أساس الفوضى (10) … بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com

سنتطرّق لظاهرة الفكر الأيديولوجي، وهو وَهْمُ امتلاك الحقيقة المطلقة، والثبات المُتحجّر على رأيٍ ما، مهما بان خطله، ونفي للرأي الآخر، وهو ما يُعرف ضمنيّاً بالتّعصّب الذي قال عنه الفيلسوف دنيس ديدرو: "لا يفصل بين التعصّب والبربريّة إلا خطوة واحدة".

وأقول أنّ التّعصّب أشدّ فتكاً من البربريّة، فالنظم العقائديّة متعصّبة وشموليّة، ويكفيك أن تقلّب عينيك أنّي شئت لتري ثمارها المُرّة، بينما النظم المتحرّرة، التي تُسمَّي ديمقراطيّة، بربريّة، إذ أنّ للأخيرة أخلاق تجاه شعوبها، إذ لا تُذلّ بني جلدتها ولا تهضم حقوقهم ما وسعها الأمر، وتسوم الآخرين أنواع العذاب.
 
وقد لاحظت أنّه كلّما اجتمعت مع نفرٍ من أهل وطني، وتشعّبت بنا طرق الحديث إلّا وتعالت الأصوات، وتحدّث النّاس في وقتٍ واحدٍ وسادت الفوضى. لاحظت أنّ هذا الطبع أكثر عند النّساء من الرجال، ثمَّ أثبتت الأبحاث العلميّة أنّ بين الجنسين فوارق في تركيب المخ وعمل الذاكرة.

فبينما لا يستطيع الرجل أن يتحدّث في أكثر من موضوع في وقت واحد ويشارك في اثنين آخرين في نفس المكان، تستطيع المرأة أن تتحدّث في سبعة مواضيع وتتابعها في نفس اللحظة.

وبينما الرجال يتحدّثون عادة عن الرياضة أو السياسة أو الأديان والفلسفات أو النساء والبعض عن الفن بأشكاله، ويقتلون الموضوع نقاشاً ولجاجةً، فإنّ النساء لا حدود للمواضيع لديهن وهنّ يتنقّلن من موضوع لآخر مثل الفراشات.
والشخص المستقبل، غير المشارك، لا يسمع إلا لغطاً وضوضاء، ويعتبر أنّ المسألة فلتت من عقال النظام إلى عشوائية الفوضى. فما الذي يجعل الاستقبال يبدو مشوّشاً؟

السبب هو تداخل خطوط المواضيع والأصوات بلا نظام تحكّم معيّن، مثل رئيس الجلسة الذي يعطى كل شخص الفرصة للحديث والتعبير عن رأيه، وبذلك يقلّل من فرص الكلام التلقائي والتشويش.
حتى إنّ الإنسان الذي يستمع للمذياع وتتداخل مع محطّته محطّات أخرى سرعان ما تسرع يده لضبط المؤشّر حتى يقلّل من التدخّل ويصفّى قناة البثّ حتى يسمع بوضوح.
 
فالفوضى تسود إذاً عندما تطغى العشوائيّة، أو عدم الوضوح على الأشياء، أيّاً كانت فيزيائيّة أو حيويّة أو اجتماعيّة، وحينها تعتمد الأفعال والأحكام التي نتّخذها على الصدفة فقط.

بمعنى آخر عندما يفقد العنصر الفاعل أو المُتفاعل، إذا كان جماداً أو حيواناً أو إنساناً، القدرة على التّحكُّم في بيئته، أو في مسار فعله أو النتيجة المرجوّة، فيضلّ الطريق إلى هدفه، وذلك لكثرة التشويش وغياب الرؤية التي هي العَشَا؛ وهو في اللغة سوء البصر بالليل والنهار وفي الفلسفة سوء البصيرة.

فمثلاً إذا بدأ أحدهم الحديث في جماعة عن موضوعٍ ما وقاطعه شخصٌ آخر، ثمَّ قاطعه شخص آخر، ثمّ تداخل معهم شخص آخر يصير الأمر هرجلة، ويفقد المتحدّث الأوّل التّحكّم في مسار الحديث، أو في تصرّفات المجتمعين، حتى يغيب الموضوع تماماً تحت ركام مواضيع أخرى وينتهي الأمر إلى مستقرٍّ غير مقصود.
 
وفى الحديث: "يا معشر العرب احمدوا الله الذي رفع عنكم العُشْوَةَ؛ يريد ظلمة الكفر، فكلّما ركب الإنسان أمراً بجهل لا يُبصر وجهه فهو عُشوة، وهي أيضاً تعنى الأمر الملتبس، ونقول ركب فلان العشواء
إذا خبط أمره على غير بصيرة.

فإذا كانت الفوضى من السهولة بمكان أن تحدث في تجاذب حديث بين جماعة قليلة فما بال في شعب بحاله أو مجموعة كبيرة؟
للفوضى المجتمعيّة سببان: أحدهما طبيعة الثقافة والثاني طبيعة الإنسان وما ينشأ عن التفاعل بينهما وسنوجّه حديثنا في هذه الحلقة للثقافة السائدة والإيمان المتيقّن عند النّاس بصحّة معتقداتهم أو أفكارهم وهي ما نسمّيها بالأيدلوجيّة، ثمَّ ندلف بعدها لطبيعة الإنسان والتفاعل بين الثقافة والطبيعة.

فالثقافة هي مجموع المفاهيم السائدة في مجتمعٍ ما أو مجموعة ما، والتي تنشأ من تراكم العقائد أو الفلسفات أو الأفكار أو العادات أو منها جميعاً بدرجات مختلفة من تقديم البعض وتأخير البعض، في كلّ مجتمع أو مجموعة على حدة، وذلك خلال فترة طويلة حتى تنصهر في بوتقة واحدة حتى تصير صبغة لذلك المجتمع أو المجموعة تُعرِّفهم وتصير هويّتهم.

ينطبق هذا على أشياء كثيرة في حياتنا ومن أبسط أمثلتها طبخ الطعام، فهو عبارة عن تجمّع مكوّنات عديدة تشمل دهناً وخضاراً ولحماً وبهارات، وتأخذ وقتاً للتحضير، وطريقة معيّنة للطبخ تتبع وصفة، ثمَّ النضج لفترة معيّنة، ولكنّنا في نهاية الأمر نعطيه هويّة معيّنة فنقول هذا طبيخ بامية أو فاصوليا، برغم وجود كل المكوّنات الأخرى.
والمراقب الذكي يدرك أنّ كلّ طبّاخ يطبخ البامية بطريقة مختلفة جدّاً، ويكون لها مذاق مختلف، ولكن الكلّ يُصرُّ على أنّ المطبوخ بامية، ولكنّه قد يتعصّب لبامية أمّه أو زوجته ويظنّ أنّ كلّ طبائخ الباميا الأخرى سيئة لأنّها لا تتبع نفس الوصفات أو لها نفس المذاق.
هذا ينطبق على طوائف المسلمين مثلاً والمذاهب المختلفة.

ولمثل هذا المجتمع أو المجموعة طريقة معيّنة للزيّ والتخاطب والسلوك، وكلّما انغلق المجتمع أو المجموعة كلّما تعصّبت لمفهومها أو رؤيتها وصارت ما يًسمّي بالأيدلوجيّة والتي هي في الأساس فكرٌ منغلق لا مكان فيها للخلاف وعندما تُهدّد بالفكر الراشد تلجأ للقوّة للدفاع عنها. وإذا ما استولت على سلطة زمنيّة فإنّها تقسر النّاس على قبولها أولاً بالشعارات والخداع أو بشراء ذمم المثقّفين أو بالتشريد والسجن والترغيب والترهيب.

والأيدلوجيّة لا يهمّها تشظّي العالم من حولها، حتى وإن هلك كلّ شخص آخر إلا أتباعها، ما دامت هي بخير بل وقد تسعد بهذا التشظّي وتعتبره دليلاً على صحّة رسالتها وفرصة لتغيير العالم حسب رؤيتها التي تري فيه خلاص البشريّة قاطبة، ولذلك فالأيدولوجيّة دائماً ما تعيش وهماً أو وعياً زائفاً بالإيمان بتفوّقها وغباء الآخرين.
فللأيدلوجية منظار ذا لون واحد يري ما يريد رؤيته في نفق فكرته وغربال انتقائي يحتفظ بالفكر المساند غير المعاند لفكر طائفته يُعلي من قيمته ويبخس الآخرين فكرهم.  

ولهذا فهذا الفكر الأيديولوجي يري الحياة كأبيض وأسود لا مكان فيها للرمادي فالنّاس مُصنّفين إلى معهم أو ضدّهم. هذا المنهج الإقصائي لا يحدث لأنّ الرؤية واضحة في ذهن الأيديولوجي ولكن لأنّ في ذهنه فكرة واحدة ممّا يؤكّد الفقر الفكري، والقراءة الخاطئة للواقع، والفهم القاصر لطبيعة الإنسان ولذلك فالمحصّلة دائماً كارثة وفوضى مدمّرة بسبب العناد والإصرار على تطبيق شعارات لا يسندها منطق ولا فكر ولا خطط أو برامج مسنودة بالمنهج العلمي وعدم التراجع عن الخطأ بل وتبريره والإصرار على تطبيقه على النّاس الذين تتّهمهم بقصر النّظر أو الغيبوبة الفكريّة أو الجهل المستبد بهم وتري أن مسئوليتها المصيريّة هي انتشالهم من وهدة الجاهلية الفكريّة لتصيغهم من جديد حتى ينعموا بالسعادة المطلقة.

هذا المنهج الصفوي الذهني الذي يُصفّى ويقسم النّاس في ذهن الأيديولوجي إلى طبقتين: طبقة المستنيرين أو النّاجين أو ما شئت من هذه المُسمّيات وطبقة الرجعيين أو الهالكين أو ما شئت من هذه المُسمّيات. هذا المنهج الذهني هو القاعدة الأساسيّة للتصفية الاجتماعية أو الجسديّة للمُخالفين وذلك لأنّ قيمتهم تسقط في نظر أصحاب الأيدلوجية وبذلك تنتفي إنسانيّتهم ويصير عدمهم أفضل من وجودهم؛ لأنّ وجودهم سيمثّل عائقاً في سبيل تقدّم الأيدلوجيّة.
 والأيدلوجيّة قد تتكوّن من تراكم عقائد أو عادات أو من استغلال فكرٍ أو دينٍ أو فلسفةٍ موجودة فتفصّله على مقاسها تلفظ منه ما تراه زائداً عن الحاجة أو غير واضحٍ أو في ثقافة أخرى متشابه، ثمّ تًركّز
على ما تراه مُؤيّداً أو موافقاً لهوي نفسها.

وسنواصل إن أذن الله حديثنا عن الفكر الأيديولوجي.
ودمتم لأبي سلمي  

abdelmoniem2@hotmail.com

 

آراء