د. محمد أحمد محمود: ثلاث مسائل: الحلقة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
المسألة الثانية: سوء السلوك العلمي
مقدمة:
نتناول في هذا المقال السوءة الثانية للدكتور محمد أحمد محمود وهو سوء السلوك العلمي وقد ناقشنا في مقالات "زخرف القول" جهله بأبجديات المنهجيَّة العلميَّة وسنستخدم، إن شاء الله، مقاله عن الدكتور قاسم بدري، لتوضيح سوء سلوكه العلمي. وديفيد رزنيك في كتابه: أخلاقيات العلم يقول: العلم نشاط تعاوني يحدث داخل سياق سياسي اجتماعي أكبر. وهذا يعني أنَّ العلماء لا يمكن أن يفصلوا أنفسهم عن السياق العام للبشر بوصفهم علماء ذوي طبيعة موضوعيَّة ويعالجون مواضيع موضوعيَّة ولذلك ففرصة الانحراف بينهم شبه معدومة وإنَّما هم نشر مثل الغير يتعرَّضون لنفس العوامل التي يتعرَّض لها كلّ إنسان في مجاله وينطبق هذا أكثر على مجال العلوم الإنسانية أكثر من العلوم التطبيقية.
وسأبدأ إن شاء الله بذكر النِّقاط السبعة المُثارة في مقال د. محمد أحمد محمود، والتي سأتناولها بالتفنيد واحدة إثر أخري، بعد عرض سريع لبعض المفاهيم إذ بغيرها سيكون الفهم قاصراً.
أنواع العلوم:
العلوم تنقسم إلى تطبيقية وإنسانية، والمعايير العلمية في العلوم التطبيقية أصلب لأنَّها تعتمد على التجربة ويمكن التحكُّم في شروطها ويمكن اكتشاف فعاليتها بواسطة التطبيق أو اكتشاف التزوير فيها بمراجعة بياناتها أو اكتشاف بؤس قيمتها بالفشل في تكرارها.
أمَّا العلوم الإنسانية فهي مائعة لسيولة مفاهيمها، وصعوبة اختبارها واعتمادها على الشروط الذاتية أكثر من الشروط الموضوعية في البحث العلمي، ولذلك فالناس لا تختلف كثيراً في نتائج العلوم التطبيقية مثل القوانين الفيزيائية والكيميائية ولكن تختلف كثيراً في العلوم الإنسانية ولذلك تختلف الفلسفات والآراء من مكان لآخر لاختلاف المفاهيم حيث تسود الآراء أكثر من الحقائق المدعومة بالدليل.
مناهج البحث العلمي:
ولكلٍّ من العلوم التطبيقية والإنسانية مناهج ونماذج وشروط بحثيَّة مُعيَنة تستخدمها وتلتزم بها وقد شاع أخيراً في العلوم الإنسانية منهج البحث الأركيولوجي الحفري في التراث العلمي والإنساني، مثلما يفعل عالم الآثار، وهو منهج تاريخي، عمودي يقصد به التعمَّق في طبقات متن التراث لاستخلاص المعاني الخفيَّة المُضمَّنة فيه أو المسكوت عنها برؤية مختلفة، وأدوات بحثية جديدة، غير أدوات البحث النقلي الأفقية الظاهرية.
وهذا هو المنهج الذي يستخدمه الدكتور محمد أحمد محمود تشبُهاً بمن سبقوه مثل البروفسير محمد أركون ويبدو أنَّه لم يغادره وهو يستنتج من قراءته لنصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ما يشاء من آراء.
قيمة الأخلاق في البحوث:
ولإظهار قيمة الجانب الأخلاقي في العلوم التطبيقية تخيَّل أنَّ أحداً قام باكتشاف دواء وقدَّم نتائج بحوثه التي تثبت فعاليَّته ونفعه ووثق فيه الجمهور واستخدمه ولكن تضرَّر من استخدامه وعند مراجعة بحوث هذا العالم اتَّضح أنَّه زوَّر أبحاثه ونتائجها؟ إنَّ كلَّ المجهود الذي بُذل في البحث والأموال التي صُرفت عليه وعلى تصنيع الدواء تصبح لا قيمة لها وعاقبتها خسارة.
أو في العلوم الإنسانية فيكفينا برهاناً الفلسفات والنظريات الاجتماعية والسياسية التي حاول الناس تطبيقها وكيف انتهت إلى مآسي أضرَّت الإنسانية إن كان السبب هو سوء النظريَّة نفسها لقيامها على افتراض أو سوء فهمها أو سوء من طبَّقها خلُقاً أو جهلاً ولذلك فهي عرضة للهوي أكثر من العلوم التطبيقية ويقال: هوي النَّفس حيث حلَّ حبيبها.
ولذلك لن يفوت على فطنة القارئ أنَّ المعايير العلمية تتقاطع وتتفاعل مع المعايير الاجتماعية ومع معايير الخُلق العام.
والعلماء لا يظنُّ معظمهم أنَّهم في حاجة لتعلُّم المعايير الأخلاقيَّة لأنَّها جزء متأصِّل من شخصيتهم كعلماء، وهذا وهمٌ لا غير، فَهُمْ بشر كغيرهم من البشر معرَّضون لإغراء الدنيا يصيبون ويخطئون.
إنَّ أسوأ ما يمكن أن يصيب العلم بضرر هو اتخاذه كمهنة يُتكسَّب منها لأنَّ غريزة البقاء قد تلوي عنق الأخلاق إذا تعارضت مع المصالح الخاصَّة، وممَّا يؤسف له أنَّ معظم العلماء يخضعون لسياسات المؤسسات التي يعملون بها وهو مما يتعارض وحريَّة العلم.
وظائف العلم:
للعلم وظائف شتَّي ولكن ما يعنينا هو وظيفته بين العالم والجمهور الذي يمثِّل سياق العالم الذي يعيش فيه. فالعالم بحاجة لهذا الجمهور ليوفِّر الموارد للبحث العلمي وضمن معيشة وتفرُّغ العالم على أن يُنتج هذا العالم شيئاً يفيد البشريَّة. وأوَّل حارس للتأكُّد من نوعية البحوث العلمية ونتائجها هو مجموعة جمهور العلماء حوله الذين يمكنهم الحكم عليها، ثمَّ ينتقل الأمر تدريجيَّاً لدائرة أكبر لها اهتمام بالعلوم كأهل الحكم أو أهل الصناعة، وتتَّسع هذه الدائرة حسب علم ووعي واهتمام ما تبقَّي من جمهور.
فالعلم هو الجسر بين العالم والجمهور، ولأنَّ العلم تخصُّص لا يفتح أبوابه لكلِّ إنسان لذلك يصعب على الجمهور غير المتخصِّص تقييم العلم المطروح عليهم، وعليه فالمسئوليَّة تقع أوَّلاً على العالم لا على الجمهور في تمحيص المعرفة المطروحة، وعرضها بصدق وموضوعيَّة حسب معايير السلوك العلمي. ولذلك فالأمانة والنزاهة العلمية هما حجر الأساس لكلِّ علم ومن غيرهما لا قيمة لما يطرحه العالم لأنَّه من غيرهما تنعدم الثقة نتيجة انتهاك الأمانة العلمية.
الأمانة العلمية والنزاهة الفكريَّة:
يحضرني تصنيف "بييتر درنث" في كتابه "الأمانة العلمية التحديات في سبيل إحقاقها وكيفية التصدي لها"، لسوء السلوك العلمي وهو الغش، الخداع والتضليل، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية. والغش يشمل أي مساس بسلامة النص ودقَّته وتجنَّب التلفيق والتزييف أي بمعني آخر عدم التدليس. والخداع والتضليل فيشمل انتهاك قوانين التحليل المنهجي السليم وعدم معالجة النص خارج سياقه أو استثمار النَّص خارج إطار الموضوعيَّة من أجل تحقيق غرض خاص، أمَّا انتهاك الحقوق الملكية الفكرية فلا يعني ذلك السرقة فقط وإنَّما يعني عدم توضيح المصدر أو التعامل اللامبالي بالنَّص. ولذلك فإرادة العالم للخير أو الشر هي التي تحكم ما يقدِّمه للجمهور ومسألة الخير والشر نسبيَّة ولكن مسألة الأمانة وعدم الأمانة مطلقة.
علوم الفلسفة الرئيسة:
في علوم الفلسفة يُعتبر الإنسان مركزاً للمخلوقات لأنَّه يتميَّز، مع أشياء أخري، بالتفكير والسعي للمعرفة لإدراك سبب وجوده وكيفية إدارة حياته والتغلُّب على العقبات التي تواجهه في واقعه. ولذلك فسلامة التفكير والأمانة العلمية في البحث ركنان من أركان الوصول للمعرفة النافعة.
ولذلك بدأت الفلسفة بعلم الوجود وعلم المعرفة ثمَّ اكتشف الإنسان أنَّ تفكيره يخضع، كما تخضع أشياء أخري، لمصالحه وغريزة بقائه وأنَّه وجود متفاعل مع من وما حوله إنساناً وحيواناً ونباتاً وجماداً، وأنَّ لكلٍّ منهم وجود منفصل، وحاجات ومصالح متنافسة، ولكن هناك أيضاً حاجة للتعاون والاعتماد فأدرك أنَّه يحتاج إلى أمر آخر غير المعرفة للتحكم في هذا التفاعل فانتبه إلى علم القيمة وهو الأخلاقيات والخلق العام، بل وصار هذا القسم من الفلسفة هو الأهم لأنَّ الحياة تستحيل بغيره إذ أنَّك قد تكون جاهلاً بأشياء كثيرة ولكن ثقتك في الذي يعلم هي التي تيسِّر لك سبيل البقاء.
المرجعيَّة الفكريَّة للحياة:
الناس تنقسم إلى قسمين منهم من يؤمن بأنَّه مخلوق ولذلك فهو يتبع هُدي الذي خلقه لإجابة الأسئلة الوجودية، ولتعلُّم سبل اكتساب العلم ومعايير التعامل، ومنهم من يؤمن بأنه وُجد صدفة ولذلك يقع عليه عبء اكتشاف الحقائق بنفسه.
ومهما يكن موقف الإنسان من سبب وجوده فهو يدرك أنَّ العلم كظاهرة إنسانية هي ظاهرة متفاعلة مع الواقع الاجتماعي وهي عملية معرفيَّة تراكمية؛ إضافة أو نقداً لما سبق. ولذلك فهي تخضع لنفس القوانين التي تحكم الظواهر الإنسانية وأهم ما يحكمها هو الجانب الأخلاقي لأنَّه يُولِّد الثقة في البحث العلمي وفي سلوك الباحث وبغير ذلك لا يمكن أن نثق في نتائج أبحاثه أو نستنتج منها حقائق لنطبقها على واقعنا.
ولذلك قيمة العلم تنبع من صدق مصدره ومن صدق نقله وتوثيقه ومن حسن فهمه حتى لو كان العلم مصدره الله سبحانه وتعالي لأنَّ الإنسان يخضع لمعايير التغيير من نسيان أو سوء توثيق أو سوء فهم أو قصد تحريف لمصلحة.
وأي انحراف عن معايير السلوك العلمي ظلم إن كان سهواً وظلم بواح إن كان قصداً ولذلك فالميل عن الحق يحدث عندما يظهر الغرض ويخون الإنسان ضميره ونحن نعرف أنَّ العدل في حقِّ العدوِّ شاق ولذلك كان أمر المولي عزَّ وجلَّ:
" يَا أَيُّهَآ اْلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ باْلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اْعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاْتَّقُواْ اْللَّهَ إِنَّ اْللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ "، والشنآن هي الكراهية. وقيمة كلُّ امرئ ما يحسنه كما قال الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه وذلك فعلاً أو قولاً.
شروط دراسة القرآن الكريم والتراث الإسلامي:
قبل أن ندلف إلى صلب المقال ونستعرض سوء السلوك العلمي لدكتور محمد أحمد محمود، يجب توضيح أنَّ تناول القرآن الكريم لا بُدَّ وأن يسبقه الوعي بأمور منها الوعي بخصائص اللغة المُنزَّل بها، والوعي بالسياق المقامي لبيانه نزولاً ولبيانه استنباطاً وتطبيقاً، والوعي بالتكامل الدلالي للنصوص وأيضاً ضابط الوعي بمقاصد البيان، كما طرح الدكتور محمود توفيق محمد سعد. وسنري أنَّ الدكتور محمد أحمد محمود لا يظهر من طرحه لمسائل الإسلام قرآناً وحديثاً أي وعي بهذه المعايير.
الحكمة من إرسال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم:
الرسل أطباء الأمم ولا يرسل الله سبحانه وتعالي رسولاً إلا إذا ظهرت أعراض الأمراض وشاعت فأدَّت إلى الفساد وكلَّما ازداد مرض هذه الأمم كلَّما ازداد عدد أنبياءهم ورسلهم ولنا في أمَّة اليهود والعرب أفضل مثال فهم منذ زمان سحيق وإلى يومنا هذا سبب معظم مشاكل العالم ولم ينقذهم من سوء أنفسهم وأعمالهم إلا الدين الصحيح.
فالقرآن الكريم هو كلام الله لكلِّ البشر في نظر المسلمين، ولذلك حكمه نهائي لأنَّ غايته الأولي والأخيرة، في نظرهم وحسب معايير الصحة الحديثة، هي إتمام النعمة، وذلك يعني إتمام العافية في درجاتها الأربعة وهي درء الضرر، وتقليل الخطر، وإكمال الشفاء وترقية العافية الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية في الدنيا والآخرة. ولذلك فآياته تعالج مراحل العافية من أكثرها بدائية لأكثرها رُقيَّاً وهذا مبني على قول المولي عزَّ وجلَّ:
" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟
والقرآن نزل مُنجَّماً، أي متفرِّقاً، حسب أحداث الواقع الذي عاشه المؤمنون ليعالج مشاكلهم.
النقطة الأولي: إنَّ ما ورد في آية النشوز في القرآن الكريم من سماح بضرب النساء النواشز لا يجعله أمراً أخلاقياً ولا مقبولاً.
هذه أوَّل نقطة يثيرها الدكتور محمد أحمد محمود في مقاله عن آية ضرب النساء في سورة النساء، وهي الآية التي استشهد بها الدكتور قاسم بدري لتبريره لسلوك ضربه لطالبات جامعة الأحفاد، وقد فعل كليهما ذلك من غير تثبُّت ولا تحقُّق ولا وعي بالمعايير السابق ذكرها، وذلك حال الجاهل الذي يستسهل العلم ويخلط بين الرأي والدليل.
السؤال هو: من هو الذي يحدِّد معايير الأخلاق ومعايير الأمر المقبول؟ وما هي مرجعيَّة مصدر الذي يحدِّد هذه المعايير؟
وما هو السياق الذي يجعل أمراً أخلاقياً ونفس هذا الأمر غير أخلاقي في سياق آخر؟
هل إذا كانت الزوجة تُعاني من مرض التلذُّذ بالاضطهاد وزوجها سادي، وهي التي تشتري السوط الذي يجلدها به، بل وتطالبه بذلك، أيكون سلوك زوجها غير أخلاقي ولا مقبول؟ إنَّه في نظرها ونظر زوجها، ومن يشاركونهم هذه الأفكار بل والدول، أخلاقي ومقبول بناء على حقوق الإنسان، إذا كانت حُرَّة وتقبل الفعل برضاها لأنَّها تملك جسدها وإرادتها في مجتمع حرٍّ يكفل لها هذا الحق، ولا تخالف القانون، وتجد في السلوك متعة وفائدة نفسية تزوِّد العلاقة بينها وبين زوجها بالحميمية.
إنَّ أسوأ ما يمكن أن يفعله عالم هو التعميم المُخلِّ خاصَّة إذا لم يفهم حكمة التشريع، أو لم ينتبه لواقع الإنسان المليء بالمتناقضات وبالناس الأسوياء والمرضي وما بين المجموعتين، فيصدر أحكامه بناء على واقع مُتخيَّل لا واقع حقيقي.
الشيء الذي يجعل الأمر أخلاقياً ومقبولاً هو السياق. لنفترض أنَّ زوجة اختنقت بشيء وضربها زوجها على ظهرها لتلفظه لينقذ حياتها فهل هذا ضرب أخلاقي ومقبول مقارنة بزوجة أخري تمرَّدت على زوجها وأطفالها لسبب مرضي كاختلال الشخصيَّة أيكون ضربها غير أخلاقي وغير مقبول والغاية واحدة في الحالتين وهي علاج ضرر أو تقليل خطر؟ أو هل ما يمارسه المثليُّون من تعذيب لأجسادهم وعوراتهم وهم عرايا في مهرجاناتهم السادوماسوستكية العلنية والتي ترعاها الدَّولة وتحميها أخلاقيَّة ومقبولة؟
النقطة الثانية:
عند إعلان هذه الآية أدَّت لحركة احتجاج واسعة وسط النسوة لأنَّهن لمسن في الحال ما تُوْقعُه عليهنَّ من ظلم فادح وأنَّ شرارة تلك الثورة ضدَّ آية النشوز والتي حدثت أمام سمع وبصر الرسول ﷺ لم تنطفئ وأنَّ الاستشهاد بها اليوم لن يقنع أحداً بقبول العنف ضدَّ المرأة.
لا أظنّ أنَّ السيد قاسم بدري وحده الذي لم يسمع بهذه الثورة المزعومة فأنا أيضاً لم أسمع بها والكثير من الذين أعرفهم لم يسمعوا بها، وقد كان أنفع لو أنَّ الدكتور محمد أحمد محمود ذكر بعضاً من مصادره لنرجع إليها ونتأكَّد من صدقه وصدقها.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي