما، بأية طريقة، وليست الطرق المتاحة أخلاقيةً في جميع الأحوال في زمان ازداد فيه عدد المنظمات، ويحتد فيه الصراع المرير على الأموال المتاحة.
(2)
هذه تغييرات حديثة تدور أمامنا يوميا، وهي من تشوهات الديمقراطية الليبرالية المستحوذة بالهم بالمال وبالمنافسة تسربت إلى العمل الإنساني واحتلته، لكنا لا نلاحظها أحيانا فنصدق الدعاية الخادعة من نوع البروباغاندا التي تنشرها المنظمات عن نفسها. وما تصاعد زخم البروباغاندا إلا لإدراك هذه المنظمات ضرورة التدليس على التطورات المريعة غير الأخلاقية في تكوينها البشري الحديث، وفي سريتها، وشبكاتها الصداقية المكونة من ذات الأشخاص والشخصيات، وطريقة عملها في سياق علاقات الاستعمارية الحديثة.
(3)
باختصار، نريد تقارير وطنية محلية، وأن لا ننتظر المنظمات الأجنبية، وأن لا نصرخ نستنجد بهذه المنظمات الدولية كلما اقترف المثقفون الإسلاميون وحلفاؤهم العسكر مُفظِعة جماعية جديدة. فإن هزيمة مشروع الإسلاميين وحلفائهم وحكومتهم الإجرامية إنما تكون على المستوى المحلي، بالعمل اليومي بالمقاومة المستمرة على المدى الزمني البعيد من قبل المواطنين المتجذرين في محليتهم فيعرفون ما يدور، ويفهمونه ويكيفونه، ويعرفون كيف يكون التعامل مع الأشخاص الذين انتقاهم الإسلاميون كلاب حراسة في المجتمع المحلي.  
(و)
مبدئية المقاومة
(1)
يبين النزاع حول تابت أنه ليس مشروعاً التعاملُ غير المبدئي مع الوقائع، بعلة فساد الحكومة الإسلامية وإجرامها أو بعلة أن قضية دارفور عادلة. فأكبر الضرر يأتي من التساهل الانحيازي عند الكتابة عن المؤسسات التي نشأت حول قضية دارفور أو اهتمت بها، بما فيها راديو دبنقا، وهيئة محاميي دارفور، والمنظمات الطوعية بأشكالها، والجمعيات في المعسكرات مثل ما يسمى بالمنسقية للنازحين واللاجئين التي يتحدث عنها راديو دبنقا، وهنالك التساهل الفظيع مع الحركات المسلحة.
(2)
إن تجربة جنوب السودان ماثلة أمامنا، تهزنا هزا لكي نكون متيقظين فلا نصدق بعد اليوم إلا ما يأتي مع إثباته الكامل الواضح، بالتفصيل، اليوم قبل الغد. بعد أن تبينت لنا حقيقة "المناضلين" في الحركة الشعبية، سجلهم الكامل معروف اليوم، للجميع.
فاليوم تجد نظام الحكم والمؤسسات في جنوب السودان نسخةً مشوهة من نظام الدولة الإسلامية في السودان، بما في ذلك تفاصيل دارفور موجودة أيضا في جنوب السودان. اقرأ الصحف العربية والانجليزية اليومية الصادرة في جوبا، وتحدث مع من تعرفهم أو لا تعرفهم من أهل جنوب السودان، ستجد أن شعب جنوب السودان يعيش تحت ذات سلطة المثقفين الإسلاميين في السودان، بأسماء مثل كير ورياك ومالونق وغيرهم.   
(ز)
حديث المصلحة وإسقاط النظام
(1)
أُدرِكُ أن هنالك من أقلقتهم ملاحقتي راديو دبنقا، بينما كان الأفضل للمنتقدين محاولة تفنيد ما كتبته ودحضه، التفنيد والدحض  بغير نوع المغالطة في الحجج التي أوردها الأستاذ حامد بشرى (لا علاقة بحامد "بريمة" الذي ورد خطأ)، بمثل سؤاله "المحوري": "ما هي المصلحة وماذا تجني المعارضة من التشكيك في كل وثيقة تعري سوءات النظام بدءا براديو دبنقا مرورا بالحركات المسلحة وإيريك ريفز وأخيرا هيومان راتيس ...؟"
أقول لحامد بشرى إن خطاب "المصلحة"، بمفهومه في مقال حامد، ينطوي على مشكلة فظيعة. فتعرية سوءات النظام لا تكون بمثل هذه الحركات الكتابية المتذاكية. فلابد من أن نلتزم أخلاقية العمل العام في الدعاية ضد نظام الإسلاميين، بصرف النظر عن "المصلحة" الآنية التي نتوهمها من انتصارات كاذبة، وبصرف النظر عن الأجندة السياسية المفضلة في لحظتها، فالمصلحة الحقيقية بعيدة المدى منسوجةٌ في أخلاقية تناول القضايا بصورة مبدئية وفي استراتيجيات المقاومة الصحيحة. فنحن أمام المثقفين الإسلاميين، أخطر المجرمين، بيان إجرامهم في مسارح جرائمهم في طول السودان وعرضه. ولا تكون مقاومتهم بهذه الأسلحة الهزيلة مثل ابتداع قصة ملفقة عن جريمة عالمية لا ندري أوقعت أم لا، أو الترويج لوثيقة ثابت أنها مفبركة من قبل جهاز الأمن لأغراض الخداع.
(2)
يقول حامد إنه يريد أن يكون التركيز على البحث الدؤوب عن  "أنجع السبل" لـ "إسقاط النظام". فأختلف معه. لأن مناط البحث الصحيح، في حال قبول فرضية إمكانية إسقاط النظام بأشكال المعارضة الراهنة، ليس البحث عن تقنيات لتحقيق هذا "الإسقاط"، بل المعرفة السبقية لما سيحدث بعد فرار عمر البشير وكبار قادة المثقفين الإسلاميين، أو حتى بعد اتفاقية حبية للانتقال الجزئي تجنب السودان كوارث جنوب السودان وسوريا ومصر والقائمة معروفة.
مجددا، الدرس من تلك جمهورية جنوب السودان، ما أن عرف أهل جنوب السودان كيفية "إسقاط النظام" فطردوا الاستعمار العربي الإسلامي، إلا واستيقظوا  في اليوم التالي مذعورين وجدوا استعمارا داخليا أسوأ لم يكونوا مستعدين للتعامل معه. وجدوا الاستعمار الجديد مخلقنا من أصل الاستعمار العربي الإسلامي ذاته الذي تم طرده، في الخيال.
وجد أهل الجنوب بالتحرير والاستقلال ذات التقتيل، والتشريد، وحرق المساكن، والتعذيب، ونهب الممتلكات، والمليشيات المسلحة، وعدم الأمان، والعدوان على الصحفيين، والقوانين المقيدة للحريات، وتعبئة القبلية والعنصرية، واختطاف النساء هذه المرة من قبل مليشيا الحكومة، واهتراء الأجهزة العدلية بقضائيتها، وهيمنة العسكر وجهاز الأمن. نسخة مشوهة طبق الأصل من الدولة الإسلامية في السودان. بالإضافة إلى صناعة الفساد، برنامج المتنفذين في الدولتين. هذا ما حل بأهل جنوب السودان، تحديدا لأنهم لم يكونوا مستعدين لليوم التالي بعد طرد الاستعمار الخارجي. وحين بدأت الكوارث تحيق بهم لم تكن لديهم أية خطط ولا قدرات للتعامل معها.
(3)
المشكلات العميقة في السودان لا يحلها "إسقاط النظام" بالطريقة التي يتحدث عنها حامد بشرى، بدون الإعداد لليوم التالي.
فما أن يصحو الرومانسيون الحالمون مثل حامد بشرى في اليوم التالي، وقد قطعوا رأس الملك وفر كبار الإسلاميين إلى ماليزيا وربما جيبوتي، أو تنازل "النظام" في سياق الانتقال عن بعض مناصب لإفساح المجال لبعض قادة المعارضة، سيجد الرومانسيون ذات المؤسسة العسكرية الإسلامية الإجرامية موجودة، ذاتها التي اقترفت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في دارفور، ستكون موجودة تنتظر تتربص.
والقضائية الفاسدة، ستكون هي ذاتها موجودة بكامل هيئتها، بإضافات تجميلية لقضاة من "الأقاليم". والمؤسسات الاقتصادية والبنوك، والجامعات، وجميع المؤسسات العامة، ستظل كما هي محتلة بالكامل بواسطة الإسلاميين. ماذا ستفعل بهم أو معهم؟ شكلهم سوداني، وعاملين بريئين.
باختصار، ستجد الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة موجودة، وأنت بدون أي برنامج للتغيير، غير خطوط عريضة مبهمة بعبارات مسهوكة في أوراق مبعثرة في جيوب قادة المعارضة.
(4)
لكني أحيانا أقرأ أن المعاندين المتشددين في الجبهة الثورية، مثل عبد الواحد محمد نور وعقار والحلو وياسر، وربما مناوي بخطابه الجديد، هم الأكثر إدراكا لهذه الحقيقة المرة. تجدهم يتحدثون أحيانا عن بديل يستبطن الفكرة عن أهمية التغيير الحقيقي بالبرمجة السبقية. لكني لا أرى في برامجهم الوحيدة المنشورة، حيث لا قيمة لبرنامج سري، لا أرى الإعداد التفصيلي لهذا البديل الذي يتحدثون عنه بإبهام.
(5)
كتبتُ قبل عام أن الحل لهذه المشكلة يكمن في انضمام المثقفين الشباب إلى هذه الحركات المسلحة، دون حاجة للاشتراك في قتال أو الحضور في الميدان، مع الاحتفاظ بحريتهم الكاملة فيما يكتبونه وفي التعبير عن رأيهم غير مقيدين بالامتثال لتوجيهات قد تأتيهم من الزعيم أو القائد أو شيخ القبيلة في قيادة الحركة. تُحركُهم دواعي المناصرة للمواطنين في المناطق المعذبة.
فالحركات لن تتمكن لوحدها من صياغة البرامج التقنية البديلة، ليست لديها إمكانات المعرفة ولا مصادر المعرفة لتقديم رؤية متكاملة عن الاقتصاد مثلا، ولا عن المؤسسة العسكرية، ولا الأجهزة العدلية، ولا قطاع الاتصالات، ولا الزراعة، ولا الحكم المحلي. ستأتي بعد الاتفاق على الانتقال الجزئي لتجد المقاعد محتلة بالكامل من قبل الإسلاميين، وستجد الترتيبات الإسلامية مثبتة في أرض الواقع في المؤسسات، وليس مع هذه الحركات المسلحة أية فكرة مفصلة بحيثياتها يعتد بها لتغيير الوضع الذي يحاربونه. التغيير حتى على المستوى المايكروسكوبي الدقيق، وهو الأكثر أهمية. ألا ترى الحركات تركز بالدرجة الأولى على أكثر الموضوعات هامشية، "الترتيبات الأمنية"؟
(ح)
القضايا قبل إسقاط النظام
(1)
فلأقرب الصورة، نريد أن نتفق أولا، قبل استدعاء حلم إسقاط النظام، على كيفية البرمجة العملية للقضايا التالية، البرمجة المدعومة بتصميم الأهداف التي يمكن أن تتغير، ولا ضير أن تتغير لكنها لا تلغي الغايات، وهي البرمجة المدعومة أيضا بتبيين أنواع النشاط المحددة (ماذا سنفعل مع المليشيات؟ ومع القضاة الفاسدين؟ بالتفصيل)، وتبيين الجداول الزمنية التقريبية، في حال قاربنا حقيقة إسقاط نظام الإسلاميين المتحالفين مع العسكر، أو حتى إذا تم اتفاق على انتقال جزئي، فالاتفاق لا يلغي أهمية الاستعداد السبقي للمرحلة القادمة.
(2)
فيما يلي، أقدم عناوين لبعض القضايا التي تستدعي كل واحدة منها نشاطا فكريا ومشاركة واسعة النطاق، للوصول إلى مُخرَج مكتوب ومعلن منذ البداية، من مائتي صفحة أو ثلاثمائة صفحة على أقل تقدير، بشأن كل قضية على حدة، أي، خطة العمل الشاملة للتعامل مع القضية المحددة. واخترت هذه القضايا بسبب غيابها من الخطاب العام عن معارضة الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.
أولا،
المحاسبية على الجرائم العالمية
(1)
المحاسبية على الجرائم العالمية، كتلك في دارفور، ومنطقة جبال النوبة، وفي جنوب السودان أيضا، التي اقترفها المثقفون الإسلاميون المجاهدون وقادة المليشيات في القوات المسلحة السودانية. ولا ننس أية جرائم اقترفتها الحركاتُ المسلحة، بما في ذلك تجنيد الأطفال، والعبرة من جنوب السودان حيث تحول عدد مقدر من هؤلاء الأطفال لاحقا إلى قتلة نهابين.
فما شكل المحاكم التي ستحاكم هذه الجرائم العالمية؟ أم سننسى الملاحقة الجنائية، ونعود إلى الأجاويد ولجان الصلح القبلية ولعبة القس الضحوك في جنوب أفريقيا عن لجان للحقيقة والمصالحة، مما سيجد له مؤيدين كثرا من الحرس القديم؟
وما نفعل بعمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين وبقية المجموعة المتهمة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية لدى المحكمة الجنائية؟
(2)
الذي أراه أنه يلزم أن تكون جميع المحاكم وطنية، لا عالمية، ولا هجين، بحيث يقتصر المكون الدولي الأجنبي إن احتيج له على التدريب والمراقبة، فالجرائم في السودان تهم البشرية جمعاء لذا لزوم المكون الأجنبي في هذه الحدود. وذلك يطرح بحدة مشكلة القضائية الإسلامية الفاسدة، حيث لن يكون متيسرا أي حديث عن محاسبية ذات مصداقية في وجود هذه القضائية الفاسدة التي نعرفها.
ولا يعين في هذا الأمر استقدام قضاة من دول عربية أو أفريقية، حيث الأغلبية العظمى من القضائيات فاسدة. بما في ذلك في مصر والمغرب وتونس، إن أردنا ضمان عامل اللغة العربية.  لكن، في جميع الأحوال، لا يعني لزوم المحاكم الوطنية، وهو الطريق الصحيح، قبول القضاء الإسلامي السوداني الفاسد، فلابد أولا من حل القضائية السودانية والبدء من جديد لإنشاء قضائية جديدة من بين مهامها محاكمة الذين اقترفوا الجرائم العالمية والذين اقترفوا جرائم الفساد التي تقتل. وهذه ليست أحلاما، لكنا نعرف أنها لن تحدث بدون الإعداد السبقي لها.
(3)
وحتى إذا تقرر بالاتفاق الجماعي بين المعارضين والإسلاميين عدم تسليم عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية وتركه يذهب إلى قريته في حوش ود بانقا، أو حتى إلى أحد قصوره يعيش منبوذا حقيرا يردد مع نفسه أقواله الاحتيالية الكاذبة عن أنه يشعر بالندم على أفعاله في تقتيل المدنيين في دارفور، يجب أن يكون ذلك الاتفاق مكتوبا بالعلانية منشورا، حتى نطوي هذا الملف، فلا نقفز برد الفعل كلما فاجأتنا فطومة بحركة.    
ثانيا،
استرداد الأرصدة المنهوبة
(1)
كتبت قبل عام ويزيد أن استرداد الأرصدة المنهوبة هو الهم الأساس لدى عصابات المثقفين الإسلاميين. وسبب تمسكهم بعمر البشير الذي يحتقرونه. قد تبلع الأرصدة المنهوبة أكثر من مائة بليونا من الدولارات، بما فيها قدر كبير من عائدات البترول، نهبها الإسلاميون خلال أكثر من ربع قرن، وذلك هو أصلا كان برنامجهم المعد سلفا قبل الانقلاب وإسقاط النظام الديكتاتوري الفاسد أيضا تحت قيادة الصادق المهدي.
لكن استرداد الأرصدة أمر بالغ التعقيد، وسيتطلب عشرة أعواما على أقل تقدير للحصول على بعض ما تم نهبه. عليه، لابد من التخطيط  المبكر للملاحقة المستمرة، بالبدء في النظر في كيفية تصميم برنامج متكامل والاتفاق على استراتيجية للتعامل طويل الأمد مع هذا الموضوع بضمانات دستورية لعدم الحيدة عنه مهما طال الزمن. وله مختصون يعرفون كيفية التعامل معه.
(2)
هنالك تغييرات دولية في الأفق بالإضافة إلى ثورة المعلوماتية كلها ستجعل من المستحيل على الإسلاميين اللصوص الاحتفاظ بالأرصدة المنهوبة أو بسريتها، رغم مكر الإسلاميين، ورغم عدم أخلاقية المحامين الدوليين المتخصصين في الدفاع عن السَّرَقة أمام المحاكم الغربية حيث بعض الأرصدة مودعة. وهنالك مشكلة الدولتين المفسدتين ماليزيا والصين، وروسيا أيضا.
(3)
وإلا فليصرح كل قائد من قيادات المعارضة باركوها يا جماعة البلايين دي خلوها ليهم، بالواضح، وليقولوا بالواضح نحن عايزين ننسى الماضي، نحن للمستقبل، والعفو والغفران والسماح، واللغة المعروفة يتفق معهم عليها الترابي مع سلفا كير وريك مشار، في أقوى تجليات الوحدة الشمالية الجنوبية.
لم يكترث قادة الحركة الشعبية لنهب الإسلاميين بترول جنوب السودان قبل الاستقلال فقط لأنهم كانوا جزءا من عملية النهب، وكانت نظرتهم مستقبلية أن دورهم جاي، بالاستقلال. والتفكير عقلاني بالطبع، موضوعه المصلحة.    
ثالثا،
الإسلام في الدولة
(1)
الإسلام كدين موضوع بسيط لا تعقيد فيه، وهو ليس مهما كموضوع سياسي. أمر شخصي خاص بالمسلم الفرد في علاقته مع من يعتقد أنه الله عنده شريعة أوحى بها لمحمد في غار حراء عبر الملك جبريل، اعتقاد شخصي لا يتجاوز الفرد المصدِّق فيه دون معقب عليه من قبل الدولة أو من قبل آخرين.
فيمكن لهذا الفرد مع مجموعته الاختيارية أن يعيش حياته كمسلم بالطريقة التي يراها، في إطار الحدود القانونية المسوح بها بسبب العلاقة التعاقدية الطوعية مع آخرين في مساحة الدولة القطرية ذات الحدود. حيث لا مجال لحدود الشريعة أو لحكمها في مثل هذه الدولة.   
ليس هذا المسلم السوداني العادي إلا ضحية إجرام المثقفين الإسلاميين أعضاء الجهاز في الدولة الإسلامية، انظر ما فعله المثقفون الإسلاميون بالمسلمين في السودان. ودع عنك من صنفوهم كفارا.
(2)
تظل المشكلة "إسلامية الدولة". فلابد من النظر في هذه القضية بصورة واضحة، والذي أراه أنه لا مكان للأيديولوجية الإسلامية، تحت التسمية المخادعة "الإسلام"، في نظام الحكم أو في المؤسسات العامة أو في ترتيب الحياة الخاصة بواسطة الحكومة.
فقد تبينت حقيقة الدولة الإسلامية، في تجربة الإسلاميين المتحالفين مع العسكر، خلال ربع قرن من الزمان ويزيد أتيح لهذه التجربة من الموارد والقدرات وفرص التجريب ما لم يتح لأية دولة إسلامية في العالم بعد الاستعمار، وقد طبق الإسلاميون في السودان الشريعة الإسلامية بصورة "صحيحة"، بما في ذلك بالاجتهاد وبالتجديد. فلا تترك تجربتهم الرائدة في تنزيل الإسلام في مساحات الدولة أي مجال لحديث غير أن الدولة الإسلامية بطبيعتها وبالضرورة المفهومية دولة إجرامية عنيفة وإرهابية. لا يمكن لها أن تنشأ أو أن تضمن استمراريتها بغير هذي تكنولوجيا الإجرام. والدليل بين أيدينا. الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة. فالمثقفون الإسلاميون الذين اقترفوا المفظعات المعروفة في بيوت الأشباح وفي زنازين الأمن لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يجدون فيه متعة. بل لأن هذه الممارسات كانت ضرورية لإنشاء الدولة الإسلامية كالوسيلة ليستمروا في الحكم لتحقيق برنامجهم في صناعة الفساد.  
(3)
وكذا لا تترك تجربة الإسلاميين في السودان مجالا لحديث عن شريعة أخرى، سمحاء، هناك في الأفق، أو في الخيال، مما يطرحه أولئك الإسلاميون المتحللون بالقول إن هذه الشريعة الأخرى، المختلفة عن بتاعت الترابي وعمر البشير وعلي عثمان، ستكون البديل الملائم المقبول، في أذهانهم الأمريكان والأوربيون، بقليل تجيير لهذه الشريعة المتخيلة، تجييرها بالدسترة وحقوق إنسان وكلام عن المواطنة والنسوان. وكله محض أوهام، فليست الدولة الإسلامية، أو الإسلام في الدولة، إلا ما يتم تطبيقه وما تم أصلا تطبيقه بطريقة صحيحة وفق نصوصه الواضحة في القرآن والسنة وبالاجتهاد والتجديد، فعرِفه وخبِره أهل السودان أغلبيتهم مسلمون لم يجنوا من تنزيل هذه الشريعة الصحيحة في نظام الحكم وفي المؤسسات وفي الحياة الخاصة غير الإفقار والتعذيب والحروب والإبادة، دائما على أيدي  المثقفين الإسلاميين المجاهدين، بصورة مباشرة.
...
فما برنامج التغيير من قبل المعارضة في بُعده المتعلق بموقع الإسلام في الدولة؟
(4)
إن الحديث المبهم لدى المعارضة عن "دولة ديمقراطية علمانية" لا يكفي، وهو حديث هروبي. خاصة وأن الدكتور عبد الله النعيم يطرح فكرة دولة إسلامية علمانية، وإن كان لا يسميها هكذا إسلامية علمانية، لكنها كذلك هي إسلامية، في جميع الأحوال، بالرغم من مداعبتها لفكرة العلمانية. فلا تتحقق إسلاميتها العلمانية إلى ومعها متاع الإسلامية التاريخي الضروري، في العنف والقهر والإرهاب، مهما وضعت هذه الدولة الإسلامية من دساتير ومهما لهج لسانها بالمواطنة ومهما خادعت بلغة حقوق الإنسان.
(5)
يتعين على المعارضين أن يحددوا موقفهم بوضوح من موقع "الإسلام" في نظام الحكم وفي المؤسسات العامة وفي ترتيب الحياة الخاصة. فالشفافية مطلوبة هنا. وما عاد رفض الإسلام كدولة أمرا يتمكن المثقفون الإسلاميون من الدفع ضده بإرهاب فكري كما اعتادوا في سابق الأيام في المجتمع المسلم. فقد قوضت تجربتهم الإسلامية كل ادعاءاتهم الاحتيالية الكاذبة، ولم يبق لهم غير التشبث بجهاز الدولة، وسيلتهم الأساس لصناعة الفساد، ومن ثم تكريس العنف والقهر والإرهاب كالأيديولوجية الجديدة، تجدها اليوم في الممارسات الظاهرة وفي القوانين وفي الخطاب وفي صرح جهاز الأمن.
رابعا،
مليشيا القوات المسلحة
(1)
القوات المسلحة، كما أسلفت، تجمع ميليشيات إجرامية، لا يغير منه وجود أشخاص فيها أقلية لا يقترفون الجريمة ولم يقترفوا يوما جريمة، فبذلك تاريخها العام الثابت يصبح الحل العقلاني الوحيد حل هذه المؤسسة الإجرامية. مما لابد من الاتفاق عليه وتثبيت مشروعيته في الأجندة كموضوع مقبول النظر فيه، على أقل تقدير.
المهم هو تقديم مشروع حل القوات المسلحة، ففي كتابة مثل هذا المشروع ستستبين إمكانات في الأفق للتغيير. وليس مهما بالطبع الاتفاق مع الإسلاميين الذين سيرفضون هذه الفكرة الجريئة، المهم هو أن يكون تم طرحها بالتفصيل قبل إسقاط النظام أو قبل الاتفاق على الانتقال الجزئي، مما يعطي الفكرة مشروعية حتى إذا تم التخلي عن الانشغال بها في سياق تفاوضي.
(2)
حل القوات المسلحة فكرة تثقيفية للمواطن في السودان الذي لم يجنِ من القوات المسلحة السودانية إلا التعذيب والعذاب والفساد، بل وتدمير السودان. ولا تحظى المؤسسة بأي احترام في السودان، وهي أضافت إلى رصيدها في الخزي إرسال كتيبة من المرتزقة لمحاربة الحوثيين أصحاب الحق في بلادهم، المحاربة نيابة عن أبناء الشيوخ من الدول المعتدية على اليمن.
على الأقل، سيصحو هذا المواطن السوداني ليتفكر كيف لم يكن فكر سبقا في لزوم حل هذه المؤسسة الإجرامية.
خامسا،
القضائية الإسلامية الفاسدة
(1)
هذه الشركة الإجرامية، كتبت عنها عدة مقالات وسأعود إليها قريبا لإكمال المقالات المائة الموعودة. ما نفعل بها، بعد قطع رأس الملك، أو بعد "الانتقال" الجزئي؟ وما نفعل بقضاتها الألف ويزيد الفاسدين، فيما عدا تلك الفئة الضئيلة من النزيهين ناس محمد إبراهيم محمد ومحمد أبو زيد عثمان؟
(2)
فحتى إذا تم طرد رئيس الشركة الإجرامية، حيدر، وتم وضع دمية من المعارضة مكانه، ماذا سنفعل بالقضاة دهاقنة الفساد في المحكمة القومية العليا: عبد الباسط عبد الله حامد، وهبي أحمد دهب (المختفي اسمه من السجل)، صلاح التيجاني الأمين، أحمد محمد عبد المجيد، مرزوق الصديق خوجلي، سيد أحمد المبارك حامد، البشرى عثمان صالح، فادية أحمد عبد القادر كريم الدين، آسيا بابكر مختار، إلهام أحمد عثمان وني، نادية سليمان عبد الرحمن، آدم محمد أحمد إبراهيم، بكر محمد بكر عبد اللطيف، والقاضي برعي محمد سيد أحمد؟
والقائمة ممتدة إلى محكمة الاستئناف حيث القاضية الفاسدة كوثر عوض عبد الرحمن، والمحاكم أول درجة حيث قضاة فاسدون محتالون أيضا: أزهري شرشاب، أحمد الطيب عمر، يحيى أحمد محمد خير، أنس حسن مالك، وعثمان عطا المنان.
(3)
فالقاضي مؤسسة قائمة بذاتها. ونحن في الدلفة الجديدة لقضيية الحياة. وسيتم تكييف القضايا الخلافية في السودان أمام هؤلاء القضاة الفاسدين. وسيكون للمحكمة الدستورية، وهي ليست جزءا من القضائية، دور مقدر في الفصل في النزاعات مع الدولة، ونعرف أن الفساد طال حتى رئيسها الذي طرده الإسلاميون لأسباب صحيحة، كحق أريد به باطل في سياق الصفقات والنزاعات الداخلية حول ريع الفساد.
(4)
وماذا عن أمر المادة الدستورية 128-3  عن استقلال القضاة؟ التي تحصن القاضي من المحاسبية حتى إذا كان فاسدا إلعنة شريرا وهمباتيا مرتشيا يرابط في المحكمة يصدر القرار القضائي الفاسد: "لا تتأثر ولاية القاضي بالأحكام القضائية التي يصدرها"، هكذا بإطلاق.  
(5)
وما تفعل بالمحامين الفاسدين، أمثال المحامي علي أحمد السيد، أحد أقطاب المعارضة همه تقويض الدولة والمجتمع بالإفساد الذي لا يعرف حدودا؟ ودونك ربيبته المحامية الفاسدة إيمان المك؟ والموظفين الفاسدين في المحاكم؟
أيتم التعامل مع هؤلاء بمفوضية الفساد؟ أبقانون الفساد لمكافحة الفساد؟ أم بباركوها يا جماعة، الفات مات؟
سادسا،
ماذا سنفعل بتركة الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة؟
(1)
فلنتصور اليوم التالي بعد قطع رأس الملك، أو بعد الانتقال الجزئي السلمي سيان، يوم الجلابيب والشالات والملافح والسلام بالأحضان والمضاحكات بين الإسلاميين ومعارضي الأمس أخيرا وجدوا كَدَّة، بينما المؤسسات الإسلامية قاعدة لابدة تتمسكن تنتظر انتهاء الحفلة؟ باختصار، ماذا سنفعل بتركة الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة؟
تلك أعلاه أسئلة وقضايا محورية لا يمكن إرجاؤها إلى ما بعد "إسقاط النظام". وليس مهما الاتفاق مع الإسلاميين حولها، حتى قبل انتقال جزئي سلس، المهم هو طرحها في وثائق تنطوي على التشريح العلمي الدقيق وعلى اتجاهات الحل والبدائل الممكنة.
(2)
ليست الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، وهي موضوع المعارضة، متمثلة في عمر البشير ولا في قيادات الإسلاميين. بل في المؤسسات جميعها. فبدون تفكيك هذه المؤسسات، بمعنى تحليل ممارساتها وحركياتها ومكوناتها البشرية والكيفية التي تصنع بها الفساد، كل واحدة منها على حدة، ثم اقتراح البديل لكل واحدة، سنجد أنفسنا في اليوم التالي لقطع رأس الملك وفرار عمر البشير وقادة المثقفين المتحالفين معه، أو لنقل في اليوم التالي لاتفاق على انتقال جزئي، سنجد أنفسنا مثل مني أركو مناوي في القصر، دمية في القصر، بخدعة وظيفته كبير مساعدي رئيس الجمهورية، بينما المؤسسات ظلت تدور كما كانت في السابق تدور، لا تعرف مناوي ولا تريد أن تعرفه.  
(3)
لكن مناوي، بعد فوات الأوان، أدرك الخطأ الاستراتيجي الذي كان وقع فيه، أنه كان جاء إلى أحضان المثقفين الإسلاميين خالي الوفاض دون أية برامج تفصيلية لما كان يريد أن يكون عليه السودان، أو حتى لما كان يريد أن تكون عليه منطقة الزغاوة المهجورة للتصحر في شمال دارفور.
وإلا لكان مناوي، إن كانت لديه البرامج التفصيلية المكتوبة، فرض النقاش حول مشروعات منشورة وثائقها على الملأ، لتأطير الحوار، ولتثبيت المعاني الجديدة التي نراه يفصح عن عناوينها في الآونة الأخيرة.
ومما يحمد لمناوي أنه رفض ذلك دور الدمية في القصر. ذاته الدور الذي يُعدُّه الإسلاميون اليوم للمعارضة. هذه سياسة الإسلاميين المعتمدة لا يمكن مقاومتها بالاعتراض أو الاحتجاج، بل بالبرامج البديلة المفصلة المنشورة حول جميع القضايا التي قدمتُ بعض أمثلة لها أعلاه.
(4)
إن الذي يصمت عنه خطاب المعارضة أخطر وأهم مما هي تفصح عنه، مثل إفصاحها المتكثر عن تلك "الترتيبات الأمنية" وهي قضية هامشية لا تهم أحدا غير المناضلين يريدون وظائف في مجال العسكرة!  
(5)
بدون الخطط التفصيلية المنشورة علنا المتفق عليها بصورة معقولة، للبديل، لا معنى لإسقاط النظام بفعل عنيف لا نرى جاهزيته ولا أدواته، أو بفعل تفاوضي لانتقال جزئي مخادع، لأن ذلك إسقاط النظام سيكون فعلا خاويا وعبثيا، بتضحيات تضيع هدرا، وبخيبة الأمل الأكيدة.
والدرس أيضا من سابق وضعيات "إسقاط النظام" في تاريخ السودان. فقد كان البديل دائما أسوأ من سابقه المتَحسَّر عليه لاحقا، فشلت جميع البدائل لأنها لم تكن أتت مستعدة ببرامج  تفصيلية للتغيير، وانشغلت بالترهات، رزق اليوم باليوم.
باستثناء حالة إسقاط النظام الدكتاتوري بقيادة الصادق المهدي، حين نفذ الإسلاميون انقلابهم وكان عندهم برنامج متكامل، جاهز، لنهب الموارد ولتمكين أنفسهم كقبيلة إسلامية، مستخدمين خدعة الإسلامية كأيديولوجية لتركيز دولتهم الإجرامية الفاسدة، وقد نجحوا في ذلك بصورة منقطعة النظير، لا يثير قلقهم اليوم إلا موضوعان: المحاسبية على الجرائم التي اقترفوها، واسترداد الأرصدة التي نهبوها. بينما نجد هاتين القضيتين المعقدتين مغيبتين من هموم المعارضة في ملاعبتها لفكرة "إسقاط النظام".
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com

 

آراء