لا يخفى تأثّر ود المكِّي بأسطورة السندباد الذي يعود مهما تكالبت عليه الظروف، وأيضاً تأثّره بالتراث الإسلامي، وهو ربيب إرث صوفيّ، وهو يظهر في مفهوم اللوح المحفوظ وأيضاً في قوله: "هزّي إليك بجذع النبع واغتسلي من حزن ماضيك في الرؤيا وفى الإصرار هزّي إليك بأبراج القلاع تفيق النحل طاف المراعي وأهداك السلام رحيق الشرق أحمر والنّعمى عليك إزار نجري ويمشون للخلف حتى نكمل المشوار" فقد وظّف معرفته الدينية توظيفاً بديعاً اشتمل على المزج بين مختلف القصص فاستخدم قصّة السيدة مريم العذراء عليها السلام في الوصف القرآني لهزّ جذع النخلة ولكنّه استبدله بالنّبع الذي جعله الله سريّاً تحتها دفعاً لحزنها، وهو مثل النبع الذي اغتسل فيه سيدنا أيوب، عليه السلام، شفاءً لمرضه وحزنه بعد صبره وإصراره على شكر ربّه. ثمّ عاد لرمز الهزّ، وفى هذه المرّة للأبراج، وهي لا تخالف النخلة في ارتفاعها أو المآذن، ولكنّها لا تسقط علينا رطباً بل نداءً حتى نفيق ونغسل أحزاننا بالصلاة، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلّم: "أرحنا بها يا بلال، أو بالجهاد ضدّ العبودية والتخلّف وفى هذا ذكر لانتفاضة المعتصم ومن بعده صلاح الدين الأيوبي. ولا يخفى عن القارئ الفطن رمز النّحل من سورة النحل ووصفه لعسله بالرحيق، وهو شفاء لجميع الأسقام، إذ أنّ تعريف الصحة أو بلوغ الشفاء، هي حالة سلام كاملة عضوياً وفكريّاً وعاطفيّاً وروحيّاً لا مجرّد انتفاء المرض أو العاهة، وهذا لا يتحقّق إلا في الجنّة لذا سمّاها المولى عزّ وجل بدار السلام. وإذا انتبهنا للآية الكريمة " فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا” نجد فيها شفاء لحالة الارهاق بعد الولادة نتيجة فقد الدم، والمجهود البدني والألم الجسدي والنفسي لفتاة وحيدة خائفة في السادسة عشر من عمرها تضع مولودها بغير أمٍّ تؤازرها، وبفضيحة ترفرف ألويتها فوقها. والمعروف أنّ في الرطب هرموناً يُعطى الآن في المستشفيات لبدء ومثابرة الطلق ووقف النزيف بعد الولادة، وفيه أيضاً سكّر يُعطى طاقة، وفيتامينات ودهون وبروتين وعناصر معدنية وفى الماء تعويضٌ لفقد السوائل، ولكن كلّ هذا لن ُيهدِّئ من روعها ويُشفيها من حزنها إلاّ بالمناداة من تحتها. والنحل يستخلص من الزهرة رحيقها لا عصيرها، لأنّه لو فعل لماتت فانظر إلى رقّته ورفقه وود المكّـي يصف هذا اللقاء بين النحلة والزهرة بالقُبل: "والنحل أشبع كاسات الزهور قُبلْ" ويقول في قصيدة (يختبئ البستان في الوردة): "تختبئ الصدفة في منعطف الطريق والعسل البرّى في الرحيق" وفى التقبيل رشف والرحيق يرشف وهو اسم للخمر وهي في كاساتٍ وقد قال الشاعر: "لدي عزف القيان إذ انتشينا وإذ نُسقى من الخمر الرحيق" ويقول المولى عزّ وجل: "ويسقون من رحيقٍ مختوم" وقد جمعهما ود المكّـي في قصيدة (قصيدتا حبٍّ ومهرجان): "شهداً وخمراً وبوح ياسمينة تقطَّرا" وأهلنا يقولون: "لو كان أخوك عسل ما تلحسو كلُّه"، فانظر إلى عبقريّتهم في استخدام رمز العسل ولا شيء آخر!! وهو مثلٌ يحدّد مقدار ما يجب أن نأخذه من أيِّ شخص أو من أيِّ شيء بحيث لا يزيد عن الحاجة ولا يضرّ الآخر بل ينفعه، ففي زيارة النحل تخصيب للزهرة لتنتج ثمراً حتى تستمر دورة الحياة وحتى يجد النحل أزهاراً أخرى يمتصّ رحيقها وهي دعوة لنا لنسلك مسلك النحل النشط فننتشر في ربوع الوطن ونطرق كلّ باب نعمّره وننشر فيه الحياة. ولقد ألحق المولى عزّ وجلّ صفة الشفاء بالعسل لأنّ العسل هو الدواء الوحيد الذي ليس فيه سُمِّيّات، لأنّه يدخل مصنع النحلة كمادّة خام فإن كان فيه سمٌّ قتلها وإن خرج منها فهو سليم. والعسل هو رحيق الرحيق أيّ المُنقّى والنافع بدون أذى لذا فقد ربط ودّ المكّي بين إهداء الرحيق والسلام. وفى هذا لبّ الروح الصوفي للذين لا يأخذون من هذه الدنيا غير رحيق ويتركون ثماراً لا تحصى ولا تُعد، وهو مثل وسنّة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. وهي دعوة لمعاملة وطننا كما تعامل مجموعات النّحل المراعي، نأخذ بقدر حاجتنا ونلقّحه بمعارفنا وخبراتنا لنترك وراءنا نفعاً ونطوّر ما أخذناه إلى سلامٍ يرفرف لواؤه عليه. وقد رأت بصيرته ذلك في قصيدة (غمائم) يخاطب الوطن المستقبل ويصف حالة التخصيب وتفجّر الحياة من الموات مستلهما حكايات ألف ليلة وليلة في قصَّة شهرزاد وكيف أنَّها تسكت عندما يدركها الصباح فينام الراوي فيها وتستيقظ الأنثى بكلِّ عنفوانها وخصوبتها للقاح، فتنبع منها دفقات تروي جدب شهريار الروحي وتبدِّل حقده على النساء إلى قوَّة منتجة: "الآن أستطيع أن أراه قصعة من الحليب، زهرة تعيش موسم اللقاح تموت إذا يدركها الصباح حتى إذا حبستها عن الحديث أمسكت تدفّقت ألوهة، تمخّضت خصوبة، تفجّرت تَينْبَع الجفاف – أقبل الدرت" ويجئ الاستبشار ببزوغ شمس الشروق وتنبيهنا إلى أنّ بلادنا بها من النّعمة ما يلّفها لفّاً لا يترك فيها شبراً إلاّ كان فيه فائدة: " الشرق أحمر والنّعمى عليك إزار" وفيه أيضاً دعوة لمواصلة الجري حتى ندرك ما نبغى وفى ذلك إشارة لعدو السيّدة هاجر بين الصّفا والمروة حتى جاءها الفرج: "نجري ويمشون للخلف حتى نكمل المشوار" وفيه تنبيه لأعداء التقّدم وعدم الالتفات لهم وفرّق بين الجري والمشي فالجاري لا صبر لديه للابتعاد عن مصدر شقائه أو نيل غرضه والماشي ليس له حاجة بالجري لأنّه لم يفارق كثيراً ما يمشى إليه وهو دليل على الارتباط الذهني والقرب الوجودي بالماضي الموروث بدون تجديد. ويستمر في مناجاته وإلحاحه لمعشوقته / حبيبته / أمّه / الجزيرة – الوطن، ونلاحظ ربطه لأوّل مرّة بين لونه ولونها وانتفاء الحاجز حتى درجة الفناء، وهي حالة موت وبعث في نفس الوقت، فانتفاء ذاتك هو حلولها في ذات أخرى تكون مرقده ومولده في دوراتها الحيّة السرمدية: "عديني أن ستدعوني إلى فراشك ليلاً آخر وتطيليه علىّ بشعرك في زندي ولونك في لونى وتكويني فنيت فيك فضمّيني إلى قبور الزهور الاستوائية إلى البكاء وأجيال العبودية ضمّي رفاتي وخلّ النسغ يحملني عبر الجزيرة في دوراته الحيّة" والنسغ هو تطريز الإبر ولكنّه استخدم هنا بمعنى النبات بعد القطع كأن نقول أنسغت الشجرة أي نمت بعد قطعها، وهذه بلاغة ما بعدها بلاغة إذ كأنّه يطلب بعد أن تضمّ رفاته كأنّه بذرة أن تتركه للنسغ لكي يحييه وبذا يصير جزءاً من دورات الجزيرة الحيّة اللانهائية. وهذه الخلاسية المعرّفة والرمز بجاذبيتها الساحرة حتى درجة الوهم لن تسلم من المغامرين والمقايضين والناهبين: "من اشتراك اشترى فوح القرنفل من أنفاس أمسية ، أو السواحل من خصر الجزيرة من موج المحيط وأحضان الصباحية" ونلاحظ البناء الذهني والعاطفي لقصيدة بعض الرحيق أنا من الإشارات والإرهاصات المبثوثة في مجموعة زنزباريات ومنها القصيدة التي تحمل نفس الاسم: "خذنا إذن لزنزبار حيث يظلّل البهار مراقد المحبين وحيث تنتشي برغوة البحر وبالعنف وبالأشجار الجذوة الأولى. خذنا إلى الرغوة والعقيق حيث يغرّد البحر ويسكر الخليج وحيث تستفيقْ تحت غلائل السحب المعبّأة بأنعم الرحيق إفريقيا الأولى". فكلمات مثل الرحيق والخليج والبهار وأيضاً المشاهد نفسها تناثرت في مجموعة زنزباريات ولكنّها انتظمت كالعقد الفريد في (بعض الرحيق أنا). "يا برتقالة قالوا يشربونك حتى لا يعود بأحشاء الدنان رحيق ويهتكون الحمى حتى تقوم لأنواع الفواحش سوق. والآن راحوا فظلَّ الدّن والإبريق ظلّت دواليك تعطى والكؤوس تدار" وقد تجاوز شيخي ود لمكّـي شيخنا أبو نوّاس الذي قال: "ما زِلتُ أَستَلُّ روحَ الدَنِّ في لُطفٍ وَأَستَقي دَمَهُ مِن جَوفِ مَجروحِ حَتّى اِنثَنَيتُ وَلي روحانِ في جَسَدٍ وَالدَنُّ مُنطَرِحٌ جِسـماً بِلا روحِ"
والدّن هو وعاء طويل مستو الصنعة في أسفله كهيئة قونس البيضة، أي أعلاها، والإبريق هو إناء وهي كلمة فارسيّة معرّبة وهو ما يستخدم لمليء الدّن. ووصف ود المكّـي مجازى إيحائي يفتّق وردة الخيال بينما وصف أبو نوّاس تشبيهي مباشر لا يحتاج لكثير خيال أو عظيم استنباط. فبينما يرقد دن أبو نوّاس جثّة هامدة لم يستسلم دنّ وإبريق ود المكّـي بل ظلّ يعطى من دم البرتقالة المستعبدة التي يرفض أن يجفّ نبعها مهما قصدتها ذئاب البشر وهو تكرار آخر للمعنى البليغ: "تينبع الجفاف" وتأكيده أنّه: "وفى موتى وبعثي سآتي" ودَوالَيْك أَي مُداوَلةً على الأَمر، وتَداولته الأَيدي أَخذته هذه مرَّة وهذه مرَّة، فتأمّل بلاغة استخدام جملة (والكؤوس تدار). فهل استخدم ودّ المكّـي مفهوم تناسخ الأرواح؟
وتنتهي هذه القصيدة الملحمة مستخدمة غنائيتها الغنيّة والموحية، إذ مثل هذا الاحتفال لا يتمّ بغير الغناء، بعد أن يذكّرنا بأنّه بعد العثور على هويّته الجديدة كأنّما بعثت فيه الحياة فصار: "وإنني الآن أزهى ما أكون وأصبى من صباي ومكسيّاً من النور الجديد إزار" فيترجّاها أن تضمّ رفاته القديم في رحمها ليبدأ بعثاً جديداً وهي الأم والحبيبة والعشيقة والبلد: "ضمِّي رفاتي ولفِّيني بزندك ما أحلى عبيرك ما أقواك عارية وزنجية وبعض عربية وبعض أقوالي أمام الله". وهكذا وجد ود المكَّي هويَّته في تناغم الأجزاء وانصهارها لتنبع منها هويَّة جديدة لا هي زنجيَّة ولا هي عربيَّة، ولكنَّها أخذت أفضل ما في الإثنين خلاسيَّة مشرقة الجمال، وبديعة البهاء، وذكيَّة الفؤاد، وقويَّة الزند، وحلوة العبير، ينصهر فيها ويختفي الاختلاف، وينمو فيها الأمل من أجل تكامل الأجناس وانتشار السلام والنماء بدلاً من بحور الدم والبشاعة. فلا هويَّة أعلى من الهوية الإنسانية وتليها الهويَّة الوطنية وإذا لم تفتح الهوية الوطنية أعيننا على هويَّتنا الإنسانية فلا قيمة لها، إذ حينها تكون نظرتنا إلى ما يفرّقنا لا ما يجعنا إن كان عقدية أو قبليَّة أو جهويَّة. فلا يهمُّ امتزاج الأعراق ولا الأجناس ولكن يهمُّ هو امتزاج الثقافة وتفاعلها ففي كلِّ ثقافة ما تطيب به الحياة إذا نظرنا إليه بعين الموضوعية والحب، فالإنسان هو مجموع ما يؤمن به، والثقافة عملية حيَّة تسعي للتزاوج والتخصيب لذلك فإقصاء الإرث الإنساني غباء وفهم قاصر، ولكن عدم الثقة في مزيج ثقافتنا وعدم الفخر بها ضعف وصَغار، فما عندنا أغني إذا ما أدركنا كنهه وغصنا في بحوره وفتَّقنا معانيه وطرحناه في فناء الإنسانية تفاعلاً وتبادلاً. وسنواصل تأمَّلنا في قصيدة أخري بعد صحبتنا لشيخي وحبيبي ود المكي إن أذن الله تعالي ودمتم لأبي سلمي