صديق عبد الهادي Siddiq01@sudaneseeconomist.com (5) لم يتعامل الخاتم مع قضية "الإنقلابات العسكرية" بروح كمنْ يكتب التاريخ بحياد فحسب، وإنما لم يستصحب حدة ذهنه، ونفاذ نظرته الثاقبة المعهودة والمعروفة في تعاطيه مع القضايا الشائكة، وذلك حين أشار طفيفاً إلي إنقلاب مايو 1969م، بالرغم مما كان يمثله ذلك الإنقلاب من إنعطافة فاصلة في تاريخ الحزب ومن ثمّ في تاريخ السودان. في هذا الامر، تبنى الخاتم سائد الكلام وسائره في صفوف الحزب!. إن الشواهد التاريخية والوثائق تقول بغير ذلك، سيما لو دقق المرء النظر فيما حوت من وقائع. وفي هذا الشأن رأيت أنه من المفيد ان اورد المقتطف المطول التالي: "إنه ومما لاشك فيه، وقتها، ان سماء الوضع السياسي في البلاد كانت ملبدة بغيوم التوقع، بل وبالإستعداد والقابلية للتغيير. كانت كل المؤشرات تؤكد ذلك، هذا على صعيد الظروف الموضوعية ، ولكن على الصعيد الذاتي لأولئك الذين نفذوا إنقلاب 25 مايو 1969م، هل كان الوضع مستتباً والظرف مهيئاً؟، وهل ساهم الحزب الشيوعي في ذلك التهيؤ؟، وهل كانت مساهمة الحزب عاملاً مؤثراً في وصول ذلك التضافر بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي الي نهاياته، ومن ثم إلى نجاح انقلاب مايو 1969م ؟؟. ورد في تقرير سكرتارية اللجنة المركزية حول 19 يوليو 1971 : " إجتماع المكتب السياسي الذى إنعقد في 9/5/69م، ناقش إقتراح العسكريين بالإنقلاب، ورفض الفكرة استناداً الي ما توصلت اليه اللجنة المركزية في مارس 1969م حول التكتيك الإنقلابي." (التقرير ص72). بالقطع ان العسكريين المُشار اليهم يشملون اعضاء تنظيم الضباط الاحرار، وذلك بحكم ان ذلك التنظيم ذو علاقة سياسية وتنظيمية، في آنٍ معا، بالحزب الشيوعي السوداني. في النص اعلاه لابد من التمييز بين حقيقتين، الحقيقة الأولى هي أن اللجنة المركزية ناقشتْ في دورتها في يوم 23 مارس 1969م، التكتيك الإنقلابي كمفهوم فحسب، وليس كإقتراحٍ محدد قدمه العسكريين كما هو موضح اعلاه. وحدث أن رفضتْ ذلك المفهوم. أما الحقيقة الثانية فهي أن "إقتـراح العسكريين بالإنقلاب" لم تناقشه اللجنة المركزية بشكل تنظيمي إلا في إجتماعها مساء يوم 25 مايو 1969، اي بعد وقوعه، وذلك بناءً علي إفادتين : الإفادة الاولى / هي تلك التى اوردها د. فاروق محمد إبراهيم في مقاله المميز المنشور في مجلة قضايا سودانية العدد الرابع في أبريل 1994 م، حيث كتب قائلاً: " ولعل الزميلين نقد والتجاني يذكران في اجتماع اللجنة المركزية في دورة 23 مارس 1969 أن بعض الأعضاء طلبوا معرفة تفاصيل عما يجري داخل القوات المسلحة وما يجري من تحضير لإنقلاب بين الضباط الأحرار، فرد عبد الخالق ( هذا العمل يتعلق بحياة وموت زملاء يعملون في هذا المجال. اقول لكم كلام هنا وباكر يطلع في خباز( مقهى شهير في الخرطوم). لو المكتب السياسي طلب مني برضه مش ح اقول له. إنتم إخترتوني لهذه المسئولية وأنا أنفذها بالطريقة التي اراها صحيحة)." (قضايا سودانية 4/4/94، ص 26). بالمناسبة هذه واحدة من الإفادات التي تجنب الاستاذ التجاني الطيب الرد عليها في معرض رده الضافي علي د. فاروق محمد إبراهيم. وعلي ذكر ذلك أود أن اقول أن تلك المساجلة التي تمت بين الاستاذين التجاني ود. فاروق أعتبرها من أقيم وأعظم المساجلات الحزبية، فقد بذلا فيها جهداً مقدراً وراقياً. فهي قمينة بالإطلاع وبالرجوع اليها من وقتٍ الي آخر، برغم ما أصاب إستقامتها من رذاذٍ لمجانبة الموضوعية، إلا انه لم يخدش قيمتها أو ينتقص من عمقها. الإفادة الثانية / اوردتها سكرتارية اللجنة المركزية في تقريرهر حول 19 يوليو 1971م، كما يلي: "إجتماع المكتب السياسي الذى انعقد في 9/5/1969 ناقش إقتراح العسكريين بلإنقلاب ورفض الفكرة استناداً الي ما توصلت إليه اللجنة المركزية في مارس69، حول التكتيك الإنقلابي.لم تتبعه دعوة سريعة للجنة المركزية لعرض الأمر عليها، ليس فقط لوضعها في الصورة أو لإعلامها بتطورات الوضع السياسي، بل لتعبئة وتوحيد مجموع الحزب في مواجهة الفكر الإنقلابي والتكتيك الإنقلابي." ( التقرير ص 72 ). (خط التأكيد من عند الكاتب.) من هتين الإفادتين تبرز ملاحظتان في غاية الأهمية، الأولى هي أن ما توصلت إليه اللجنة المركزية في مارس 1969م كان متطابقاً تماماً مع قرارات المؤتمر الرابع حول الموقف الرافض للإنقلاب كتكتيك للوصول للسلطة. والملاحظة الثانية هي أن فكرة انقلاب مايو 1969م كانت متداولة في المكتب السياسي، وبإشارة اكثر دقة، كانت تفاصيلها محصورة بين تنظيم الضباط الاحرار والمكتب السياسي ممثلاً في السكرتير العام لحزبنا، الشهيد عبد الخالق محجوب" .( في تداعيات الكتابة عن الخاتم عدلان/ الحزب الشيوعي والعقلية الإنقلابية، مقال للكاتب ص4 و 5، منشور في سودان نايل). مما هو قمينٌ بالإشارة أنه كانت لـ "المركزية الديمقراطية" اوجه عدة ومسالك متنوعة، لم يقف عندها الخاتم رغماً من اهميتها. ومنها أن "المركزية الديمقراطية"، وجدت غطاءاً آمناً تحت عدة مفاهيم جاذبة وطنانة، كان لها صدى في حياة الحزب الداخلية، وقد كانت تُردد أحياناً بفهمٍ ومكرٍ، وأحياناً بدون فهم. ونورد مثالاً علي ذلك مفهوم "وحدة الفكر والإرادة"!. "دعنا ننظر في الجزء الاول من هذا المفهوم، وهو "وحدة الفكر"، قبل أن نعطف عليه "الإرادة"، (إن الوقوف الطويل عند "وحدة الفكر" والتأمل فيها تستدعيه حقيقة ان الناس يدخلون هذا الحزب لاسباب مختلفة ومن منطلقات متباينة، منهم منْ دخل من منطلقات فلسفية بحتة كالراحل الخاتم عدلان، ومنهم منْ جاء على أساس البرنامج السياسي....الخ. بل واكثر من ذلك قد يكون هنالك بعض من الاعضاء منذ دخولهم هذا الحزب وحتى مغادرتهم هذه الحياة الدنيا، وليس الحزب لوحده، لم يكن لهم علم، مثلاً، بما ذهب اليه "ماركس" في تشريحه التركيب العضوى للرأسمال من حيث تكوينه من رأسمالٍ ثابتٍ وآخرٍ متغيرٍ!، وان إختلافه، اى "ماركس"، مع الاقتصاديين الراسماليين في هذا الصدد كان حول موضوعة ان راس المال المتغير قوامه قيمة "قوة العمل"، وليس كما يعتقدون هم، اي المنظرون الرأسماليون، بان راس المال المتغير، الي جانب "قيمة قوة العمل" يضم ايضاً "قيمة المواد الخام" وبكل انواعها!. وقد يكون هنالك ايضاً من الاعضاء منْ هم اكثر حميةً واستبسالاً في الدفاع عن الحزب، ولكن لا يقع ضمن معرفتهم او حتى إهتمامهم كيف تُنتج القيمة الزائدة؟!، رغم ان مفهوم " القيمة الزائدة" او "فائض القيمة" يمثل ركناً اساساً في النظرية الماركسية، إذ بدونه سينهار بناؤها باكمله علي رؤوس منظرييها وعلي رؤوس الاشهاد بكلكلهم!. ففي حزبٍ قد يكون هذا واقعه هل يمكن ان نفهم "وحدة الفكر والإرادة" بانها تعنى أي شيئ آخر سوي انها تعميم مبهم تمّ إختياره بدقة لتكريس اوضاع لا تزدهر فيها غير "المركزية الديمقراطية"؟!" (في الرد علي صديقي د. صدقي كبلو/لقد عاش الخاتم عدلان بيننا...و سيظل ، مقال للكاتب ص 8، منشور في سودان نايل). إن الشواهد متعددة علي صميمية "المركزية الديمقراطية" في تاريخ الحزب، وعلَّنا نجد مثالاً حياً، وليس نظرياً، في حادثة مؤتمر الجريف الذي كشف عن حيثياته د. فاروق محمد إبراهيم، إذ أن ما كتبه في هذا الشأن لم يجد الرد ولم يتم التصدي له لا بالإيجاب ولا بالنفي. علي اية حال، سيكون ما قال به د. فاروق عالقاً فوق رؤوس قدامى الشيوعيين وقيادة الحزب، وسيظل ذلك سؤالاً مشهراً في وجهنا جميعاً، دون إستثناء!. اخذنا علي الخاتم في نقده للمركزية الديمقراطية وقوفه العابر علي ظاهرة الإنقلابات وعلاقة الحزب الشيوعي بها، ولكن كما اوضحنا اعلاه انه، ايضاً، لم يتناول او يتطرق لمفهوم "وحدة الفكر والإرادة" برغم مما مثله ويمثله ذلك المفهوم من ركن اساس في حياة الحزب ونشاطه.