أكثر من مجرد أزمة .. السودان في قبضة الصندوق: روشتة صندوق النقد تهيمن على الاقتصاد وتتحكم في سياساته

 


 

 

 

عن صحيفة إيلاف

(1)

كما جرت العادة أجاز المجلس الوطني قبيل سويعات من غروب شمس اليوم الأخير في العام 2017، موازنة العام الجديد كما دفع بها الجهاز التنفيذي، ومع كل الاختلالات الخطيرة والعواقب الوخيمة المترتبة عليها، لم يكلف المجلس نفسه، وبالأحرى لم يكن أمامه وقتاً كافياً حتى لو توفرت له الإرادة ليناقش بالجدية اللازمة والمسؤولية الكاملة المخاطر الجمّة التي تنطوي عليها الموازنة الجديدة، والأنكي من ذلك أن أداء موازنة العام المنصرم الفاشلة بإمتياز كما شرحها الوزير مرت وكأن شيئاً لم يكن، لم يًحاسب أحد على خروقاتها الفاضحة، وما يدعو للاستغراب أن أية موازنة تصدر بقوانين مصاحبة لها، وبالتالي فإن السلطة التنفيذية لا تملك حق التصرف فيها، ولكن لأن المجلس الوطني حوّل نفسه إلى مجرد أداء تمرر وتبصم على كل "فعايل" الحكومة، فقد أصبح عادياً أن تتصرف بدون أدني اعتبار للرقابة البرلمانية المفترضة، وهي آمنة من عجزه عن محاسبتها.

(2)

وللمثال فقط فقد تضمنت الموازنة العامة للسنة المنصرمة نسبة نمو للكتلة النقدية نحو 18%، وانتهى العام فإذا بنزيف طباعة العملة التي مارسها البنك المركزي دون أدني حد من الرشد ولا الإحساس بالمسؤولية ولا الخشية من العواقب الوخيمة ولا خوف من محاسبة ولا مساءلة آمناً أنها لن تحدث أبداً، قفزت بنسبة النمو الحقيقة للكتلة النقدية إلى رقم فلكي بلغ ضعفي المستهدف في الموازنة ليسجل 54%، وزيادة السيولة ليست لعبة، بل هي بالطريقة التي حدثت بها جريمة اقتصادية مكتملة الأركان ليس لأنها خرق فاضح لقوانين الموازنة فحسب، بل لأن إغراق السوق بسيولة بهذا الحجم المهول غير المسبوق في تاريخ السودان كان سبباً رئيسياً في أن تتضاعف نسبة التضخم المستهدفة في الموازنة، وأسوأ من ذلك أن البنك المركزي المنوط به حماية العملة الوطنية قادت ممارسته المنافية للقانون إلى انهيار قيمة الجنيه السوداني مما سارت بذكره الركبان وانخلعت له القلوب.

(3)

نسوق هذا المثال فقط للتدليل على خطورة تقاعس المجلس الوطني عن القيام بمسؤوليته في الرقابة والمحاسبة والتصدي لتجاوز السلطات التنفيذية للقانون، صحيح ندرك أننا لسنا نعيش تحت ظل نظام سياسي تتوفر له رفاهية الفصل بين السلطات كشروط حد أدنى لازم لأي نظام حكم راشد، وندرك أننا نملك مؤسسات بغرض الزينة ووسيلة لتوفير المكاسب والامتيازات لنخبة الطبقة الحاكمة وبطانتها، ولكن ذلك لا يمنع أيضاً أن يتوفر لها حد أدنى من القيام بالواجب بكل مسؤولية، ليس لخدمة الصالح العام، بل على الأقل من أجل مصلحتها للحفاظ على السلطة، أو الدجاجة التي تبيض لها ذهباً، وإجازة قانون الموازنة كأرقام بكماء كل عام كعمل روتيني بلا روح ولا محاسبة هو الذي أفرز الوضع الاقتصادي المأزقي الذي يكابده السودان ويدفع ثمنه غمار الناس ضنكاً.

(4)

ومجرد سؤال هل تعرف السيدات والسادة في المجلس الوطني ما هي المرجعية الحقيقة للموازنة التي أجازوها للتو؟ لا أظن أن أحداً منهم حفل بذلك، أو ظنوها هي تلك النقاط العشر التي وردت تحت عنوان "المرجعيات الأساسية لإعداد موازنة العام 2018"، أو اعتبروها تلك الآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة التي تم بها تزيين خطاب الموازنة، الحقيقة المرة أن المرجعية الفعلية لموازنة العام الجديد لا هذه ولا تلك، بل هي للأسف الشديد توصيات، إن لم نقل إملاءات، صندوق النقد الدولي التي استجابت له الحكومة هذه المرة بلا مواربة، ولا ندري إن كانت طائعة مختارة، أم مغصوبة مأمورة، وهو حديث لا نلقيه على عواهنه، بل سنبثت أدلته في هذا المقال من واقع بيان وتقرير المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في ختام مشاورات المادة الرابعة للعام 2017 لخبراء الصندوق مع الحكومة السودانية، الذي تم وافق عليه في 29 نوفمبر الماضي، وتم الإعلان عنه في 11 ديسمبر، ولأهمية الأمر تنشر "إيلاف" مقتطفات من التقرير بنصه الأصلي باللغة الإنجليزية، على أمل نشره لاحقاً مترجماً للعربية.

(5)

ولعل السؤال الملّح هنا لماذا ركزنا في فاتحة هذا المقال على الدور الرقابي الغائب للمجلس الوطني، وما علاقة ذلك بمرجعية صندوق النقد الدولي وتدخلاته في إعداد موازنة العام 2018 بكل عواقبها الوخيمة؟ حسناً سنربط الصلة من خلال مقارنة بأخطر حدث شهده السودان في السنوات الماضية وشكّل تهديداً بالغة للأمن القومي والمصالح الوطنية، وكان عجز المجلس الوطني عن القيام بالدور المنوط به أحد أسباب هذه الكارثة الوطنية.

فقبيل نحو شهر أعاد السيد رئيس الجمهورية على هامش زيارته لروسيا اتهام الولايات المتحدة بالتآمر على السودان، وأعاد التأكيد على أن تقسيم السودان الذي حدث في العام 2011 بانفصال جنوب السودان كان مؤامرة أمريكية، والسؤال ألم يكن ذلك نتاجاً متوقعاً لاستحقاقات اتفاقية السلام الشامل، ألم يكن نتاجاً لتفاوض أبرمت نتائجه وتبناها المجلس الوطني حينها، بل وحصنّها بدستور العام 2005، ألم يُقال حينها أن تلك الاتفاقية أعظم إنجازات الحكم الإنقاذي لأنها جلبت السلام وأنهت أطول حرب في أفريقيا، ألم يتم الترويج لها بحسبانها بمثابة استقلال ثان للسودان، ألم يحتفل الجميع ويرقصوا طرباً بذلك الإنجاز، ما الذي حدث لتتحول تلك المفخرة إلى كارثة وطنية، بل واتهام صريح بأن تقسيم البلاد كان نتاج مؤامرة أمريكية، فإذا صحّ ذلك فلماذا لم يُحاسب، بل ويتم تقديم المتورطين في تنفيذها إلى المحاكمة؟.

لأن المجلس الوطني ظلَ خيال مآتة، وظل باهت للسلطة التنفيذية، فقد جرت كل تلك الوقائع تحت بصره، بل وبمباركته، والآن هل ننتظر أعواماً أخرى والمجلس الوطني غافل، والاقتصاد السوداني يديره صندوق النقد الدولي ويفرض خياراته، لنأت بعد أن ينهار ما تبقى منه تحت وصفات وروشتات الصندوق الذي ما دخل بلد واستمعت لنصائحه إلا وحلت به الكوارث والمصائب، لنقول مثل ما نقول اليوم أن تقسيم البلاد كان نتاج مؤامرة أمريكية، وأن انهيار اقتصاد البلاد تسببت فيه مؤامرة أخرى.

(6)

حسناً ما الذي جرى تحديداً، من المفيد الإشارة هنا إلى أن خضوع الاقتصاد السوداني لسياسة صندوق النقد الدولي ليست جديدة تماماً في عهد نظام الانقاذي، بل بدأت منذ أن تبنى سياسة السوق الحر، أو ما تُعرف بسياسة التحرير الاقتصادي في العام 1992، وما هي في حقيقة الأمر سوى سياسة "توافق واشنطن" التي تبنتها مؤسسات "بريتون وود" مع صعود النيوليبرالية في عهدي مارقريت تاتشر في انجلترا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة، وتزامن ذلك مع سقوط حائط برلين وانهيار الكتلة الشرقية، وهي سياسة تقوم على تطبيق برامج "إصلاح هيكلي وتكيّف" ذات سمّات رأسمالية متوحشة، لا تلقي بالاً لكلفتها الاجتماعية العميقة على الشرائح الضعيفة في المجتمع، ولسنا هنا بصدد الخوض في عمق هذه المسألة ولكن نعرض طرفاً منها، فعندما قفزت الحركة الإسلامية إلى السلطة بانقلابها العسكري في العام 1989 لم تكن تملك في الواقع سياسة أو برامج منهجية لإدارة الاقتصاد، وإن كانت أدبياتها في دستورها للعام 1982 تميل إلى "الاقتصاد الاجتماعي" بدون تفاصيل واضحة، ومع صعوبة تحديات إدارة اقتصاد الدولة شهدت كواليس اللجنة الاقتصادية السرية للحركة صراعاً بين تيار غالب يدعو لاقتصاد اجتماعي وجماعة متنفذَة تبنّت اقتصاد السوق، وهي التي تمكنت في نهاية الأمر من فرض رؤيتها ل"سياسة التحرير الاقتصادي" الرأسمالية، وعلى الرغم من تبني النموذج الاقتصادي الغربي في غياب "بديل إسلامي"، إلا أن ذلك لم يسعف النظام الجديد في ظل التناقض بين النظام الرافع لشعارات استقلالية سياسياً، والخاضع اقتصادياً للتبعية الغربية وللنظام الاقتصادي الرأسمالي.

(7)

ودون الدخول في كثير من التفاصيل انخرط النظام في تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي بأمل أن يساعد ذلك في تطبيع علاقاته اقتصادياً على الأقل مع الغرب، هذا الانخراط لنحو عشرين عاماً، بعد استعادة السودان لعضويته المجمّدة، في برنامج مراقبة الخبراء التابعين للصندوق تحت مشاورات البند الرابع، فضلاً عن أن السياسات المالية والنقدية للحكومة كانت تطبق وصفات خبراء الصندوق، فإنه مع ذلك لم يستفد من تلك العلاقة لا في الحصول على قروض ومنح جديدة، ولا في تخفيف أعباء الديون عليه، وهو ما يضع علامة استفهام حول جدوى العلاقة، فضلاً عن استمرار التأثيرات الاجتماعية السالبة لسياسات الصندوق على الطبقات الفقيرة، وفي تدهور الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم، وغيرها من معايير العدالة الاجتماعية.

(8)

ظلّت سياسات الصندوق تحثّ الحكومة على تنفيذ وصفاتها كاملة بالتعجيل ب"إصلاحات واسعة النطاق" لا سيما تحرير سعر العملة الوطنية، إلغاء الدعم، مع دعوات خجولة لمعالجة الآثار الاجتماعية السالبة المترتبة على ذلك. وثمة مفارقة هنا فقد كانت السلطات على قناعة بوصفات الصندوق وجدواها، ولكنها في الوقت نفسه كانت تترد في تنفيذها دفعة واحدة خشية أن تؤدي ردود الفعل عاليها إلى اضطرابات سياسية تهدد استقرار السلطة، ولذلك ظلت تلجأ إلى تمرير وصفات الصندوق في جرعات على مراحل لامتصاص صدمات "إصلاحات الصندوق" الاجتماعية تدريجياً لحين الوصول إلى هدف التنفيذ الكامل لسياات الصندوق.

(9)

وللوقوف على خلفية ما أشرنا إليه أعلاه نقتبس هذه الفقرة المطولة من تقرير المجلس التنفيذي لصندوق النقد الصادر في العام 2016 "وقدم الخبراء سيناريو توضيحي ينطوي على تعديل لسعر الصرف الرسمي مع مزيج من السياسات الأكثر تقييداً، وفي هذا السيناريو، من المحتمل أن يتباطأ النمو ويرتفع معدل التضخم في المدى القصير نتيجة تأثير انخفاض قيمة العملة على الواردات والأسعار والحصيلة الجمركية. ومع ذلك، سوف يشهد أداء الاقتصاد الكلي تحسنا على المدى المتوسط نظراً لما قد يترتب على القضاء على تشوهات الصرف الأجنبي من تحسين القدرة التنافسية وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. ويرى الخبراء سهولة التعامل مع الآثار التضخمية الناجمة عن تخفيض سعر الصرف الرسمي، لأن غالبية الأسعار تعكس بالفعل سعر الصرف الموازي. ومن المحتمل أن تكون مكاسب الإيرادات كبيرة نتيجة تخفيض قيمة العملة، لأن الواردات ستكون مقومة بسعر صرف أعلى، مما يزيد من القاعدة الضريبية للواردات، ولنجاح الإصلاحات، ينبغي اتخاذ تدابير للتخفيف من أثر تعديلات سعر الصرف على الفقراء. واقترح الخبراء الإبقاء مؤقتا على نظام الدعم على الوقود والقمح لتهدئة المخاوف من الآثار الاجتماعية لزيادة مرونة سعر الصرف. ويمكن تغطية الزيادة في تكاليف الدعم من مكاسب الإيردات الناتجة عن تخفيض قيمة العملة. ويتعين على بنك السودان المركزي استخدام كافة الأدوات المتاحة لديه للحيولة دون التأثيرات اللاحقة على التضخم بسبب تعديل سعر الصرف".

(10)

وكشف التقرير أن السلطات السودانية اتفقت مع تقييم الخبراء ب"شأن الحاجة للحد من الاختلالات الخارجية، ولكنها تفضل نهجا أكثر تدرجا مما هو مقترح في السيناريو التوضيحي الذي أعده الخبراء"، فقد اعتبرت السلطات "أن التعديلات الكبيرة في سعر الصرف تخل بالاستقرار، سواء اقتصاديا أو اجتماعياً، وأنها سابقة لأوانها بدون توافر احتياطيات النقد الأجنبي الكافية للحيلولة دون التجاوز المفرط لسعر الصرف التوازني". واعتبرت السلطات أن "نظام سعر الصرف المرن هو هدف طويل المدى، وأعربت عن قلقها من التأثير التضخمي لتعديل سعر الصرف، وخطر الاضطرابات الاجتماعية التي أعقبت تخفيض قيمة العملة في سبتمبر ٢٠١٣.

وتتمثل استرتيجيتها الإصلاحية، حسب برنامج الخطة الخمسية، في السماح تدريجيا للقطاع الخاص باستخدام سوق الصرف الأجنبي الموازي لاستيراد السلع الأولية، والقيام تدريجيا بتعديل سعر الصرف الرسمي وتنويع الصاد ارت في المدى المتوسط. وفي الوقت نفسه، توقعت السلطات استمرار لمساعدات الخارجية من دول الخليج لتغطية الفجوات التمويلية".

وكان رد الصندوق على المخاوف السودانية أنه "يتعين إلغاء قيود النقد الأجنبي وممارسات أسعار الصرف المتعددة. فهذه التدابير لا تعالج الاختلالات الخارجية الأساسية وتعرقل الاستثمار الأجنبي". وذكر التقرير أن السلطات "أبدت التزامها بإلغاء القيود بمرور الوقت مع تحسن الظروف"، وهو أمر "موضع ترحيب"، ويحث الخبراء السلطات على وضع جدول زمني ثابت لإلغائها. ويُذكَر أن "السلطات لا تطالب بالموافقة على قيود النقد الأجنبي وممارسات أسعار الصرف المتعددة، ولا يُوصى بمنح هذه الموافقة".

(11)

إذاً ما الذي حدث وجعل السلطات تتخلى عن حذرها في الاستجابة لشروط الصندوق هذه المرة؟. حتى منتصف نوفمبر المنصرم وفي خضم التدهور المتسارع لقيمة الجنيه السوداني تلك الأيام خرج وزير المالية ليعلن أنه "لا يوجد أي اتجاه لتعويم الجنيه مقابل اسعار صرف العملات، واي حديث عن تعويم الجنيه اشاعة، وقطعا لن يحدث"، وأضاف أن وزارته ستتخذ "حزمة من المعالجات التي تساعد في ارتفاع قيمة الجنيه، وتحد من انهياره أمام العملات.. وأن الجنيه سيشهد استقراراً في الايام القادمة"، وإبان زيارة البشير إلى روسيا أعلن أنه لن يتم تعويم الجنيه، وأن الحكومة متمسكة ب"سياسة سعر الصرف المرن المُدار".

(12)

في تقرير الصندوق الذي وافق عليه مجلس المديرين التنفيذي في 29 نوفمبر ورد نصاً "أن خبراء الصندوق والسلطات السودانية اتفقوا على أن تحرير سعر العملة خطوة ضرورية لاستعادة الاستقرار الكلي، وللتخلص من الاختلالات التي تعيق الاستثمار والنمو"، وأن اتخاذ "سعر موحد على أساس السوق من شأنه أن يعزز التنافسية"، وقال خبراء الصندوق أنهم أوصوا بأن يتم توحيد كل أسعار العملة المتعددة للتخلص من كل الاختلالات دفعة واحدة، وإرسال رسالة قوية للمستثمرين تؤكد مصداقية أجندة الحكومة الإصلاحية. وذكر التقرير أن السلطات السودانية متفقة من حيث المبدأ مع توصية خبراء الصندوق، ولكنها قلقة من أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازي، ومتخوفة من الآثار الاجتماعية لعملية "التكيَف"، وأنها تميل إلى مرحلة هذه العملية.

في الواقع ما تبنته الحكومة في موازنة العام 2018 من خيارات ليست سوى "سيناريو السياسة الإصلاحية" التي رسمها صندوق النقد الدولي، فما هي العواقب المنتظرة لذلك في ظل تجارب الدول التي خضعت لسياسات الصندوق؟.

 

آراء