Siddiq01@sudaneseeconomist.com "إن الإسلام السياسي ليس الناتج التلقائي لقوى الإيمان الديني الحقيقي لدى شعوب هذه المنطقة، بل إنه حالة تمّ بناؤها بجهدٍ دؤوب من قِبل الإمبريالية، وطبعاً بتأييد من القوى الظلامية الرجعية والطبقات الكومبرادورية التابعة." د. سمير امين. (2) من (5) لم تحد الحركة الاسلامية السودانية، في ظل سلطتها الحالية، سلطة الإنقاذ، لم تحد عن ديدن وعن تاريخ تبعية الإسلام الحركي لدول الغرب، وتحديداً امريكا،!، وخاصة بعد ان اصبحت الوكيل الرسمي لوكالة مخابراتها المركزية في المنطقة. وقد حدث، وفي إطار تلك التبعية، ان حضر مدير جهاز الامن السوداني "صلاح قوش" على متن طائرة خاصة تابعة لوكالة المخابرات في يوم 17 ابريل 2005، ومكث حتى 22 ابريل 2005، ليقدم ما عنده، وليحتفي بما انجزه، وليؤكد ايضاً قيامه بما هو مطلوب منه تنفيذه. كتب "إسكوت شين" في صحيفة النيويورك تايمز عن تلك الزيارة قائلاً، "إن زيارة صلاح عبد الله قوش للتشاور مع وكالة المخابرات المركزية في هذا العام، اراد بها مسؤولو المخابرات الامريكان رد الجميل لتعاون السودان منذ حدوث الهجمات في 11 سبتمبر 2001، وذلك لقيامه باعتقال كل الإرهابيين المشبوهين وكذلك لتوفيره لكل المعلومات عن تنظيم القاعدة." (شين، إسكوت، نيويورك تايمز، 18 يونيو 2005). إن جزءاً كبيراً مما ورد اعلاه قد يكون ان أجمله المفكر سمير امين بشكلٍ حصيف واكثر تركيزاً في قوله، "ونعرف تاريخ الاخوان المسلمين الذين خلقهم الاستعمار البريطاني والملكية في مصر في العشرينيات لقطع الطريق على الوفد الديمقراطي العلماني. ونعرف تاريخ عودتهم بالجملة من منفاهم في السعودية، بعد وفاة عبد الناصر،على يد وكالة المخابرات المركزية والسادات. ونعرف تاريخ طالبان الذين جندتهم وكالة المخابرات المركزية لمحاربة "الشيوعيين" الذين فتحوا ابواب التعليم امام جميع الصبيان والبنات في افغانستان. ونعرف ان الإسرائليين دعموا حماس في بدايتها لإضعاف التيارات الديمقراطية والعلمانية في المقاومة الفلسطينية." (أمين، سمير، سابق، ص 23). وبالتالي فإن كل التعاون الاستخباري الكامل والعمل لصالح اجهزة المخابرات الغربية المدرج تفصيله اعلاه، ماهو إلا استحقاق تاريخي، يقوم به الاسلام الحركي رداً ليدٍ سلفتْ وإقراراً لدَيْنٍ ما زال يجري، ويظل على الدوام واجب السداد!. و"التمكين" هو ذلك الدَيْن المستحق/ تبنتْ الدوائر الغربية ورعتْ حركة الاخوان المسلمين منذ البداية. كانت شركة قناة السويس البريطانية، هي التي قامت بتمويل ورعاية نشاط حسن البنا ليؤسس جماعة "الأخوان المسلمين"، راس رمح الإسلام الحركي او الاسلام السياسي المعاصر، الذي كاد ان تطبق على المنطقة. كان تاكيد هذه المعلومة المهمة، ولزمنٍ طويل، معتمدٌ في مرجعيته على كتابات ومساهمات باحثين واكاديمين غربيين، إلا ان امر ذلك التأكيد الآن لم يعد قصراً على اولئك البحاثة من امثال "ريتشارد ميتشيل" صاحب الكتاب المشهور، "تنظيم الاخوان المسلمين"، او "روبرت دريفوس" صاحب الكتاب الأكثر شهرةً والمعروف باسم "لعبة الشيطان"، والذي حظيَّ باتفاقٍ عريض على المجهود البحثي الرفيع الذي بذله الكاتب في تجويده. فقد كفتْ مهمة تاكيد الارتباط المشبوه عن الإتيان من دائرة الباحثين الغربيين لتجيئ مؤخراً من داخل حركة الاسلام السياسي نفسها، ومن مفكرين وكتَّاب كان ان إرتبطوا بها، جعلتهم الحقائق المذهلة التي وقفوا عليها يفيقون من غيبوبتهم، ليعرُّوا الزيف والخداع الذي مارسته وما زالتْ تمارسه حركة الاسلام السياسي باسم الدين. كتب المحامي المصري والاخ المسلم السابق "ثروت الخرباوي" قائلاً، "وقد كانت جماعة الاخوان اكبر خديعة تعرض لها الشعب المصري عبر تاريخه، ولكن الخديعة لا تدوم."( الخرباوي، ثروت، سابق، ص 59) أقرَّ مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية"، وكما اشار الخرباوي، بانه استلم مالاً من شركة قناة السويس، اي من البريطانيين، لاجل دعم مشروع بناء دار للجماعة ومدرسة، وذلك في مدينة الاسماعيلية. وقد احتج حسن البنا على قلة المبلغ المدفوع للجماعة، وهو 500 جنيهاً، حينما قارنه بمبلغ الـ 500 ألف جنيه الذي اعتمدته نفس الشركة لاجل بناء كنيسة، وفي نفس المدينة!. وهنا اود ان اقتطف مقطعاً، قد يبدو مطولاً، من كتاب "ثروت الخرباوي"، الذي كتب متسائلاً ومستفسراً فيه حول ما قال به حسن البنا عندما دعاه مدير شركة قناة السويس "البارون دي بنوا "، إذ قال البنا: "فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية إلى مكتبه، فذهبت إليه فرحب بي ثم ذكر لي أن الشركة إعتمدت مبلغ خمسمائة جنيه مصري للمشروع، فشكرت له ذلك، وافهمته ان هذا المبلغ قليلٌ جداً، ولم يكن منتظراً من الشركة تقديره لانها في الوقت الذي تبني فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفتها 500000 خمسماية الف جنيه اي نصف مليون جنيه تعطي المسجد خمسمائة جنيه فقط، فاقتنع بوجهة نظري واظهر مشاركتي فيها ولكنه اسف لان هذا هو القرار، ورجاني قبول المبلغ، على انه إذا استطاع ان يفعل بعد ذلك شيئاً فلن يتأخر....... والذي يلفت النظر في هذه الفقرة التي رواها لنا حسن البنا، ان مبلغ التبرع كان قدره خمسمائة جنيه مصري، اي ما قيمته وقتها خمسمائة وخمسة جنيهات من الذهب، هل تعلمون كم يوازي هذا المبلغ الآن وفقاً لسعر الذهب؟ يساوي مليوناً ونصف مليون تقريباً! في الوقت ذاته فإن ما ذكره البنا عن قيمة تبرع الشركة لبناء كنيسة هو من الامور التي بثها في مذكراته حتى يُسيغ لنفسه ـ امام الناس في الحال والإستقبال ـ قبوله هذا التبرع من محتل وضع يده على البلاد قهراً، إلا انه وقع في مبالغة ممجوجة حينما ذكر ان الشركة تبرعت لكنيسة بنصف مليون جنيه، وهو مبلغٌ تُبْنى به وقتها مدن كاملة، ويبدو انه عقد هذه المقارنة ليهون بها من قيمة المبلغ الذي تلقاه وقلة اثره، حتى إنه ان احد المتبرعين تبرع للمسجد بخمسمائة جنيه ايضاً، وكأن هذا المبلغ كان متوافراً لدى عموم الناس يدفعونه لانه من فضل اموالهم! إذن ما الذي دعاه إلى ذكر قصة هذا التبرع "المشبوه"؟ لم يذكر البنا هذه القصة الا لانها كانت حديث الساعة في مدينة الاسماعلية، تحدث بها كل الناس، وحدث بين الاخوان بسببها شقاق ادى إلى انشقاق بعض الاخوة الذين انضموا للجماعة، فكان على البنا ان يكتبها ـ ما دامت قد اصبحت معروفة ـ بطريقة تبرئة، فكانت طريقة سرده تبدو وكأنه يدافع عن نفسه. ولكن السؤال المهم هو: منْ الذي عرض التبرع؟ هل الشركة هي التي عرضته تلقاء نفسها حباً في فعل الخير؟! أم ان حسن البنا هو الذي طلب ذلك وقدمّ من اجل هذا رسماً هندسياًً شفعه بالطلب؟ الإجابة نلجأ فيها للمنطق والإستقراء، فاذا كانت الشركة هي التي بادرت بالتبرع دون ان يقدم لها البنا طلباً بذلك لكان عليه وفقاً للخلق القويم ان يقبل التبرع دون ان يعاتب المتبرع بقلة التبرع، ودون ان يعايره بأنه تبرع في موضع آخر بمبلغ اكبر، هذا امر لا يحدث ابداً في هذا الظرف الإنساني، ولكن المساومة التي حدثت لا تكون الا عندما يكون هناك عرض يتدارسه طرفان، يقول احدهما للاول سادفع لك مبلغاً قيمته كذا، فيقول الثاني للاول هذا مبلغ بخس لا يكفي للمطلوب الذي ساقدمه لك، وتنتهي المساومة بوعدٍ بدفع مبلغٍ آخر في المستقبل." (الخرباوي، ثروت، سابق، ص 64-66) ( إنتهى الإقتطاف) وهكذا لم نعد في حاجة "للغرباء" لإثبات النسب المشبوه بين الاسلام الحركي ودوائر المخابرات الغربية!. واما فيما بعد، فقد اوكلت بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية امر رعاية الإسلام الحركي ودعمه للمملكة العربية السعودية. وذلك في غضون الصراع، عبر مراحله المكشوفة وغير المكشوفة، بين حركة الاسلام السياسي، من جهة، والقوى الوطنية وحركة الاستنارة في المنطقة، من جهة أخرى. اصبحت ارض المملكة السعودية، ومنذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، هي الملجأ لقادة وكوادر الاسلام السياسي، أي الإسلام الحركي. وقد شهد تلك الفترة اهم واعظم حدث وسم تاريخ المنطقة، وكان له إنعكاسه على مستوى العالم، وهو النهوض الاقتصادي للاسلام السياسي. وهنا ينبري السؤال، وما هو الاثر المترتب على استكمال تلك العملية التاريخية من التبنى والرعاية التي حفت نشوء ووجود حركة الاسلام السياسي؟!. ___________________________. (*) ورقة بحثية منشورة كجزء من كتاب "مشروع الجزيرة وبؤس الحركة الاسلامية"، الناشر مؤسسة الاقتصادي السوداني، فلادلفيا، الولايات المتحدة، يونيو 2016.