بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
الحياة، كمفهوم في الدِّيانات الإبراهيميَّة، ابتدأت في عالم الغيب، وتواصلت في عالم الشهادة وسترجع لعالم الغيب تارةً أُخري. هذه الدَّورة تتكرَّر حتى في هذه الحياة الدُّنيا؛ لأنَّ خلق الإنسان في الرِّحم غيب لا يعلمه إلا الله، فهو من مفاتيح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي: " إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
والصلاة هي الذكري الدَّائمة لوحدانيَّة الله في دَورة الإنسان التَّعبُّديَّة بقيامها وركوعها وسجودها: " إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي".
وليس الدِّين في جوهره إلا الطريقة التي تُمكِّن الإنسان من توسيع فرص السعادة وتضييق فرص الشقاء على الآخرين قبل نفسه في الحياة الدُّنيا وفي الحياة العليا، ومخالفته لذلك تؤدِّي للنقيض.
فهو عندما خُلق وتوفَّرت له سبل السعادة لم يكتف بما أُعطي، ورغب في المزيد فتجاوز حدود عهده مع الله سبحانه وتعالي، وبذلك فعل أوَّل فعلٍ حرام في تاريخ البشريَّة، فنُزعت منه أسباب السعادة واستُبدلت بأسباب الشَّقاء.
ولا تتحقَّق فرص السعادة في هذه الحياة الدُّنيا إلا إذا وسَّعنا فرص الأخلاق في النَّفس الإنسانيَّة، ونهيناها عن رغبات الشهوات، فهي الغراء الذي يُلصق أجزاء أحكام الشريعة مع بعضها البعض، ويعطينا الدافع للحياة والأمل في مستقبل أفضل إن كان ذلك في هذه الحياة الدُّنيا أو في الحياة العليا.
فلكُلِّ نفس وُسعٌ واستطاعة كما قلنا من قبل، ولا يزيد مساحتهما في النَّفس الإنسانيَّة إلا الأخلاق، لأنَّها ببساطة تعني تفريغ النَّفس من الأنانيَّة الذَّاتية لتستوعب الآخرين. أي بمعني آخر هو محاربة شُحَّ النَّفس تنفيذاً للتَّوجيه الشريف: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يُحِبُّ لأَخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه".
فما هي الصفات المهلكات والمُنجيات للإنسان؟
" ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا “.
هذه الصِّفات تُمثِّل الأخلاق، وهي قلب الإسلام فلا صلاة تنفع مع الشَّحِّ المطاع، أو الهوى المُتَّبع، أو إعجاب النَّفس بنفسه حتى يتغيَّر سلوكه.
والبعض يظنُّ أنَّ المقصود بسبل السلام والسَّعادة ما يكون في الحياة الآخرة فقط ولكنَّها تعني الحياتين وعليه فليس هناك أمور دين وأمور دنيا كما يحلو للفقهاء أن يقسِّموها.
فأمور الحياة هي أمور الدِّين إذا طابقت المنهج والغرض منه وهو عبادة المولي عزَّ وجلَّ، فقد كان الأكل من الجنَّة عبادة، والمشي فيها عبادة، وتقضية الوقت عبادة.
والعبادة لا تقف عند حدود أداء طقوس العبادة فقط كما يفهمها العامَّة، بل تتعدَّاها لكلِّ ما يقوم به الإنسان، والذي ما هو إلا طقسٌ آخر للعبادة إذا ردَّ الإنسان الفضل فيه لله سبحانه وتعالي، بل إنَّ فقه المعاملات قد يكون أكثر أهميِّة من فقه العبادات في كثير من الأوقات لأنَّ الضَّرر المُترتِّب على تضييعه أكبر.
وفي فقه العبادات ففرض العين لا يأثم في تضييعه إلا الفرد، ولكن في فرض الكفاية يأثم كلّ المجتمع إذا لم يقم به أحد. وفرض العين ليس إلا تدريباً لتوسيع مساحة الأخلاق في النَّفس، فمثلاً الصلاة للنَّهي عن الفحشاء والمُنكر: " إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ"، ولا فائدة لصلاة لا تُؤدِّي غرضها، ومن ينتهي عن الفحشاء والمنكر فسلوكه ينعكس إيجاباً على الآخرين لأنَّ فعل الإنسان لا ينفصل عن المجتمع أبداً.
وقد فَصَلَ علماء المسلمين بين فقه المعاملات وبين فقه العبادات لتيسير الفهم لا لتوضيح الأهميِّة.
وقد سمعت خطيباً شهيراً يقول في مسجدٍ يوم جمعة مشهود: "لا بأس أن توفِّر الحكومة بعض أمور الدُّنيا من الخدمات للمواطنين مثل الماء والكهرباء حتى يتفرَّغوا لأمور الدِّين".
مثل هذا الخطيب لربما لم يسمع بقول المصطفي صلي الله عليه وسلَّم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، ولا قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد ولاته: "إنَّ الله قد استخلفنا عن خلقه لنسدَّ جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إنَّ هذه الأيادي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد عملاً في الطاعة، التمست عملاً في المعصية، فاشغلها بالطَّاعة، قبل أن تشغلك بالمعصية ولا تُغلق بابك دونهم، فيأكل قويَّهم ضعيفهم".
فهما تلخيصان بليغان لأساس الحكم الذي يُثبِّت أركان النِّظام ليتجنّب الفوضى. وهو يقوم على محاسبة النَّفس قبل محاسبة الغير، وعلى تقوى الله، وعلى سدِّ حاجات النَّاس بتوفير الحدِّ الأدنى من المعاش من مأكلٍ، ومشربٍ، وملبسٍ، ومأوى، بل وكلِّ ما يدخل تحت باب ستر العورات من مرضٍ أو جهلٍ أو عاهة، أو محاربة للبطالة بتوفير فرص العمل.
ومن ثمَّ تأكيد مبدأ العدالة في مساواة الوصول للحاكم والتَّحاكم لديه، حتى لا يطغي الأقوياء على الضعفاء ويُفسدوا، وبذلك تهيج في النُّفوس الضغائن وتؤدِّي لفساد المجتمع وهو شمول الفوضى.
والذي يؤدِّي للفوضى الفكريَّة في أذهان النَّاس كافَّة وفي أذهان المسلمين خاصَّة هو الاختلاف في تعريف الأشياء أو الفهم المُبتسر للتعريف. وأكبر الأشياء التي أدَّت لفوضى المسلمين تعريفهم للشريعة، فما أن تنطق بالكلمة إلا ويقفز إلى ذهن الأغلبيَّة تطبيق الحدود بينما الشريعة كلُّ صغيرة وكبيرة وصَّى أو أمر بها الله ورسوله من عدلٍ وإحسانٍ ومساواة، وكرمٍ وإخلاصٍ وما شابه.
ولربما يظنُّ النَّاس أنَّ إهمال الأمور الصغيرة لا يؤثِّر في النتيجة النِّهائيَّة لتطبيق الشريعة ولكن الشريعة في تكاملها مثل المصنع الذي يؤثِّر في أداء وظيفته مسمار صغير إذا فُقِد برغم وجود كلِّ الآليَّات الضخمة.
فمثلاً الأمور التي ذكرها المصطفي، والتي لا تُخرج الإنسان من مِلَّة الإسلام، كإفشاء السلام، وإطعام الطَّعام إذا جمَّدنا منها واحدة فقط فالمجتمع سوف يتوقَّف تماماً عن أداء وظيفته. تخيَّل أنَّك تذهب لمكان العمل ولا أحد يُسلِّم عليك.
فالفهم الاختزالي وليس التَّكاملي، وعدم الانتباه للسياق، والذي هو الظرف المكاني والزماني والإنساني، الذي وردت فيه الآيات وأحاديث المصطفي صلي الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ ربطها بمعاني القرآن الشاملة، جعل النَّاس يُقَسِّمونها إلى غرف منفصلة في أذهانهم لا ترابط بينها ونسُوا أنَّها كلَّها في بيت الدِّين وبابه واحد وهو حسن الخُلُق.
والعورة مثلاً في ذهن المسلمين هي عورة الجسد بينما معناها لغةً هي الخلل والعيب في الشيء والحياء من ظهوره.
وتطبيقاً لهذا التَّعريف فإنَّ الظلم عورة وغطاؤها العدل، والخوف عورة وغطاؤها الأمن، والعراء عورة وغطاؤها المسكن، والعُرْي عورة وغطاؤها الثياب، والجوع وغطاؤها الطعام وما يلزم لتحضيره، والعطش عورة وغطاؤها السُّقيا، والمرض عورة وغطاؤها العافية، والجهل عورة وغطاؤها العلم، وسوء الخلق عورة وغطاؤها الأخلاق، والفقر عورة وغطاؤها الاكتفاء، والبطالة عورة وغطاؤها العمل، والظلام عورة وغطاؤها الضوء، والسفر عورة وغطاؤها تعبيد الطريق وتوفير وسيلة السَّفر، والهجير عورة وغطاؤها الظِّل البارد، والزمهرير عورة وغطاؤها الدِّفء، والضعف عورة وغطاؤها القوَّة، وحتى التَّرف عورة وغطاؤها الاقتصاد ولذلك كان من المُنجيات َالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، والكفر أكبر العورات وغطاؤها الإيمان.
فالذي يقف في صفِّ الغاز ليشتريه لأهله في نهار الصيف إنَّما هو في حالة عبادة ممَّا يجلس على سجَّادة الصلاة يتنفَّل، إذا كان يفعل ذلك لتغطية عورة جوع أهله وإسعادهم إرضاءً للمولي عزَّ وجلَّ حسب حديث المصطفي صلي الله عليه وسلَّم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
ويُلخِّص الحديث الشريف التالي أولويَّات المسلمين:
"من نفَّس عن مسلمٍ كربة من كُرَب الدُّنيا نفَّس الله عنه كربة من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعسرٍ يسَّر الله عليه في الدُّنيا والآخرة، ومن ستر على مسلمٍ ستر اللهُ عليه في الدُّنيا والآخرة"، وفي رواية أخري: "ومن ستر على مؤمن عورةً ستر الله عورته"، ولم يُحدِّد نوع العورة، وفي رواية أخري:
"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وفي رواية أخري:
"ولأن يمشي أحدُكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين - وأشار بإصبعه – ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذي ينزلُ وحده، ويمنع رفده، ويجلد عبده".
والذي ينزل وحده هو كناية عن الذين يأكلون ويجلسون وحدهم تكبُّراً وبُخلاً، والذي يمنع رفده هو الذي يمنع أجر مُستخدميه، والذي يجلد عبده هو الذي يجلده بلا حقٍّ أو بلا ذنبٍ يوجب حدَّاً، وبما أنَّ العبوديَّة القُحَّة قد كادت أن تنعدم فالمواطن تحت ظلِّ الطُّغاة بمرتبة العبد إذ لا حُرِّية له ويصدِّقه قول الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، عندما بغي ابن سيدنا عمرو بن العاص أمير مصر على ابن قبطي وضربه بالسوط عندما غلبه في لعب:
"متي استعبدتُّم النَّاس وقد ولدتهم أمُّهاتهم أحراراً"، ويضيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه بعداً آخر يشمل جميع النَّاس فكان أوَّل إعلان لحقوق الإنسان في التَّاريخ فيما يخُصُّ الحرية: "النَّاس كُلُّهم أحرار"، وتحذيره للنَّاس من الوقوع في شرك العبوديَّة بكلِّ أشكالها الجسديَّة والمعنويَّة في قوله: "ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرَّاً".
ويزيد من بعد ذلك بُعدين آخرين عن التَّآخي والمساواة فيقول: "إنَّ النَّاس صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق"، وهذه كانت شعار الثَّورة الفرنسيَّة "حريَّة، إخاء، مساواة".
والذين خطفت أبصارهم هذه الشعارات، وظنُّوا ميلادها علمانيَّة الثورة الفرنسيَّة، وربطوها بالتَّقدُّم الصناعي للدُّول الغربيَّة في أغلوطة فلسفيَّة سطحيَّة، وتماهوا معها وطالبوا بها في بلادهم، لم يدرسوا أو يعرفوا ثروتهم الفكريَّة التي ورثوها وإنَّما افترضوا أشياء ظنَّاً لا حقيقة.
فقد كان الأجدر أن ينكبُّوا على دراسة ما عندهم بنفس الحماس والطَّاقة التي بذلوها في التَّعرُّف على الإرث الإنسانيّ الآخر، وأن يعُدُّوا إرثهم كجزءٍ أصيل منه لا يقلُّ عنه قيمة إن لم يَفُقْهُ، لا أن يجعلوا مسألة التَّنقيب في مناجم فكر المسلمين من واجب الذين يدعون لتطبيق الإسلام فقط، فهم أيضاً وُلِدوا مسلمين ولهم نفس المسئوليَّة، فقد كان الأولي أن يتعرَّفوا عليه أوَّلاً ويضيفوا له أفكارهم التي استقوها من بحر فكر الإنسانيَّة قبل نبذه ومهاجمته.
فقد كان الإسلام أكبر ثورة في تاريخ البشريَّة التي حرَّرت النَّاس وساوت بينهم قبل أن تفعل الفلسفات الأخرى، حتى إنَّ شيخ الفلاسفة الغربيين أرسطوطاليس لم ير في عبيد أثينا مساوين لأحرارها في أخلاقهم، وظنَّ بهم تخلُّفاً نوعيَّاً مع أنَّ العبيد كانوا من البيض وليسوا من السود، وهو السَّبب الذي تسبَّب به الأوربيُّون في استعباد الأفارقة، وكلَّ الاختلاف كان حظَّهم العاثر الذي أوقعهم ضحايا الأسر، والحديث الشريف يقول:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ واحدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى".
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي
/////////////