وقف الحرب وبدء الحوار مع الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة (2-3)

 


 

 



ushari@outlook.com

(1)
أتابع فكرتي المقدمة في المقال السابق عن لزوم تخلي الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق التخلي بصورة نهائية عن العمل العسكري المسلح، والاندراج في المقاومة المدنية. ليس ضروريا أن يكون هذا التغيير الاستراتيجي، والذي لا يحدث إلا في سياق المراجعة الأخلاقية الشجاعة المشدودة إلى العقلانية وإلى الرحمة، ليس ضروريا أن يكون التغيير مدفوعا باتفاق مع نظام الإنقاذ. على أقل تقدير، لابد من حرمان النظام من فرصة تصوير مثل هذا التغيير إن حدث على أنه انتصار للنظام. فلتَكتُب الحركات المسلحة في تاريخها أنها قررت، على استقلال، التخلي النهائي لا رجعة فيه عن استخدام العنف في أي شكل من أشكاله وسيلةً لتحقيق الأهداف السياسية في السودان.
(2)
فالذي يحدث في كثير من الأحيان أن المعارضة تفكر داخل الأطر التي يحددها نظام الإنقاذ أو الاتحاد الأفريقي أو الأطر التي كانت هي حددتها لنفسها، ومن ثم لا تفكر هذه المعارضة خارج هذه الأطر، مثل إطار التخلي عن العمل المسلح، وهي لا تطرح هذا التخلي  أصلا حتى كاحتمال، ولا تنظر فيه إلا في سياق ما يسمى "تحقيق السلام" بفهم لديها أن المسار إلى السلام يمر عبر تصعيد العمل العسكري ضد النظام، وفي ذلك مغالطة.
مغالطة، حين نتذكر طبيعة رد فعل الدولة الإسلامية الإجرامية، ما فعلته في دارفور، ما أن صعدت الحركات المسلحة عملها العسكري، حتى حول المثقفون الإسلاميون الحرب لتكون ضد المدنيين الفور والزغاوة والمساليت. وتبيَّن لاحقا أن المسؤولية عن الخسائر البشرية الفادحة الناتجة من إجرام الدولة الإسلامية في رد فعلها على العمل المسلح من حركات دارفور قد تدق باب هذه الحركات المسلحة، خاصة حين ننظر في خلافات هذه الحركات وتشظيها وأحيانا مشاركتها في تعذيب المواطنين وفشلها في تحقيق الأهداف التي كانت قالت إنها حملت السلاح لأجلها، ولن تتمكن هذه الحركات المسلحة في دارفور من أن تفسر أي تغيير إيجابي قد يحدث لأهل دارفور في المستقبل القريب أو البعيد على أنه كان بسبب الكفاح المسلح.
بل قد يفضي التحليل والتقييم إلى أن أية وضعية أفضل تحققت لأهل دارفور أو قد تتحقق لهم في المستقبل كان يمكن تحقيقها بدون الحرب بخسائرها، أي بدون الحركات المسلحة. فحتى الحرب النضالية التي حررت شعب جنوب السودان من الاستعمار العربي الإسلامي يمكن تقييمها على أنها حرب فاشلة، لأنها جاءت باستعمار محلي زبانيته المناضلون الذين ما أن استلموا السلطة حتى نهبوا الموارد وقتلوا أهل جنوب السودان تقتيلا ويكتمون اليوم أنفاسهم يفرضون أنفسهم عليهم حكاما.    
(2)
كنت بينت أن طبيعة نظام الإنقاذ، المتمثلة في إسلاميته، وفي إجرامه، وفي فساده، لا يجدي معها عمل مسلح، مما يدور الآن. وأن المقاومة الشعبية المستمرة التي لا تنتهي هي الكفيلة بوضع نهاية للدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة في السودان وبإحلال بديل علماني عقلاني مكانها.
في هذا المقال القصير أقدم باختصار قراءةً تُشخِّص حالة نظام الإنقاذ كما هي متمثلة في "مؤسسة رئاسة الجمهورية"، مؤداها أن الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة وصلت مرحلة متقدمة من الاهتراء في جميع مؤسساتها، مرحلة لا يجديها فيها أي دواء من أي نوع، بما في ذلك دواء الحوار، ولم تعد هذه الدولة قادرة على تقبل علاج، حتى إن توفرت لها العقاقير ذات النجاعة المختبرة. مرحلة يسير خلالها نظام الإنقاذ نحو موته غصبا عن رغبة أصحابه المثقفين الإسلاميين.
(4)
يعرف الجميع حالة نظام الإنقاذ، وهم شرَّحوا جميع مؤسسات النظام فوجدوها معلولة بالإسلامية وبالإجرام وبالفساد. فأقتصر على الإشارة إلى هذي "مؤسسة رئاسة الجمهورية"، لأن حالة رئاسة الجمهورية هي حالة نظام الإنقاذ كنظام. أريد أن أمثل لاستحالة قدرة نظام الإنقاذ على علاج نفسه، أو إعادة إنتاج نفسه، أو النكوص، أو العودة إلى فترة سابقة حالمة، أو على تحقيق الحريات خدعة الإسلاميين الجديدة. وعن هذه الخدعة الجديدة خطاب الحريات، نعرف أن الإسلاميين بل سيستميتون في قمع الحريات، يدركون أنها أكبر خطر على نظامهم، وهي ليست في قاموسهم، ولا توجد أصلا حريات في دولة إسلامية تدعي أن ما تدعو إليه هو ما يريده الإله.
(5)
غرضي من هذا التشخيص أن أبين أنه لا معنى لأن يضحي الشباب بأرواحهم في الحرب ضد نظام وصل إلى هذه الحالة الصحية المتردية ولا أمل له في الحياة. وهي حالة "مرضة الرئيس"، لكنها لا تقتصر على عمر البشير كفرد بل تتعداه إلى حالة الدولة الإسلامية، لأن عمر البشير، في هذا الحالة، يتمثل مؤسسة إسلامية تجسدِن على المستوى الرمزي والموضوعي النظام بأكمله.
فمؤسسة رئاسة الجمهورية، وفيها عمر البشير، رمزُ دولة المثقفين الإسلاميين السودانيين، وهي حلمهم في الخلافة الإسلامية، كانوا يوما مع الدكتاتور جعفر النميري حسبوا هذا الحلم تحقق، فتحالفوا مع الدكتاتور ومعه قطَّعوا الأيدي والأرجل من خلاف وركَّبوا المشانق للمعارضين، وعقد قضاتهم جلسات الاستتابة، وجلدوا النساء، وانتهكوا الحرمات، بتطبيق صحيح ودقيق للشريعة الإسلامية، وخرجوا في مسيرات يحملون المصاحف يرهبون بها معارضيهم، ونصَّبوا الدكتاتور جعفر النميري أميرا للمؤمنين وبايعوه.
لكن بعد أن تبدد حلمهم وتسرب من بين أيديهم، ووجدوا أنفسهم في سجن الإمام قبل الانتفاضة مباشرة، تمكنوا من إعادة إنتاج أنفسهم في الجبهة القومية الإسلامية. ومن ثم كانوا قادرين، ولم يكن المرض المورث استشرى في الجسد، على إعادة إنتاج أنفسهم مجددا وحققوا حلمهم بانقلابهم العسكري ونصبوا من كيفوه في مقامية أمير المؤمنين، عمر البشير في القصر رئيسا، حتى يعود الإمام الغائب حبيس سجن كوبر، حسن الترابي.
(6)
فها قد مر أكثر من ربع قرن على الانقلاب العسكري، وعلى ظهور الإمام الترابي من سجنه في كوبر، وخلال هذه الفترة استشرت عدة أمراض في أعضاء جسد الدولة الإسلامية، فما النتيجة اليوم في "مؤسسة رئاسة الجمهورية" مثالا، وهي حلم الإسلاميين أن يحكموا؟
 الجواب في "مرضة الرئيس" الراهنة التي لا شفاء منها. مرضته المتعلقة بلزوم سرية سفره إلى الخارج بالليل فقط، باللفة، متنكرا في زي غير زي رئيس، في سعيه اليائس يتملكه الرعب يريد التخفي من فطومة، لا يخشى شيئا مثل خشيته من أن هذه الهركولة الجميلة من دويلة غامبيا الأصغر من حلة ود بانقا ستكون متربصة تنتظره في اللفة، قبضتك!
فلا توجد في العالم المعاصر حالة إذلال رئاسي مماثلة لحالة إذلال رئيس دولة المثقفين الإسلاميين. وهي حالة تلخص وضعية الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، وحالة مثقفيها الذين يعيشون حالة إنكار وخدع للذات. ما أن نتذكر هذا الإذلال الرئاسي، حتى تتضح أسباب مبالغة عمر البشير في استعراض  ذكورته، بالكواريك، وبالتهديد للمعارضة، وبالرقص، وهز عصاته، وغيبوبته أو هي حضرته أو سكرته بكواريك المجندين بملابسهم الملكية يتصنعون أنهم الجمهور.
كذلك نرى عمر البشير يستعرض ذكورته بخطاب بغيض وسقيم عن كيف يكون الحوار في قاعة الصداقة، موضوع الجدل.
فما الذي يمكن لعمر البشير فعله لمسح الوصمة التي ألصقتها به فطومة؟ ما الذي يمكنه فعله ليغير وضعيته من رئيس جمهورية حقير ذليل بين رؤساء الدول إلى رئيس له وضعية حتى إن كانت مثل وضعية موقابي؟ لا شيء. فقد قُضي الأمر بتاريخ عمر البشير وبتلك مذكرة التوقيف التي سجلت رئيس جمهورية الإسلاميين متهما مطلوبا للعدالة، فأصبح فارا من العدالة.  وجميع المثقفين الإسلاميين أعضاء الجهاز فارون مثله من العدالة.
(7)
باختصار، لقد وصلت كل مؤسسة من مؤسسات نظام الإنقاذ مرحلة قررت فيها المؤسسة، دون وعي منها، أن تنتحر، ببطء، وكل مؤسسة إسلامية تسير ببطء إلى حتفها حتى وهي تظل تتمسك بأهداب الحياة. نراه في مؤسسة رئاسة الجمهورية التي وصلت مرحلة من المرض لا شفاء منها. ونراه في القضائية، والقوات المسلحة تحالف المليشيات الإجرامية، وفي جهاز الأمن، وفي المؤسسات العامة، وفي القطاع الخدمي. وهو تحليل عن وضعية الإنقاذ تتفق معه المعارضة المسلحة.
وذلك يعني عندي أنه لا معنى لاستمرارية العمل المسلح الذي تجد فيه الدولة الإسلامية سببا للانتقام من الأطفال والنساء في دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، بينما الخلاص من هذه الدولة الشريرة يبدو قريبا حتى بدون عمل مسلح.
لسنا في منتصف التسعينات من القرن الماضي حين كان بإمكان نظام الإنقاذ إعادة إنتاج نفسه أو معالجة أمراضه. أما وقد فات الأوان، وتلك هي وضعية رئاسة الجمهورية ذاتها، رمز الدولة الإسلامية التي تعيش أحيانا على الرموز، يتعين أن نعمل كل شيء للمحافظة على الحياة، ليحضر أكبر عدد من أهل السودان نهاية الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، وليعيشوا في دولة عقلانية.
 ...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com

 

آراء