البحر الأبيض المتوسط … مقبرة جماعية بلا شواهد!*

 


 

 

مهما أسعفتنا البلاغة والكلمات ، يظل المرء عاجزاً عن استيعاب المأساة الكبرى التي تشهدها مياه البحر الأبيض المتوسط وهي تبتلع الآلاف من شباب إفريقيا وبعض البلدان العربية ، وهم يتكدسون على  مراكب الموت المتهرئة ،  وينتهي بهم الأمر غرقاً في البحر ، فيما عدا قلة قليلة تنجو من الموت ولكن تظل مشدوهة ويطاردها شبح المأساة فيما تبقى لها من حياة. ويكفي أنه خلال شهر(أبريل/نيسان)  وحده ، شهدنا أكثر من ألف من الأرواح تزهق وتبتلع أجساد أصحابها  مياه البحر الأبيض المتوسط ومعظمهم قد هوى إلى عمق أربعة آلاف من الأمتار واستقر هناك الى الأبد . وتظل مياه البحر مقبرة جماعية بلا شواهد أو علامات. وهؤلاء الضحايا لم يكونوا سوى اشخاص دفعهم اليأس المفرط من الحياة للهرب من الحروب او الفقر المدقع في اوطانهم لاهثين وراء سراب حياة وردية وادعة في احد البلدان الاوروبية ويسيطر عليهم منطق مختل يزين لهم ان حياتهم في بلدانهم او موتهم في رحلة المغامرة عبر البحر هما في المحصلة عندهم سواء !! ومن ذلك ما روي عن أحد المغامرين الصوماليين عندما قال :  " نحن أتينا من بلاد دمرتها الحروب والمجاعات وانعدام القانون ، لذلك فإن وصولنا إلى أي مكان آخر يشكل فرصة ذهبية بالنسبة لنا ".!!
والمشكلة الكبرى هنا أن هؤلاء الضحايا لا يبادرون من ذواتهم بركوب المغامرة البحرية القاتلة هذه. فهم ضحايا عصابات محترفة وموغلة في ممارسة جريمة الاتجار في البشر عبر حدود بلدان كثيرة. ومن المؤسف حقاً ان هذه العصابات قد أصبحت من القوة والحيلة والنفوذ بمكان يتفوق كثيرا على مقدرات الدول وذلك لأن الاتجار في البشر عبر الحدود يدر على هذه العصابات الملايين من الدولارات ، مما مكن القائمين عليها من تسليك أمورهم ورشوة السلطات في العديد من البلدان التي يخرج منها المغامرون أو تلك التي يعبرون أراضيها قبل ركوبهم البحر. كما أن هناك عدداً من المليشيات المسلحة في بلدان الأصل وبلدان العبور ، وعصابات محلية أخرى تدخل ضمن هذه التشكيلة المعقدة ، لتوصيل الضحايا الى شاطئ  البحر المتوسط الجنوبي ، وحشرهم وتكديسهم في مراكب صيد هالكة ، والهرب منهم في عرض البحر وتركهم لمصير مجهول ينتهي في معظم الأحيان بالغرق في منتصف الطريق . وهكذا فلا هم طالوا مقصد أحلامهم الموعودة في أوروبا ولا هم  عادوا الى أوطانهم ، برغم عنت الحياة فيها ومآسيها. وقد وجدت عصابات الاتجار في البشر هذه فرصة ذهبية بانفراط الأمن وانتشار الفوضى في بعض بلدان الشمال الإفريقي ، وأصبحوا يحشدون ضحاياهم حشداً وجرهم عبر الحدود الى شاطئ البحر المتوسط وأصبحت نقطة انطلاقهم المفضلة من الشواطئ الليبية ، مستغلين معاناة ليبيا وظروفها التي أدت إلى ما هي فيه من مكابدة وعدم القدرة على السيطرة على مداخل حدودها ومخارجها في الوقت الراهن.
ولنلقي الضوء على حجم هذه التجارة في البشر عبر البحر المتوسط  ، والتي يسميها البعض ، تجارة الرقيق في القرن الحادي والعشرين ، ننوه هنا الى ان عدد الذين عبروا البحر من ليبيا الى اوروبا في العام الماضي (2014) قد بلغ 170 الف شخصا ( معظمهم من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء)  والذين لقوا حتفهم غرقاً فقد بلغ عددهم ما يقارب الأربعة آلاف شخصا . أما بالنسبة للعام الحالي (2015) فقد بلغ عدد العابرين حتى الآن حوالي 19 ألف شخص ،  وانتهت حياة أكثر من 1600 مغامر غرقاً . والأدهى والأمر أن بعض التقديرات تتحدث عن 200 ألف شخص سيحاولون العبور حتى نهاية هذا العام. بينما ذهبت الحكومة الإيطالية إلى أبعد من ذلك بالحديث عن 500 ألف شخصاً سيحاولون العبور من الشواطئ الليبية هذا العام !! وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه ، فيمكن أن يفقد أكثر من خمسين ألف مغامر حياتهم غرقاً بنهاية العام ، ولا يدري أحد بالتحديد ، مصير الباقين الذين سينتهي بهم الأمر في معسكرات إيواء في أوروبا أو يعود بعضهم الى بلادهم وهم ملومون محسورون. وفي ظل هذه الأعداد المهولة من الضحايا ، وفي ظل هذه الأموال الطائلة التي تحصل عليها عصابات الاتجار في البشر وتهريبهم ، يمكننا أن ندرك حجم هذه المأساة الضخمة . ويمكننا أيضاً أن ندرك أنها أصبحت إخطبوطا هائلاً ليس من السهولة أن يتخلص العالم منه. ولذلك فإن أجراس الإنذار قد دقت في كل أنحاء بلدان الإتحاد الاوروبي والذين أصابهم الفزع من التصاعد المذهل لحجم الظاهرة والأعداد المنتظرة للانقضاض على أوروبا من شواطئ ليبيا.
لقد ظلت إيطاليا هي أكثر البلدان الأوروبية تأثراً بموجة العبور غير القانوني هذا ، حيث ترسو معظم المراكب الهالكة على شواطئ جزيرة لامبيدوسا أو تقوم السفن الإيطالية بالاستجابة لنداءات الإنقاذ من المراكب  التي تعج بالعابرين المغامرين ، وهم يأتون من بلدان شتى ، أهمها إريتريا وإثيوبيا والصومال ونيجيريا وغانا ومالي وجامبيا والسنغال وبنغلاديش وسوريا ( في الغالب أنهم يدخلون الشواطئ الليبية من الحدود المصرية). وتحتج الكثير من الحكومات في أوروبا بأن هؤلاء المغامرين يسعون إلى فرص حياة اقتصادية أفضل ، ولكن بطرق غير قانونية ،وهو الأمر الذي جعل هذه الدول تبحث في وسائل منع هذه الموجات من العبور الى شواطئها وحدودها . وتظل مسألة الواجب الإنساني على هذه الدول أن تنقذ الذين تتعرض المراكب التي يحشرهم فيها المهربون ، لخطر الغرق. وبالطبع بعد إنقاذ من يمكن إنقاذه ، تظل المشكلة قائمة  لأن معظم العابرين لا يصنفون في عداد اللاجئين الذين يتوجب حمايتهم ، وبرغم ذلك تصعب محاولات إعادتهم إلى بلدانهم أو حتى البلدان التي عبروا منها إلى أوروبا.
هناك العديد من القوانين التي تحاول ردع الاتجار في البشر سواء على المستويات الوطنية أو على المستوى الدولي. ولا شك أن هذه الظاهرة ، لا تخص بلداً واحداً ، سواء في منشئها أو في مآلاتها . ولذلك لا بد من معالجتها بأسلوب شامل وبتعاون كل البلدان والمنظمات المعنية .  وحقيقة الأمر أن الكثير من الدول وضعت قوانين بعقوبات قصوى ، إلا ان العديد من الثغرات تحول دون إعمال تلك القوانين. أما على المستوى الدولي ، فهناك البروتوكول الخاص بمكافحة الاتجار بالبشر لعام 2000  والذي صدقت عليه 117 دولة وهو يلزم الدول المصدقة عليه بمنع ومكافحة الاتجار بالبشر.
وفي تقديري أن جريمة الاتجار  في البشر قد بلغت درجة خطيرة ومهددة لحياة الآلاف من الشباب والنساء والأطفال ، سواء كان ذلك بدفع الضحايا عبر البحار ليلقوا حتفهم أو الدفع بهم عبر الحدود البرية. وربما آن الأوان للمجتمع الدولي أن ينظر في إضافة هذه الجريمة إلى قائمة  "الجرائم ضد الإنسانية " وأن تتولى المحكمة الجنائية الدولية أمر التعامل مع مرتكبيها .
لقد اجتمعت دول الإتحاد الأوروبي مؤخراً على مستوى القمة ، في محاولة منها لتوحيد سياساتها تجاه أزمة عبور البحر المتوسط ، وقد عبرت هذه الدول عن أسفها لموت الآلاف من جراء ممارسات عصابات الاتجار في البشر . و دارت المداولات حول حجم المأساة وفقدان آلاف الأرواح وبنفس القدر ، العمل على اتخاذ الاجراءات الكفيلة بوقف هذه الظاهرة. وبالطبع فان الإجراءات التي تسعى المجموعة الأوروبية الى اتخاذها ،  لن تكون كافية ، لأن هناك العديد من الأسباب تتعلق بالحروب الأهلية والمجاعات والفقر المدقع وانفراط عقد السلطات الحاكمة ، وغيرها من الأسباب التي تدفع بالشباب والأطفال والنساء الى هذه المغامرة. وعليه فإنه لا بد من انعقاد قمة دولية في نيويورك أو جنيف أو فيينا لوضع الحلول الشاملة لهذه الظاهرة ووضع برنامج دولي شامل  ( يهتم بالجوانب الإنسانية والاقتصادية ) ويعنى بقضايا دول المنشأ والدول التي يقصدها هؤلاء المهاجرون على حد سواء.
 
*نقلا عن الراية القطرية.

agubara@gmail.com

 

آراء