كنت في آخر أعوام المرحلة الوسطى من الدراسة وقبل فيضانات أغسطس88 بشهر، خرجت لإحضار بعض الخبز من الفرن لأهل الدار ومعي (كيس المخدة والطوبة للحجز)، نادتني الوالدة للعودة بسبب هتافات في الشارع يتكرر سماعها، أحيانا تكون نفس الهتافات من بحر الرجز غاضبة وقوية تهدر كموسيقا وطنية في مقام العجم، وأحيانا يدندن بها المواطن بنغمة يائسة وحزينة بمقام نهاوند: الوزير ”شبعان" .. أييواا.. والشعب جعان.. أييواا.. العيش بالصف.. أييواا.. والبيع باللف.. أييواا..
مرت الأيام والسنوات وتغير الحال، ولكن وصلني بالأمس نبأ عطش بيت الوزير في جنوب الخرطوم لعدة أيام مثله مثل بقية المواطنين الذين تنقطع عنهم المياه هنا وهناك في أرجاء ولايتنا ! فتذكرت مقولة "الوزير شبعان" في عهد حكومة السيد الصادق المهدي وشركائه، والتي صارت اليوم "الوزير عطشان" في ولاية الخرطوم ! وتذكرت جلسة ساخنة في منزل أحد قيادات الولاية قبل أعوام (عليه رحمة الله)، حين دخل مدير أسبق لهيئة مياه ولاية الخرطوم وهو يباهي بالشبكة المهترئة، وصادما لنا بأنه لا توجد خدمة مياه نظيفة ومستمرة طوال العام (شررررر كما وصفها صوتيا) حتى في أمريكا نفسها !! والتي لا يبدو أنه عاش فيها يوماً ليرفع مؤشرات التقييم ومعايير التقويم.
من الغريب أن تصريحات الولاية منذ العام 2015 تصب حول وجود خطة إسعافية للمياه تبدأ من أغسطس 2015 وتنتهي في مارس 2016، ثم خطة متوسطة المدى حتى أغسطس 2018 الذي تبقت له أيام ليأتي ويتحفنا بما فيه. ثم يتحدثون عن خطة استراتيجية لمياه الولاية التي حباها الله الكريم بنيلين مباركين كريمين.
ويظلون يصرحون بأنهم سيشيدون محطة زايد بالصالحة ومحطة خليفة بأم دوم لحل مشكلات الولاية، وهما المحطتان اللتان جاء بمنحتهما المدير السابق لمكاتب رئيس الجمهورية ومبعوثه الخاص لدول الخليج، دون أن يتحركوا قيد أنملة نحو تنفيذ ذلك، باستثناء تخدير المسؤولين المركزيين والشعب معهم بالتصريحات.
ورغم اتجاه الناس للمياه المعدنية الغالية ولمياه (الكارو) التي تصل ل 900 جنيه شهريا للمنزل حيث إن البرميل ب 40 جنيها، فسوف تقوم حكومة الخرطوم بفرض رسوم مالية على (الكارو) ضمن موازنة 2018 للولاية ! كان ذلك في جلسة للمجلس التشريعي مليئة بانتقادات النواب الكرام لمثل هذه الموازنة. ولكن في خريف 2016 قام نفس المجلس الولائي بزيادة فاتورة المياه للمواطنين للضعف وربطها بفاتورة الكهرباء تحت ذريعة حل مشاكل المياه جذريا في ولاية الخرطوم !!
لم يتم الحل، بل تناقص إنتاج المياه وزاد الاستهلاك، لكثرة الأعطال وخروج كثير من الآبار الجوفية عن الخدمة، ونزوح الناس من ولايات ودول مجاورة للعاصمة، وهروب الكوادر والكفاءات منها والذي شمل استقالة مدير مياه الخرطوم قبل فترة بسيطة، فخسرت الخرطوم كلا من مسؤول العطش بالاستقالة، ومسؤول الكوش بالإقالة خلال فترة وجيزة جدا، ويبقى صامدا مسؤولو الحفر حتى الآن.
إن غياب وتغييب الماء الذي جعل منه الله كل شئ حي يستحق التنازل عن الملك، والقلق يداخل البعض حول اقتراب موسم التحاريق، وهو الموسم الذي ينخفض فيه منسوب مياه النيل ابتداء من فبراير 2018، وحتى يوليو بداية تباشير الفيضان الجديد ! يبدو أن على الولاية أن ترفع شعارا حقيقيا آخر غير شعار "زيرو عطش" بعد أن انقضت المائة يوم.
جاء في كتاب شذرات الذهب للحنبلي وبعض كتب التاريخ ما معناه أن الشيخ البغدادي ابن السماك كان جالسا مع هارون الرشيد، وطلب أن يضيَفه ببعض الماء لا يُفضِّل عليه شيئا من ملذات وأطايب خليفة المسلمين، وقام الخليفة بطلب الماء لنفسه كذلك، وإذ هو يهم ب (قرطعته)، قام السماك (متشالقاً) بسؤال الخليفة: قف تأمل ! لو سألتك يا أمير المؤمنين أن تشتري هذه (الجغمة) وأنت تغالب الروح من العطش، فكم تدفع ؟ قال هارون: أدفع نصف أملاكي.
فقال ابن السماك: (اجغم) يا رعاك الله ! فلما انتهى الخليفة من جغمته، سأله ابن السماك مرة أخرى: بالله عليك يا أمير المؤمنين، ماذا لو تم منعك من إخراج هذا الماء من جسدك كما يتبول كل الناس، فكم تدفع لتشتري العلاج ؟ قال الرشيد: والله أدفع ما تبقى من مالي وأملاكي ! فقال ابن السماك: إن مُلْكا قيمته في الحياة لا تزيد عن شربة ماء، هو غير جدير بأن يقتتل ويتنافس عليه المتنافسون.