“سولارا” للفيتوري: أحزان إفريقيا في مسرحيَّة مأسويَّة

 


 

 


shurkiano@yahoo.co.uk

لا ندري متى كتب الشاعر محمد الفيتوري هذه المسرحيَّة التراجيديَّة، ولا نعلم كم من الناس قرأوها، وتفاعلوا معها حزناُ وأسى، ثمَّ لا نجد بأساً ولا حرجاً في محاولتنا لإذاعتها في الناس مرة أخرى حتى على سبيل التذكير.  بيد أنَّ الأهم في الأمر هو ما صوَّرته هذه المسرحيَّة التراجيديَّة من أحزان إفريقيا في القرن التاسع عشر من الميلاد، وفي قمة العهد الأُسيود الذي بلغه الإنسان فيما عُرف بعصر تجارة الرِّق بين إفريقيا والجزر الكاريبيَّة وأمريكا الشماليَّة واللاتينيَّة.  وكما قرأنا لكم أو كتبنا لكم عن قصة سينغبي ورفاقه العبدان في مقال سابق، تكاد تكون مسرحيَّة "سولارا" صورة تقريبيَّة لما تعرَّض له سينغبي وآخرون.
إذ تبدأ المسرحيَّة بالطريقة المألوفة التي يتم بها دوماً "اصطياد" الأفارقة وسوقهم زرافات إلى المرفأ، حيث القلعة الحصينة التي فيها يتم تجميع الرقيق من إثنيات مختلفة ومن أماكن متعددة في انتظار السفن العائدة من بريطانيا، ريثما يتم نقلهم إلى جزر البحر الكاريبي لاستعمالهم في مزارع قصب السكر، والجزء الآخر إلى أمريكا الشماليَّة لاستخدامهم في المزارع والمصانع والمنازل.  وفي الطريق من مكان الصيد، وبينما كان النخَّاسون والعبدان سائرين – أو لنقل بالأحرى مسيَّرين لا مخيَّرين – إلى الميناء خرج أحد العبدان، وهو "سافو"، عن الصف المعهود للقافلة في محاولة يائسة منه للهروب، ومن ثمَّ أطلق تاجر الرقيق، شارلي، النار عليه.  فبينما هو ساقط على الأرض، قال: "لا يا هذا القرصان الأبيض، لن أمضي.. لن تخرجني منها.. فأقتلني.. أو أقتلك الآن، أقتلني في أرضي."  والحال كذلك، زحف "سافو" تجاه شارلي متحدِّياً والدَّم ينزف منه مدراراً، حتى أطلق عليه شارلي رصاصة قاتلة أودت بحياته.  فبينما كان يتحشرج، أخذ يقول: "أغرسني في أرضي بذرة/ أسقني في فمها قطرة/ أنثرني فوق روابيها ورقة."  وبالطبع، استطاع الفيتوري أن يصوِّر بقوة غضباء الأرقاء الآخرين وهم يشاهدون ما يجري لرفيقهم.  هذا ما كان ينتظر أيَّاً من العبدان ممن يجرؤ على الهروب، أو يساوره الأمل في الفرار من هذا الوضع الجهنَّمي البربري الذي كان يتعرَّض له الأرقاء من غرب إفريقيا عبر الأطلنطي، أو في شرق إفريقيا عبر المحيط الهندي إلى جزيرة العرب وشبه الجزيرة الهنديَّة، أو شمالاً عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوربا وأمريكا الشماليَّة.
كان هؤلاء النخَّاسون – أو النفاضة كما كانوا يُدعون في السُّودان إبَّان العهد التركي-المصري (1821-1885م) - ورفاقهم من القباطنة والربابنة في لياليهم "الخمريَّة" يحتسون الخمر ويدمنون في الشراب، وفيما هم في سكرتهم يتسامرون - ومع ذلك - لتجدنَّهم يتشاجرون ويشتدون في الشجار ويغلظون، ثم يسردون القصص، ويختالون بآثامهم.  فمنهم من اعترف باغتصاب فتاة من الفتيات المسترقات، أو تعذيب عبد من العبدان، أو قتلهم زرفات ووحداناً بالرصاص، أو رميهم في اليم أحياءاً لتلتهمهم الحيتان ويكونوا طعاماً لهم.  ويشترك في هذه التراجيديا القباطنة والربابنة والنخَّاسون على حدٍ سواء، وفي تلك المأساة الملهاة يتنافس المتنافسون.  ألم تر كيف أخذ مارك – قبطان السفينة في المسرحيَّة إيَّاها – يتندَّر بالقتل وهو ثمل، وإنَّ أكثر الشرور مقتاً التفكه بالموت.  إذ قال قائلهم هذا وخصَّ بالحديث شارلي وأدجار، وهما من تجار الرَّقيق:
"(بلا مبالاة) لو شئتما فسوف أحكي لكما حكاية..
كنت أنا شاهدها في هذه السفينة..
وكانت الشحنة ألفي ذكر من العبيد الأقوياء، وثمانين امرأة..
وحسنت في ناظري جاريتان..
أولاهما طويلة.. ولدنة..
كأنَّها حين تسير شمعدان..
منتفض الألوان..
أو بنت سلطان عظيم الشأن..
وهي وإن لم تتجاوز اثنتي عشرة سنة..
متَّزنة..
وذات شهقة ملوَّنة..     (ضحك)
وكانت الأخرى قصيرة سمينة..
بطيئة كبقرة..
ثقيلة كجذع شجرة..    (ضحك)
وذات ليلة أفقت بعد سكرة مفتخرة..
فلم أجد بجانبي التي أتيتها..
هل تعلمون أين كانت حينما وجدتها."(1)
وحين سأله شارلي، أحد تجار الرَّقيق، بفضول عما أصابها، ردَّ مارك بأنَّها كانت في حضن أمها، وكان مارك قد ضاجع الاثنتين، وشدَّد الأم إلى ابنتها، ثمَّ أغرقهما في المحيط الأطلسي بعد ليلتين، وحين أخرجهما كانتا جثَّتين، بل بقايا جثَّتين لأنَّ وحوش البحر قد مزَّقت صدر الأم، ولم يبق من إبنتها غير عظم الرأس واليدين.  بالنسبة إلى هذه العبارات كان من الواضح أنَّ مارك يمزح بسماجة ويستفز بحمق وما إلى ذلك من ترهات.  هؤلاء البؤساء المغلوبين على أمرهم قد رأوا شياطين العنف، وشياطين الجشع، وشياطين الرغبات الساخنة، ولكن بكل نجومهم – بكل تحمله هذه الكلمة من سخريَّة - والذين هم في بادئ الأمر وآخره أشداء غلاظ، شهوانيين؛ إنَّهم لشياطين ذوي عيون حمراوات يحرِّكون الرِّجال والنِّساء والأطفال على السواء.
وإنَّهم لفي لهوهم ومجونهم هذا، إذا السفينة تتعرَّض لريح صرصر عاتية، سخَّرها عليهم الله كغضب عليهم.  وكان أكثر ما أقلق أولئك وهؤلاء هو البحث عن طوق النجاة لأنفسهم أولاً، ثم العبدان ثانياً.  وليس الاجتهاد في إنقاذ الأرقاء في سبيل الرحمة بهم أو حباً لهم، أو شفقة عليهم أو حتى الإشفاق عليهم، ولكن حفاظاً على ثروتهم البشريَّة التي كادت أن تضيع سدى، ولأنَّهم قد لا يكتسبون القضية ضد شركات التأمين في بلادهم.  وهناك قصص مرعب فيما يختص بهذا التأمين في تجارة الإنسان بالإنسان.  ففي يوم 6 أيلول (سبتمبر) 1781م أبحرت سفينة "زونغ" من غرب إفريقيا وعلى متنها 470 من الأفارقة المستعبدين، متجهة نحو جزيرة ساو تومي.  وكانت السفينة مكتظة بشحنتها البشريَّة اكتظاظاً شديداً، حتى بات كل فرد يحتل حيزاً أقل من ذلك الذي يحتله الجثمان في التابوت.  وبعد مضي أسابيع عدة في هذه الرحلة مات كثرٌ منهم، ومرض آخرون مرضاً مستميتاً.  وأدرك مالك السفينة، لوك كولينغوود، أنَّ شركة التأمين لسوف لا تدفع له التعويض لفقدان العبدان لأسباب طبيعيَّة، ولكنها قد تدفع له التعويض إذا أثبت بأنَّه تخلَّص من شحنته لإنقاذ حياة القباطنة والسفينة.  وعليه، أمر بإلقاء 132 عبداً في البحر وهم أحياء.  وفي بريطانيا زعم أنَّه اتَّخذ هذا القرار المرعب لأنَّ الماء الذي كان بحوزتهم كاد أن ينفد، مما عرَّض حياة الربابنة للخطر.  إذ رفضت شركة التأمين دفع مبلغ 30 جنيهاً لكل فرد من الأفراد الذين زعم مالك السفينة بأنَّه قد فقدهم، ووُضِعت القضية أمام القضاء مرتين العام 1783م.  وفي هذه الأثناء كانت القضيَّة تُقدَّم كأمر ذي علاقة بالتأمين، وليس بالقتل.  أما دعاة إلغاء الرِّق، مثل أولودا إكويانو وقرانفيل شارب، فقد رأوا الأمر بصورة مغايرة.  إذ ضغطا على أولئك الذين كانوا في السلطة يومئذٍ، بما فيهم رئيس الوزراء، أن تتضمَّن الدعوى تهم القتل.  وبرغم من جهودهما، لم يمتثل أحد أمام القضاء.  وحينما أمست فضيحة "زونغ" مسألة عامة، ألهبت هذه المأساة مشاعر العامة ودفعتهم إلى مساندة حملة إلغاء الرِّق.  إذ جاء في إحدى التقارير عن أحوال الرقيق في سوق النخاسة في جزيرة زنجبار بشرق إفريقيا، والتي كانت تحت نفوذ الحاكم العماني سيد سعيد بن سلطان: "أتخيَّل أنَّه لا يوجد مكان في العالم فيه تجد التعاسة والمعاناة الإنسانيَّة التي يواجهها الأرقاء البؤساء في الحين الذي فيه يُجلبون هنا حتى يُبتاعون (...) إنَّهم لفي حال بائسة من الجوع والمرض، وهم – في بعض الأحايين – لا يُعتبرون جديرين بإنزالهم إلى الشواطئ، ويُتركون على ظهر السفينة حتى الموت، وذلك لادخار دولار واحد هو قيمة رسوم الجمارك الذي سوف يدفعه التاجر لكل رأس من الرقيق، ويُلقى جثمان هؤلاء التعساء على الشاطئ لتأكله كلاب المدينة السائبة، ولا أحد يُقبل على مواراتهم."(2)
وكحال أيَّة مسرحيَّة تراجيديَّة كان ينبغي أن تنتهي هذه المسرحيَّة هي الأخرى بشيء يفرح الجمهور، وينتزعهم من مآسي فصولها إلى مراسي الحريَّة، ويفرج عنهم كربة التعلق بالحدث المأسوي، ويسوقهم إلى ما فيه السعادة بعد الشقاوة.  إذ جاء الفصل الأخير من المسرحيَّة يحمل ثورة عنيفة غاضبة ضد المضطهدين (بكسر الهاء) في سبيل التحرُّر من ربقة العبوديَّة، وذل حياة الاسترقاق.  وكانت غضبة الثائرين ووثبتهم منصبتين على أولئك النخَّاسين وهؤلاء الذين تعاونوا أو تعاشروا معهم، بما فيهم "سولارا"، الشخصيَّة المحوريَّة في هذا النص المسرحي، والتي إذ بالكاد استطاعت أن تقنعهم بأنَّهم فعلوا أفاعيلهم فيها غصباً وعنوة، وكانت مغلوبة على أمرها، ولم تكد تستطيع أن تفعل شيئاً.  وبالطبع والطبيعة، استعان الثائرون بالسحر الإفريقي، ونحن نعلم أنَّ السحرة والكجرة والتعاويذ والطلاسم من الأدوات التي يلجأ إليها الأفارقة في مجتمعاتهم الإفريقيَّة للاستنجاد بهم في تدافع شرور الحياة ونوائب الدهر.  مهما يكن من الشأن، فما هو مصدر الإلهام، أو مصادر الإلهام، الذي دفع الشاعر الفيتوري أن يحبِّر مسرحيَّته بهذا المداد الإنساني، ويصطبغها بنوع أدبي قادراً على اجتذاب الناس ومن خلاله التأثير على عواطفهم ومشاعرهم؟
على أيَّة حال، يمتد هذا العهد الذي أشرنا إليه بالعهد الأُسيود في علاقات الرق بين أوربا ودول القارة الأمريكيَّة في فترة قدرها 400 عام، ابتداءاً من أوائل القرن السادس عشر من الميلاد، حين شرع الأوربيُّون يسترقون الأفارقة ويبتاعونهم فيما عُرف بتجارة الرِّق عبر المحيط الأطلسي.  فالرِّق ذاته كان متواجداً منذ أمدٍ بعيد، غير أنَّ تجارة الرِّق عبر المحيط الأطلسي قد بدأ في مستهل القرن السادس عشر حين أخذ الأوربيُّون يستوطنون في أمريكا، وطفقوا يسترقون الأفارقة ليستخدمونهم في مناجمهم ومصانعهم ومزارعهم وبيوتهم.  ولمدة تناهز أربعة قرون استخدم الأوربيُّون الأفارقة العبيد كعمال في سبيل تنمية مستعمراتهم في شمال وجنوب أمريكا وجزر البحر الكاريبي.  فكلما زادت المستوطنات زاد الطلب في العبدان من رجال ونساء وأطفال.  إذ قدرت الإحصاءات أنَّ أكثر من 12 مليون إفريقي نقلوا قهراً بواسطة سفن الاسترقاق عبر المحيط الأطلسي، ولقي أكثر من 2 مليون إفريقي حتفهم في خلال هذه العمليات، وذلك قبل أن يجيز البرلمان البريطاني قانوناً بإلغاء الرِّق في يوم 25 آذار (مارس) 1807م.
وفي ذلكم الحين لم يكن البريطانيُّون من أوائل المشتغلين بهذه التجارة، لكنهم أمسوا من المسيطرين عليها، حتى أمست بريطانيا المستفيدة الأولى والأكثر نفوذاً في ممارستها وإدمانها.  بيد أنَّ بريطانيا كذلك هي الدولة الأولى التي فيها نما السخط الأخلاقي العارم ضد ما كانوا يشجعونه ويمارسونه حتى عهد قريب.  وفي نهاية الأمر أحس البريطانيُّون بذنب خاص في أمر هذا الشر الشرير.  وبفضل رغبة دعاة إلغاء الرق العارمة في البرلمان، وذلك تحت ضغوط جسيمة من الناخبين، أصبحوا قوة ضاغطة، حتى اضطرَّت الحكومات البريطانيَّة المتعاقبة أن تستجيب لندائهم.  وفي مستهل القرن التاسع عشر من الميلاد بات إيقاف تجارة الرق قضيَّة رئيسة في سياسة بريطانيا الخارجيَّة.  وبما أنَّه لم يتم إلغاء الرِّق ذاته إلا العام 1833م، بيد أنَّ قانون الانعتاق هذا الذي صدر العام 1807م اعتبر بداية النهاية لتجارة الرِّق عبر المحيط الأطلسي، لأنَّه شرع في تحريم السفن البريطانيَّة من حمل الرقيق في المستعمرات البريطانيَّة.  وبمجرد توقيع بريطانيا على هذا القانون الحدث العام 1807م، والذي اعتبر نقطة تحوُّل في حد ذاته، لم تنته تجارة الرق في إفريقيا من بعد.  فعلى الساحل الشرقي للقارة كان النخاسون العرب ما يزالون يصدِّرون عشرات الآلاف من الأفارقة إلى الشرق الأوسط.  إذ كانت العبوديَّة منحوتة في الثقافة العربيَّة، والشيء الأساس في مجتمعاتهم، وتتواطأ معها (أو تتغاضى عنها) الكتب الدينيَّة.  وكان مركز ارتكاز هذه التجارة هو جزيرة زنجبار، التي كانت جزءاً من الإمبراطوريَّة العمانيَّة، وكان القنصل البريطاني فيها يواجه مهمة شاقة.  هذا التأريخ المزعج المرعب يسرده ألستر هيزيل من خلال قصة جون كيرك، وهو كان دكتوراً سكوتلانديَّاً، الذي أُوكل إليه مهام إنهاء عمله كقنصل زنجبار بالإنابة في الحين الذي فيه أمست الضغوط السياسيَّة البريطانيَّة تتعاظم في سبيل وضع حد لتجارة الرق بواسطة العرب، برغم من أنَّ شركة الهند الشرقيَّة كانت ترى أنَّه من المفيد الاحتفاظ بهذه التجارة.  وخلص هيزيل من نتائج البحث المستفيض الذي عكف عليه، وفي سرد مفصَّل عن المغامرة الساخرة التي وجد فيها كيرك نفسه، إلى القول بأنَّ القادة الدينيين، رجال الهند والسياسيين باتوا يتنافسون على السلطة والمكاسب، وحاول السلاطين العمانيُّون أن يتعلَّقوا بهذه التجارة كمصدر رئيس للحصول على الثروة، وذلك في قصة مدهشة هي – في حقيقة الأمر – في طي الكتمان.(3)
بادئ ذي بدء، فقد كان أول نخَّاس إنكليزي هو السير جون هوكينز، مراقب النفقات أو الحسابات في الأسطول الملكي.  ففي الفترة الممتدة من (1562-1568م) قام هوكينز بثلاث رحلات إلى سيراليون، ناقلاً مئات الأفارقة عبر المحيط الأطلسي لكي يبتاعهم في أمريكا الأسبانيَّة.  ودخلت بريطانيا في هذه التجارة بثقلها في منتصف القرن السَّابع عشر من الميلاد، وفي منتصف القرن الثامن عشر أصبحت بريطانيا رأس الرمح في الأمم العاملة في هذه التجارة.  وفي المبتدأ ارتبط الاسترقاق – وما يزال يرتبط – ارتباطاً وثيقاً بالعنصريَّة كسبب رئيس له وأثر ناتج عنه.  ومنذ تجارة الرِّق في العشرينيَّات من القرن السادس عشر اعتقد الأوربيُّون أنَّ الأفارقة في مستو دنيا عنصريَّاً، وبناءاً على هذا الاعتقاد برَّروا الظروف غير الإنسانيَّة التي فيها وبها مُورِست هذه التجارة.  وكان الأفارقة يُختطفون ويُقبضون عليهم ويُسيَّرون إلى ساحل المحيط الأطلسي ويبتاعون للأوربيين.  ومن هناك يُنقلون بالسفن إلى المستعمرات في الأمريكتين، وفي ظروف وحشيَّة لا يمكن تخيُّلها.
وكانت تجارة الرِّق البريطانيَّة تتكوَّن من ثلاثة مراكز.  أولاً، كان التجار البريطانيُّون يبحرون إلى إفريقيا حاملين معهم الملبوسات، الأواني النحاسيَّة، الحديد، البنادق والمشروبات الكحوليَّة لتبادلها بالرَّقيق.  ثانياً، تبدأ الرحلة، المعروفة باسم "الممر الوسط"، حيث يتم نقل الأفارقة المستعبدين في ناقلات خانقة في رحلات تستغرق ستة أسابيع عبر المحيط الأطلسي إلى شمال أمريكا وجزر الهند الغربيَّة، ومن هناك يُبتاعون للاستخدام في المزارع والمصانع والمنازل.  ومن هناك يشتري التجار المواد الخام من المزارعين: القطن، البن، التبغ والسكر للاستهلاك في أوربا.  وفي بعض الأحايين يتحصَّل هؤلاء التجار على أرباح كبيرة حتى باتوا أثرياء، وازدهرت حركة النقل، الموانئ، مصانع السفن، الصناعة، والمعاملات الماليَّة.  إذ استفادت مشاريع الثورة الصناعيَّة في أوربا من رأس المال الناتج عن تجارة الرِّق، مما ساعد كثراً من الدول الأوربيَّة – بما فيها بريطانيا – للحصول على الثروة والازدهار.
على أيَّة حال، فعبر مئات السنوات خلال عهود تجارة الرِّق أظهر الأفارقة الأرقاء مقاومة شرسة ضد مسترقيهم، وذلك من خلال حركات مناهضة بسيطة مثل تخريب الآلات، الامتناع عن التعاون مع أسيادهم، تصنُّع المرض، الهروب من أسيادهم حتى تطوَّر الأمر إلى تمرُّد مسلح على نطاق واسع، مما قاد إلى إعلان أول جمهوريَّة مستقلة للسُّود خارج القارة الإفريقيَّة.  وكان هؤلاء الأفارقة يقاومون الاسترقاق ويعنفون في المقاومة حتى لو كانوا مقرنين بالأصفاد، أو تحت حراسة مسلحة على متن سفينة، لا ييأسون في انتهاز أيَّة فرصة سانحة لاستعادة حريَّاتهم المسلوبة.  ولكن كانت قليلة من هذه الانتفاضات تنتهي بحصول الأرقاء على حريَّاتهم، لكن هناك تقارير عديدة عن عبدان ثاروا وأحكموا السيطرة على سفنهم.  ففي العام 1753م قام الأرقاء على متن سفينة تدعى "أدفينشر" واستولوا عليها، وأبحروا بها نحو الشاطئ ودمَّروها تدميراً.  وإنَّ ثمة أرقاء قد فضَّلوا الانتحار عن العبوديَّة.  فحين وصل تاجر الرقيق "البريستولي" – من مدينة بريستول في بريطانيا – الذي كان يُلقَّب ب"أمير البرتغال" إلى جزيرة سينت كيتس العام 1737م، قفز حوالي 100 من الأرقاء من ظهر السفينة إلى البحر، ولكن تمَّت إعادة أغلبهم إلا 33 منهم الذين ماتوا غرقاً.  إذ جعلت هذه الصنوف من المقاومة ملاك العبيد في شك مريب فيما أنَّهم بقادرين على إرسال رقيقهم إلى العمل في المزارع أو المصانع دون حدوث أي شكل من أشكال العصيان، الذي قد لا يُحمد عقباه.
أما فيما يختص بالعصيان المسلَّح فقد أثبت العبدان في جزيرة جامايكا بأنَّهم أشداء أقوياء، ولم يستكينوا، بل أقدموا على المقاومة العنيفة في سبيل الانعتاق والتحرر من ملاك المزارع.  وكانت جزيرة جامايكا رائدة العصيان المسلَّح، وبخاصة مما لديها من أحراش وجبال جعلتها أرضيَّة مناسبة لخوض حرب عصابات ضد المستعمرين (بكسر الميم) المسترقين (بكسر الرَّاء).  فحين آلت تبعيَّة الجزيرة من الأسبانيين إلى البريطانيين العام 1665م فر نحو 1.500 عبد إفريقي إلى الجبال وشكَّلوا مجتمعات مستقلة.  إذ استطاع هؤلاء المنعزلون – كما باتوا يُعرفون – أن يشنوا حروبات ناجحة ضد البريطانيين، وكانوا مختبئين في أماكن ليس من السهل الوصول إليهم، مستخدمين بنادق مسروقة، وصخور وحجارة في هجمات مباغتة ضد الجيش البريطاني في الجزيرة.  وبعد 19 عاماً من حرب عصابات اعترفت الحكومة البريطانيَّة بحريَّتهم العام 1739م، ومنحتهم أرضاً.  ثم نشبت حرب ثانية العام 1795م كردة فعل للمعاملة السيئة التي كان الأفارقة يتلقونها من حاكم الجزيرة الجديد، حيث استسلم بعض المتمرِّدين ووضعوا أسلحتهم مقابل اتفاقيَّة سلام جديدة، ولكن الحاكم قد نقض العهد، وضنَّ بوعده.  وعليه، تمَّ القبض على المتمرِّدين ونُقلوا إلى المستعمرة البريطانيَّة في سكوتلندا الجديدة بكندا.
وفي يوم 23 آب (أغسطس) 1791م انتفض الأفارقة العبدان في المستعمرة الفرنسيَّة في جزء من جزيرة سينت دومنيك، حيث استولى المتمرِّدون على السلطة وألغوا الرِّق، وهزموا القوات الفرنسيَّة والبريطانيَّة التي أرسلتها الحكومتان الفرنسيَّة والبريطانيَّة لاستعادة السيطرة على الجزيرة بقوَّة السِّلاح.  وكان قائد التمرُّد هو توسانت لوفيرتور، وكان عبداً محرَّراً علَّم نفسه بنفسه.  إذ أعلن تحرير كل العبدان، وكان هذا الانعتاق أول تحرير للعبدان في تأريخ المجتمعات يأتي من العبدان أنفسهم، وليس عن طريق منحة من أسيادهم.  وفي العام 1801م أصدر لوفيرتور دستوراً جديداً، ولكنه واجه تهديداً من نوع جديد في خلال العام، وذلك من نابليون بونابرت، الذي أرسل قوَّة عسكريَّة قوامها 1.200 جنديَّاً فرنسيَّاً لإخماد الثورة.  إذ خدع الفرنسيُّون لوفيرتور باجتماع مزعوم، وما أن جاء إلى هذا الاجتماع حتى اعتقلوه ومات في السجن العام 1803م.  مهما يكن من أمر، فقد استطاع أحد مساعديه، وهو ديسالينس، أن يطرد القوات الفرنسيَّة من الجزيرة.  وفي الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1804م أعلن ديسالينس استقلال هذه الجزيرة باسم جديد هو هاييتي، وكانت هذه الجزيرة هي الدولة الثانية في نصف الكرة الأرضيَّة الغربيَّة بعد الولايات المتحدة الأمريكيَّة تنال استقلالها.  وكذلك قامت انتفاضات مسلحة متقطعة في كل من سينت فينسينت، قرينادا، توبيغو، باربيدوس وسينت لوثيا.
أيَّاً كان من أمر الاسترقاق والانعتاق، فالمسرحيَّة "الفيتوريَّة" تجسِّد المأساة التي راح الشعب الإفريقي يعيشها في ذلك الرَّدح من الزَّمان.  وانطلاقاً من هنا واضح أنَّ الفيتوري إنَّما كتب هذه المسرحيَّة ليقول نظرته إلى البشر الذين يجدون أنفسهم – أو لنقل تقذف بهم أنفسهم – ذات يوم في تورُّط في أفعال شريرة تخرجهم عن الإرادة الطيِّبة، وتنجرف بهم عن البعد الإنساني والموقف الأخلاقي معاً.  وقد نجح الفيتوري أيَّما النجاح في طرح الكارثة الإنسانيَّة إيَّاها بعبارات عابقة بالمرارة والغضب في الآن نفسه.
غير أنَّ ما لا بدَّ من الإشارة إليه هنا هو أنَّه إذا كان من الصعب التوقُّف عند كل عمل فني أو مجموعة الأعمال الأدبيَّة للفيتوري، إلا أنَّه اختار قضيَّة إفريقيا من وحي رحلة ثقافته التي بدأت "من مناطق إقليم بحر الغزال في جنوبي السُّودان، من حضن جدته "زهرة" العجوز الإفريقيَّة، التي سكبت في روحه خيالات من آفاقها السريَّة الغامضة، بما كانت تبث في شعوره من حكايات وأساطير من عقائد وتصورات رائعة مدهشة ومخيفة من عالمها، الذي كانت تعيشه في أعماقها فانسكبت كلها في شعوره وكوَّنت لديه نواة ثقافة تابع شاعرنا رحلتها فيما بعد."(4)  وبعد أن شبَّ الفيتوري شرع يسكب هذه الثقافة الإفريقيَّة في حياته الإجتماعيَّة والسياسيَّة حيناً، ويرسلها شعراً ونثراً ومسرحيَّة في حياته الأدبيَّة حيناً آخر.  إذ أسهم الفيتوري بإنتاج شعري يتناول الإنسان على وجه العموم، والإفريقي على وجه الخصوص، وذلك في كفاحه ونضاله، في مصيره وحريَّته وكرامته، في حبه وثورته.  ولعلَّ مسرحيته عن "ثورة عمر المختار" في ليبيا، والتي كتبها العام 1974م تمثِّل واحدة من هذا العمل الثوري المسرحي.  فقد تغنَّى بإفريقيا شعراً في "أغاني إفريقيا" العام 1955م، وفتن بهذه القارة فتوناً وعبَّر عن هذا الود بالكلمة الرقيقة والحس المرهف في "عاشق من إفريقيا" العام 1964م، ودافع عنها حباً وولهاناً، حتى بات يناجيها ويناديها ويشتاق إليها في "أذكريني يا إفريقيا" العام 1966م، وفي أعمال أخرى كثيرة لا سبيل لنا إلى إحصائها.


المصادر والإحالات

(1) ديوان محمد الفيتوري، دار العودة، بيروت، 1979م، الصفحات (224-226).
(2) Quoted in Bombay Government to the Select Committee, 31 August 1841.  PP on Slave Trade. FO 54.15. in Hazell, A, The Last Slave Market; Constable and Robinson Ltd: London, 2011, Page: 21.
(3) Hazell, A, The Last Slave Market; Constable and Robinson Ltd: London, 2011; and Metro, Wednesday, June 22, 2011.
(4) ديوان محمد الفيتوري، دار العودة، بيروت، 1979م، الصفحات (45-46).

 

آراء